الهدف الأساسي من حروب اسرائيل هي التأكيد على هيمنتها العسكرية على المنطقة ويكمن الردع من ناحية إسرائيل فحسب في قلب العقيدة الإسرائيلية الأمنية فهي تريد أن تحظى بالحرية الكاملة لتضرب دون أن تلقى أي رد بالمقابل وهي تعتمد على قوة متغطرسة لحماية نفسها وترفض أي نوع من أنواع الردع المتبادل وتعارض أي توازن إقليمي للقوة قد يجبرها على التنازل والاعتدال في أفعالها. والشيء الجوهري في المشروع الإسرائيلي هو أن إسرائيل لم تقبل في أي يوم من الأيام أن تكون جزءاً من هذه المنطقة، ولم تكتف بالمطالبة بأن يعترف بها دولة لليهود فقط، وإنما الإقرار بها دولة متفوقة على غيرها لشعب متفوق على غيره وهذا مشروع عنف لا ينتهي. ولقد خلقت إسرائيل كحل نهائي للمسألة اليهودية في أوروبا، لكنها خلقت مشكلة لا نهاية لها للفلسطينيين والعرب حيث تترك فكرة الحل النهائي كشبح موت في هذه المنطقة وفي العالم كله. ومعلوم أن لديها صيغتها الخاصة من الحل النهائي قائمة على تسفير الفلسطينيين خارج وطنهم أي الترانسفير وهو ما يعادل إبادة سياسية للشعب الفلسطيني.
وأن من أهم تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة ليس القضاء على المقاومة فحسب ولكن أيضاً القضاء على حلم بناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس، لكي يصبح الخيار الأردني الخيار الأكثر واقعية من وجهة النظر الإسرائيلية حيث كان مؤكداً في حال انتصرت إسرائيل في الحرب أن يؤدي ذلك إلى إلغاء خيار حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية. فإصرار الحكومات الإسرائيلية المتتالية على إقامة إسرائيل الموسعة من خلال ضم التكتلات الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وإكمال بناء الجدار الأمني، والاحتفاظ بالسيطرة على غور الأردن وفيما إذا استطاعت الحكومة الإسرائيلية مستقبلاً من تحقيق هذه الأهداف بتأييد من الولايات المتحدة سوف يؤدي إلى منع تحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية والفعلية .وإسرائيل ترفض حل الدولة الواحدة حيث الشعوب متساوية وحيث ترتكز الديمقراطية ، بدلاً من ذلك يريد الإسرائيليون من العالم أن يبارك إسرائيل كدولة محض يهودية حيث ليس لأي مواطن آخر مواطنية متساوية . وبعض القادة الإسرائيليين يؤمن أن حل الدولتين لن يعالج المشكلة الديمغرافية داخل دولة إسرائيل لذلك يرفضونه ويرغبوا بجعل الأردن الوطن البديل للفلسطينيين وأن يدفعوا فلسطيني إسرائيل إلى تلك الدولة بأية وسيلة ممكنة.
والمشروع الإسرائيلي القديم ـ الجديد لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، تحول مؤخراً، إلى خطط يجري تنفيذها بالفعل، سواء على المستوى الاستراتيجي بمنع قيام الدولة الفلسطينية وتحويل الضغط الدولي باتجاه الأردن، أو على المستوى الميداني بمواصلة سياسات الحصار والتهجير لأبناء الضفة الغربية باتجاه الأردن، أو على المستوى السياسي والإعلامي بشن حملة منظمة ضد المملكة من أجل تجنيس المزيد من المهجرين الفلسطينيين، وفرض ما يسمى المحاصصة السياسية في ظل ما يخطط له من أغلبية ديموغرافية فلسطينية. كما أن هذه الإجراءات الإسرائيلية تشكل خطراً داهماً على مستويين:
الأول : حرمان أبناء الضفة المقيمين في الأردن من حقهم في العودة والإقامة في الضفة، بحجة أنهم حاصلون على جنسية أخرى.
الثاني : تهجير المزيد بحجج مختلفة وذرائع واهية وكلها تصب في خانة مشروع الوطن البديل.
أن قرار فك الارتباط لعام 1988، والناشئ أصلاً عن طلب منظمة التحرير الفلسطينية وقرار القمة العربية لعام 1974، هو قرار مفصلي في النظام السياسي الأردني، من حيث انه أنهى وضع والتزامات الوحدة مع الضفة قانونياً وإدارياً وسياسياً. لذلك لا بد من دراسة كيفية دسترة قرار فك الارتباط وإصدار القوانين اللازمة لتطبيقه نصاً وروحاً، بما في ذلك إنهاء تداخل المواطنة مع الضفة الغربية وتداخل النقابات والهيئات والأحزاب .فمنذ فك الارتباط رسمياً بين الأردن والضفة الغربية أصبحت مصلحة الأردن الأساسية والحيوية تقضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة والاستقرار.
ولقد جاء قرار فك الارتباط القانوني والإرادي مع الضفة الغربية مؤاتياً ومناسباً بعد استلام منظمة التحرير مسؤولية تمثيل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وإعلان المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر الذي عقد في الجزائر في عام 1988عن قيام دولة فلسطين واعترف أكثر من 100دولة في العالم بهذه الدولة وتم فتح العديد من السفارات الفلسطينية في تلك الدول وساهم هذا التطور في توطيد شرعية الكيانية الفلسطينية وإبرازها. إلى أن جاء الاعتراف "الإسرائيلي" بالمنظمة وبالوجود الفلسطيني بشكل رسمي نتيجة للاعتراف المتبادل بين المنظمة والحكومة الإسرائيلية بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو ليضع حد للتجاهل الإسرائيلي للوجود الفلسطيني وللمحاولات الإسرائيلية المتكررة في إيجاد بديل عن منظمة التحرير.
وفي حال لم تكن هناك عملية تفاوض جدية فلسطينية إسرائيلية مرتكزة على توازن إستراتيجي عسكري بين الطرفين بالإضافة إلى إشراف دولي ملائم فلن تقوم دولة فلسطينية متكاملة بل سيكون هناك "غيتوفلسطيني" وكيان فلسطيني مبعثر وسيجد الفلسطينيون أنفسهم إمام خيارين :
1- إما الخضوع ولفترة طويلة غير محددة للاحتلال الإسرائيلي المباشر وغير المباشر.
2- إما الهجرة للأردن، مما قد يمهد لقيام دولة فلسطينية بديلة في الأردن.
وفي حال أعتمد الإسرائيليون هذه الخيارات لتسهيل ضم أراضي واسعة من الضفة الغربية إلى الدولة اليهودية وإذا ما سقط خيار الدولة الفلسطينية المستقلة فسيكون هناك خطر جدي من حل المشكلة الفلسطينية على حساب الأردن مما يقلب المعطيات وموازين القوى جذرياً في الأردن والمنطقة إذ أن الحصول على نصف أو حتى أقل من أراضي الضفة الغربية مع كامل سكانها سيكون بمثابة انتحار فانضمام نحو 2.5 مليون فلسطيني من سكان الضفة إلى الأردن سوف يؤدي إلى تغيير التوازنات في المملكة والمنطقة بأسرها.
أن هاجس الخيار الأردني هو السيناريو الأسوأ وما يعزز هذه القراءة هو صدور الكثير من المواقق الأمريكية والإسرائيلية التي تتحدث عن خيار الدول الثلاث باعتباره الأفق الوحيد الممكن لحل القضية الفلسطينيةوالدول الثلاث يقصد بها إسرائيل وإلحاق الضفة بالأردن وغزة بمصر. ولا بد على الأردن تنويع سلة الخيارات الإستراتيجية والخروج من حقبة الخنادق الإقليمية واستعادت الهدوء في العلاقة مع سورية والعودة إلى بناء علاقات متينة مع كل أطياف العمل السياسي في فلسطين وتخفيف حدة التوتر مع إيران أو المقاومة في لبنان فالاستدارات الهادئة في رهانات الأردن الخارجية ضرورية وملحة لكن دون أن يخرج ذلك أو يكون على حساب اصطدام الأردن بصلاته الإستراتيجية مع السعودية ومصر.
والعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة كان بمثابة المؤشر في السياسة الأردنية إيذاناً بالراهانات الإستراتيجية الأردنية القديمة فهي وإن لم تلبي طموح الأردن قيادتاً وشعباً نتيجة شح الإمكانيات المتاحة ووهن الواقع العربي فإنها على الأقل كانت أقل مجازفة وأكثر أماناً ومحاولة نوعية لنقل الأردن لبر الأمان على الرغم من كل الصعوبات والإشكاليات التي تحيط بمنطقتنا العربية.
الميزان الديمغرافي لا يعمل لمصلحة إسرائيل لأنّ الانفجار السكاني الفلسطيني سيظل كفيلاً بتوفير القلق الوجودي الدائم لنظريّة الغالبيّة اليهوديّة. فالإحصاءات السكانيّة تتوقع زيادة سكانيّة يهوديّة في إسرائيل بنسبة 32% خلال ربع قرن مقبل بالمقارنة مع زيادة فلسطينيّة بنسبة 218% ضمن الحقبة الزمنيّة ذاتها. والإستراتيجيّة الإسرائيليّة تدور في فلك الإجابة على السؤال التالي :
كيف يمكن لإسرائيل مواجهة الخطر الديمغرافي العربي داخل حدود الدّولة
الإسرائيليّة وفي الأراضي الفسطينيّة التي تقع تحت سيطرتها منذ العام 1967؟
إذا كان السّلام خياراً متوقعاً للحدّ من هذا الخطر، إلا أنّ الإستراتيجيّة الإسرائيليّة تضع الأولويّة لخيار المواجهة ولكافة الاحتمالات من منطلق أنّ إسرائيل تتبنى خياراً على حساب خيار وفقاً لمبدأين إستراتيجيين يمكن تبني خيار السّلام في مواجهة التحدّي الخارجي، ولكن التحدّي الفلسطيني أو العربي داخل إسرائيل لا يمكن مقاربته إلا من خلال مواجهته.
ويأتي ذلك عن طريق المضايقة الاقتصاديّة، التهجير ضمن فلسطين التاريخيّة، إعادة التوطين في القرب من المدن الإسرائيليّة الكبرى كاستخدام أيدي عاملة رخيصة، نزع الجنسيّة والاكتفاء بحق الإقامة، الطرد كعلاج وحل نهائي لتعزيز الأمن القومي الإسرائيلي وضمان الملكيّة القوميّة على الأرض. ومخطط تكثيف الاستيطان يستهدف تكريس الاحتلال الإسرائيلي الحالي في الضفة وجنوب غزة والجولان، واستكمال تهويد الأراضي في هذه المناطق بما يخلق أمراً واقعاً يصعب تغييره في المستقبل، أو حتى التفاوض بشأنه. وبحيث تشكل هذه المستوطنات أرضاً رحبة لاستيعاب مزيداً من المهاجرين اليهود، وبما يخفف وطأة المشكلة الديموغرافية التي تعاني منها إسرائيل، ويخلق حافزاً للتدخل العسكري الإسرائيلي مستقبلاً ضد المناطق العربية، حتى في حالة انسحاب القوات الإسرائيلية منها في إطار التفاوض حول مستقبل الأراضي المحتلة، كما هو الأمر في مدينة الخليل والقدس الشرقية . ويرتبط بمخطط الاستيطان مخطط آخر هو مخطط الترانسفير والذي يسعى إلى تفريغ المناطق المحتلة التي تقرر ضمها لإسرائيل من سكانها العرب بأساليب الترغيب والترهيب، وبما يسهل ضمها لإسرائيل.
قد نكون أمام إعلان إسرائيل من جديد بصيغة معدّلة تكون أقل مساحة ممّا حققته إسرائيل وارادتها بفعل حروبها وتوسّعها واستيطانها كمجتمع مهاجرين. ولكنها بكل تأكيد ستكون أكثر يهوديّة في سياستها وعدد سكانها، وهذا ما يفيد طرح إشكاليّة الديمغرافيا. ويبدو أنّ الإسرائيليين الذين رضخوا للجغرافيا، ولو مؤقّتاً، وقبلوا مرغمين على الانكفاء عن أرض فلسطينيّة، يريدون تفويض أنفسهم عن المستوى الديمغرافي من خلال إخلاء إسرائيل اليهوديّة في حدودها بعد انسحاب الحدّ الأقصى من العرب.
إنّ إشكاليّة الديمغرافيا في المساحة بين النهر والبحر تعني أنّ هناك سيولة في ترسيم الحدود وحركة السكان بين الماءين. الترسيم يحمل لأوّل مرّة حركة باتجاهين، تحريك الخط الأخضر"حدود الرّابع من حزيران" شرقاً بحيث تضمّ إسرائيل نهائياً مراكز استيطانيّة كبيرة، مثل ضمّ إسرائيل الأحياء الفلسطينيّة حول القدس مثلاً، أو غرباً بحيث يتمّ التخلص من تجمّعات فلسطينيّة داخل إسرائيل متاخمة للضفة الغربية. والمسألة الديمغرافيّة تدخل الآن في أولويّات الأمن القومي الإسرائيلي فليس صدفة أن تبدي إسرائيل استعداداً للبحث في مسألة اللاجئين من زاوية التعويض المالي وذلك ليس نتيجة شعور مفاجئ بالمسؤوليّة التاريخيّة عن تهجيرهم، بل رغبة في اتقاء شرّ هذا الملف الديمغرافي. كما أنّ قابليّة إسرائيل للاعتراف بتقسيم القدس ليس نابعاً من اعترافها بمركزيّة القدس للفلسطينيين والعرب بمقدار الرّغبة لديها في إخراج أعداد أخرى من الفلسطينيين خارج حدود الدولة اليهودية.
وتهجير الفلسطينيين لا ينحصر في سكان المناطق المحتلة لعام1967بل تشمل المخططات الديمغرافيّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل نفسها وهنا يتمّ تداول جملة من الأفكار السّاعية إلى الهدف ذاته، وهو تفريغ إسرائيل الجديدة من سكانها الفلسطينيين عبر تعديلات حدوديّة غربي الخط الأخضر. فمثلاً رسم الحدود غربي وادي عمارة في منطقة المثلث المتاخمة للضفة الغربية يتمّ من جانب واحد بإلحاق150ألف فلسطيني في إسرائيل بمناطق الكيان الفلسطيني الذي سينشأ.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمثل الإلحاح الإسرائيلي باعتراف العرب بيهودية الدولة العبرية كشرط أساسي لإطلاق عملية التفاوض وفقاً لنتائج مؤتمر انابوليس2007 هذا الإلحاح الإسرائيلي يعبر في العمق عن ارتفاع منسوب الهواجس والقلق الوجودي الذي بدأ يطفو على السطح الإسرائيلي تحت وطأة المتغيرات العاصفة التي تشهدها إسرائيل من عامل النمو الديمغرافي في إسرائيل بالإضافة إلى نتائج هزيمة إسرائيل في حرب تموز 2006 على لبنان وحرب غزة 2009 . ولا بدّ من الإشارة إلى أن إسرائيل تعرّف نفسها كدولة يهودية وهي ملك لأشخاص تعرفهم السلطات الإسرائيلية كيهود وبغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه. فالمعضلة الأساسية الأولى التي تواجهها إسرائيل منذ انتصاراتها السريعة والمفاجئة في حرب 67 تتمثل في إيجاد الصيغ العلمية الكفيلة بالاحتفاظ بالأراضي المحتلة، ودمجها في فضائها السيادي لغايات أمنية وإستراتيجية ودينية، مع تفادي المخاطر الجسيمة المنجرة عن منح المواطنة لسكانها.حيث يؤدي ذلك إلى خلق دولة مزدوجة القومية يصل فيها العرب نسبة 35% من السكان وسيصبحون بعد عقود أغلبية داخل إسرائيل.
صحيفة العالم \ بغداد \ 26-5-2010 http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=9572
نتيجة الانخفاض في الإيرادات العامة للدول سوف ينعكس ذلك سلباً على التقديمات الاجتماعية بكافة أشكالها بالإضافة إلى فرض ضرائب تطال الشرائح المتوسطة وما دون، وما ينتج عن ذلك من انقسامات داخل المجتمعات قد تكون بداية لصرعات لا يعرف أحد نتائجها أو آثارها على الصعيد السياسي والاقتصادي. ومن المنطقي أن تجري الشركات وراء كل دولار تستطيع الحصول عليه، ومن الطبيعي أن الشركات لا تعطي شيئاً مقابل لا شيء، فالمال يشتري الفعل ويشتري النفوذ. والحكومات في كثير من جوانب هذه القضية تتحمل المسؤولية واللوم والمال الذي ينفق على الشركات على شكل إعفاءات أو حوافز هو المال الذي يغدو غير متوافر للخدمات العامة. وجمع الضرائب هو أكثر حقوق الدولة القومية مبدئية وهو الوسيلة لتصحيح عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، فقد تكون الشركات هي التي تحدد قواعد اللعبة، ولكن الحكومات تمضي بعيداً في اجتذاب هذه الشركات إلى بلادها أو إبقائها فيها.
الإشكالية الأساسية تكمن في الدافع الذي يبرر الدعم المالي والضرائبي الذي تمنحه الحكومات للشركات؟ وإذا كان هذا الدعم بحجة تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل فما هو السبب الذي يحول دون تخصيص هذه الموارد المالية الهائلة لخلق فرص العمل مباشرة وليس عبر النمو الاقتصادي؟ ولماذا لا يتم تقديم هذا الدعم للمرافق العامة مباشرة، بحيث يتم تمكين الفئات المحدودة الدخل من تكوين ثروة ورفع مستوى المعيشة مباشرة، أو استثمارها في مجالات تخدم الأجيال القادمة؟
فالمنافسة على تخفيض الضرائب وتقديم الحوافز تؤدي إلى تخفيض إيرادات الدول التي تنعكس سلباً على متطلبات التكافل الاجتماعي، ومقولة الضرائب الجمركية تخفض الإيرادات الحكومية مقولة قابلة للنقاش لأن الضرائب الجمركية تحمي المشاريع الداخلية وتصبح الحكومات ليست مضطرة لتقديم المنح والإعفاءات الضريبة. إذ لا بد من إيجاد تشريعات داخلية تواجه ظاهرة التهرّب الضريبي بمعناها الاقتصادي على المستوى الدولي وأن لا يقتصر الأمر على تشريعات دولية ثنائية أو إقليمية لمنع الإزدواج والتهرّب الضريبي وكذلك اتخاذ إجراءات تحول وتحد من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
الدعم المقدم للشركات من خلال الأبحاث العلمية ونقل المعرفة والتكنولوجيا، يدخل في إطار استراتيجية الدول والبعد العلمي دخل إلى التوازنات الاستراتيجية الأساسية بين الدول، وتشير إلى ذلك الإخفاقات المتواصلة في محاولات نقل التكنولوجيا والمعرفة بين الدول المتقدمة والدول النامية. ويعتبر مشروع مكتبة غوغل المطروح منذ العام 2004نموذجاً لتلك الصراعات المتشابكة. حيث ظهرت ردود فعل من قبل السياسيين والخبراء والمؤرخين على مشروع مكتبة غوغل من زوايا مختلفة، وهناك من اعتبر أن هذا المشروع يهدف إلى هيمنة اللغة الانجليزية والمصالح الأمريكية على العقول عالمياً، وهنالك مَن طالَب بردٍ استراتيجي من قبل فرنسا وأوروبا على مشروع مكتبة غوغل تحت شعار رقمنة فرنسا وأوروبا لمواجهة ثقل الحضور الأمريكي علمياً في الفضاء الافتراضي.
يجب على الدول تحمل مسؤولية السياسات التي أقرتها بوعي وإرادة، فهي التي توقع الاتفاقيات وهي التي تسن القوانين، وهي التي تلغي الحواجز والحدود وتمنح الإعفاءات وتقدم المساعدات، متمثلة بحكومات ومجالس تشريعية ورجال حكم، سواء في الدول الغنية أو الفقيرة. وهذا التناقض أيضاً قائم على صعيد السياسية الحمائية المتبعة من قبل الدول الغنية تحديداً في ظل العولمة، فهل تلك السياسات تخدم مصلحة الشعب أم تخدم مصلحة الشركات؟ وهل هناك تحالف بين الدول والشركات؟ أم قد يكون هنالك تقاطع مصالح يخدم استراتيجية الدول على الصعيد القومي؟
تلك السياسات تؤكد نظرية وجود دور فعال للدول وبأنها تسيطر وتفرض نفسها متى تشاء، وعالمياً يمكن القول بأن هناك منهجية لمنطق الاحتكارات قائم على قاعدة الشرعية الدولية المتمثلة بمنظمة التجارة العالمية وأن قانون حماية حقوق الملكية الصناعية والفكرية في مكاناً ما قد يخدم الاحتكارات وخاصة ما هو لمصلحة الشركات عبر الوطنية.
فيما يتعلق بالسياسة الداخلية يمكن اعتبار تلك السياسة قائمة في إطار خضوع الدول لمصلحة الشركات وهو تحليل يتوافق مع نظرية الهيمنة المطلقة لتلك الشركات. لكن سواء كانت تلك السياسة تخدم مصالح أفراد أو المصلحة العامة أو تخدم مصالح الشركات الكبرى فأين الخلل في ذلك إن كانت تلك السياسات تأتي لخدمة الداخل ـ بغض النظر مَن هو المستفيد ـ في وجه الخارج من الدول؟
من الناحية العسكريّة الإستراتيجيّة لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الوقائع السّياسيّة والجغرافيّة من جهة والقدرات العسكريّة من جهة أخرى. فتضارب المصالح الاستراتيجيّة الإسرائيليّة مع القدرات الإيرانيّة المختلفة لا يمكن ايجاد حل عسكري له وفقاً للقاعدة العسكريّة الإستراتيجيّة الآتية: "لا يجب أن يقود المحاربون غمار الحروب من أجل تحقيق انتصار عسكري في حدّ ذاته، لأنّ هذا الأخير لا يغدو من دون تنازلات، والمكاسب هي عبارة عن انتصارات مؤقّتة ومرحليّة فقط" هذه النظرية في العلاقات الدولية والعمل العسكري هي للجنرال الألماني كارل فون كلاوسفيتز والذي يعتبر أن التوازن في العلاقات مابين الدول هو عبارة عن فترة استراحة فقط بانتظار لحظة أكثر ملائمة للعمل، وهذا العمل ليس عملاً عسكرياً بالضرورة. وبالتالي لا بدّ من التركيز على حقيقة إستراتيجيّة مفادها أنّ الأهداف السّياسيّة هي التي تحدّد طبيعة العمل العسكري، إذ لا يمكن تصوّر عمل عسكري دون تحديد أهدافهالسّياسيّة. ومن هنا يطرح السؤال :
ما هي المكاسب الإستراتيجيّة الإسرائيليّة في حال تمّت
مواجهة عسكريّة مع إيران سواء أكانت محدودة أم واسعة؟
من الأرجح أنّ أي عمليّة عسكريّة فيما إذا تمّت من الناحية العسكريّة، فهي قد تعطي إيران استثماراً في السّياسة على اعتبارها بلداً معتدى عليه وبالتالي تظهر مظلوميّتها أمام العالم خاصّة العالم الإسلامي. كما أنّ هذه العمليّة العسكريّة ليست بحكم المؤكد أن تؤدّي إلى القضاء على برنامج إيران النووي أو حتى إسقاط النظام. فعسكرياً الخيارات الإسرائيليّة قائمة بالدّرجة الأولى على ضربة عسكريّة تعتمد على الطيران الإسرائيلي والمسارات المفترضة لمثل هذا الخيار تمرّ عبر كل من:
أ-الأجواء التركية.
ب-الأجواء الأردنية .
ج-الأجواء العراقية.
كل مسار جوّي يتطلّب أثماناً إقليميّة يتوجّب على إسرائيل دفعها سياسياً. فالخيار الإسرائيلي على المسار الأردني العراقي أقل كلفةً على إسرائيل من مسار تركيا، الدولة الإقليميّة الكبيرة، التي لا بدّ من مراعاة حساباتها، وكذلك مكاسبها الإستراتيجيّة القوميّة في المنطقة. ومن الناحية العمليّة، لا تستطيع الطائرات الإسرائيليّة استهداف كل المنشآت النوويّة الإيرانيّة في غارة طيران واحدة بسبب مجموعة متداخلة من العوامل المختلفة:
أوّلاً: الصّعوبات اللوجيستيّة حيث إيران تبعد أكثر من 1600 كلم عن الحدود الإسرائيليّة، الأمر الذي يفرض على الطائرات الإسرائيليّة قطع مسافة 3200 كلم ذهاباً وإيّاباً، وهو أمر مستحيل دون إمكان التزوّد بالوقود في أراضي دولة ثالثة وما يترتب عليه من أعباء سياسيّة.
ثانياً: العامل الجغرافي المتمثّل بتوزيع المنشآت النوويّة في مساحة شاسعة في إيران يزيد من صعوبة مهمّة الطيران العسكري الإسرائيلي أو إطلاق الصواريخ بعيدة المدى.
ثالثاً: إيران تملك في جعبتها أوراقاً لا يمكن لإسرائيل أن تستهين بها ومنها:
(1)-صواريخ بعيدة المدى من طراز شهاب قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيليكالصاروخ شهاب 3 الذي يستطيع أن يطال العمق الإسرائيلي وبقدرة تفجيريّة عالية (رؤوس نووية).
(2)-يمكن استهداف المنشآت العسكريّة في شمال إسرائيل انطلاقاً من مواقع حزب الله في لبنان وتجربة حرب تموز 2006 أثبتت قدرات حزب الله الصاروخيّة.
(3)-إيران تمتلك ورقة سلاح النفط الذي يمكن أن تستفيد منه كورقة ضغط على المنطقة والعالم بأسره في ظل ارتفاع حاد لأسعار النفط ممّا يعرّض مصالح الدّول الصّناعيّة للخطر.
(4)-الموقع الإستراتيجي الإيراني قادر على تعطيل حركة الملاحة في الخليج العربي.
(5)-إمكانيّة إيران استهداف القوّات الأميركيّة داخل العراق بعدّة طرق وأساليب مختلفة.
(6)-إنّ العمليّة العسكريّة بالغة التعقيد ولكن تبقى واردة الحصول على الرّغم من التوازن المتبادل إلى حدٍّ ما بين الطرفين.
إيران تتمتع بموقع جيوسياسي مهم وغني بثروات طبيعية وإنسانية وهي صاحبة نموذج سياسي يعتبر نموذجاً لحكومة دينية معاصرة يجمع بين معايير الحكومات المعاصرة وبين المبادئ الإسلامية. ويؤهل حجم الدولة الإيرانية وموقعها إلى الاضطلاع بدور قوة ينبغي أخذها في الحسبان ويمتد نفوذها إلى سوريا ولبنان والعراق وأذرييجيان إلى شمال القوقاز بالإضافة أبعادها الثقافية في كثير من دول الخليج. كذلك تتمتع بإمكانات اقتصادية لا يستهان بها خاصة في حقل الطاقة. وإيران تمتلك الدوافع والمقومات والامكانات اللازمة للعب دور مؤثر وفعال في دعم القضية الفلسطينية وهي أحد أهم الدول الإسلامية وهذا واقعاً تفرضه الحقائق ويعترف به من قبل كل من يقرأ التاريخ ويتابع التحولات الحالية.
كل الجهود التي يبذلها السياسيون والاقتصاديون للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في كافة القطاعات لم تحقق النتائج المرجوة. وكلما ازدادت وتيرة المتاجرة في البضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، تزداد المصاعب في عالم العمل حيث هناك تقليص وترشيد يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. كذلك لا توجد عولمة حقيقية ولو بالحد الأدنى فيما يتعلق بالعمل البشري، وعلى الرغم من حرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال لكن مختلف العراقيل والقيود توضع لمنع انتقال أو هجرة قوى العمل، وتزيد من الضغوط على عالم العمل الظروف الصعبة الداخلية لكافة البلدان على مستوى العمل.
العمالة أصبحت تعيش بين فكي كماشة نتيجة المنافسة الحادة ازدادت الضغوطات وازداد عدد العاطلين عن العمل كما أن الموازنات الحكومية تعاني من العجز وخاصة في أمريكا والدول الأوروبية مما انعكس سلباً على عالم العمل. ويلاحظ أن الدول بمعظمها تسير في هذا الاتجاه، ويبدو أن الكثير من الدول أضحت اليوم رهينة سياسة لم تعد تسمح بأي توجه آخر، وإذا كانت التجارة الحرة وانتقال رؤوس الأموال والبضائع والخدمات عبر الحدود هي التي تحقق النمو والرفاه، وفي حال تم تحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية بألغاء القيود الكمية وتوحيد كافة الضرائب الجمركية وجعل العالم منطقة تجارة حرة عام2020.
فهل هذا المشروع سيؤدي إلى تعميق أزمة سوق العمل أم أنه سيكون بمثابة نقطة التغيّر والتحوّل؟ وإذا كانت الشركات هي المستفيدة من العولمة على مستوى تخفيض تكاليف الإنتاج فيما يتعلق بالأيدي العاملة فهل يستفيد العمال والنقابات من العولمة من إجل إيجاد إطار دولي عام لممارسة الضغوط واستعادة الحقوق؟
قوانين العمل والتجارة ساعدت الشركات على تحقيق أهدافها القائمة على الربحية العالية وهذه الاستراتيجية المعتمدة من الشركات، أي استراتيجية الربح المرتفع، تشكل سبباً جوهرياً في تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لقطاع العمل. ويجب الإقرار بحقيقة أن التجارة الحرة تنمو بمنأى عن سوق العمل بل إنها تترك آثاراً سلبية على سوق العمل.
ولا بد من الإشاره إلى الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر في إطار التنمية: إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أي إشكالية النمو الاقتصادي فهل نحن في عصر الاقتصاد ومن أجل الاقتصاد وليس من أجل المجتمع؟
التفاوت في توزيع الثروة في تفاقم مستمر وثمة تحولات جذرية باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية. في الوقت الذي ترتفع فيه دخول الشركات وأصحاب الثروة بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج القومي الاجمالي بكثير، ظلت دخول العاملين بأجر عند مستوى متدن مقارنة بدخول الشركات، والنمو الاقتصادي لم يعد يترك أثراً يذكر على نمو دخول العمال مقارنة مع الشركات وأصحاب الثروات. ومن البديهي أن تؤدي الهوّة بين دخول أصحاب المشاريع ومُلاّك الثروة من ناحية ودخول العمال من ناحية أخرى إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته.
وبعيداً عن التنظير ووفقاً للإحصائيات والمعطيات حول الهوّة الاقتصادية، وإذا أخذ بعين الاعتبار أن النسبة الكبرى من المواطنين هم عمال أو موظفين يعملون بأجر فمن هذا المنطق يمكن القول إن الاقتصاد لم يعد يعمل لمصلحة الجمهور العام، والوقائع القائمة على مصلحة الجمهور هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة.
لقد نتج عن التقدم التكنولوجي وما يصاحبه من استخدام التقنيات بدل الأيدي العاملة انخفاض نسبة حصة العمل من العائد المتحقق في الاقتصاد، بالمقابل فإن حصة رأس المال من العائد تزداد بشكل مطرد. ومستقبلاً فإن هذا الواقع سينعكس سلباً على مشاركة العمال في الحياة الاجتماعية. والمستوى المعيشي المعيشي لا يتوقف على الدخل الذي يحصل عليه المرء فقط، وهذه حقيقة تتأكد باستمرار، فانتفاع المواطن من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي يزداد كلفة وأمسى أكثر صعوبة أو على وشك أن يتلاشى كلياً. وإن احتدام المنافسة بين الدول سواء صناعية كانت أم نامية على خفض الأجور إلى أدنى المستويات لن يودي إلا إلى نتائج وخيمة وسوف ينشئ على مستوى العالم أجمع حركة لولبية تدفع الأجور إلى المزيد من الانخفاض، وهذا الانخفاض في الأجور لن يزيد من مجمل رفاهية العالم والمجتمعات. والرهان على خفض الأجور لن يؤدي إلى أكثر من تحجّر الوضع الاجتماعي المؤلم.
أن نقل الإنتاج إلى بلدان الأجور المتدنية يؤدي إلى خفض الأجور وهذا يؤدي إلى نتائج غير متساوية بين شريحتين اجتماعيتين. وهذا التخفيض في الأجور الذي ينعكس على أسعار السلع الذي سوف يستفيد منه بشكل مباشر المستهلك صاحب الدخل المرتفع الذي لم يخسر شيئاً يذكر من دخله في مقابل تخفيض تكلفة الإنتاج، في حين أن الطبقات المتوسطة والفقيرة سوف تخسر جزءاً من دخلها وهي التي سوف تكون أكثر تضرراً.
هذا الواقع يطرح إشكالية مَن يتحمل الأعباء: رأس المال أم العمل؟
الحكومات ترمي الأعباء الضريبية على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر، والإعفاءات والتسهيلات والمنح الضرائبية المقدمة للشركات ينتج عنها انخفاض في إيرادات الدولة المالية التي تعوّضه عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى أو عن طريق تقليص الخدمات والرعاية الاجتماعية والصحية. ومن أسباب اتساع الهوّة بين الفقراء والأغنياء تقليص الأجور بالنسبة للعمال الذين لا يحصلون على تعليم عالٍ. وهذا الوضع أيضاً يعكس ضعف النقابات العمالية وتدني الحد الأدنى للأجور. وإذا كانت العبارة الأكثر تعبيراً عن اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء هي القائلة: الأغنياء يزدادون غنى بينما الفقراء يزدادون فقراً، ولكن الآن في ظل الوقائع الحالية القائمة على تخفيض التقديمات الاجتماعية وإعطاء المزايا والإعفاءات الضريبية للشركات عبر الوطنية والأغنياء، لم تعد هذه العبارة تكفي لتوضيح الصورة.
من الواضح ظهور صيغة جديدة تقوم على :
الأغنياء يصبحون أغنى والفقراء أفقر بمعدل أسرع.
لقد فاجئتنا السرعة الفائقة في توفير هذه المبالغ الخيالية لحل الأزمة المالية العالمية في العام2008 مقابل العسر الذي يعرف عادة في تمويل برامج متواضعة لفائدة الإنسانية. على سبيل المثال يكفي مبلغ المليار دولار سنوياً للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم كله، وقد أقرت الأمم المتحدة وفي نهاية الستينات من القرن الماضي برنامجاً لتحقيق هذا الهدف لكنه بقي حبراً على ورق لعدم توفر التمويلات الضرورية؟؟
رسالة درجة الماجستير في العلاقات الدولية والاقتصادية
2009
إعداد
سلام الربضي
لجنة المناقشة
الدكتور محمد المجذوب رئيساً
الدكتور جورج حجار مشرفاً
الدكتور فوزت فرحات مشرفاً
الدكتور سناء حمودي عضواً
إذا استطعنا التخلص من المبادئ الميتافيزيقية والعامة التي تستند إليها من وقت لآخر سياسة الحرية الاقتصادية القائمة على حرية الأفراد والمؤسسات في فعاليتهم الاقتصادية الليبرالية، وإذا تجاوزنا النظرة إلى الاقتصاد العالمي من منظار المناضلين المعادين لليبرالية وأوهام الشيوعيين بشأن المجتمع بدون طبقات فإننا نفتح أمامنا مجالاً واسعاً لطرح جملة من التساؤلات قد لا يكون من الممكن الإجابة عنها بوضوح، لكنها تساؤلات تستحق أن تؤخذ من تفكيرنا الحيز الضروري لكي نخلص من ذلك إلى استنتاجات حان وقت الوصول اليها والاستفادة منها.
أولى هذه التساؤلاتإشكالية الأرقام والمعطيات التي تضلل أحياناً عند دراسة نشاط الشركات عبر الوطنية:
فكثير من الدراسات التي تتعلق بنشاط الشركات تحاول الربط بينها وبين أرقام ومعطيات عن الثروة، توزيع الدخل،الفقر،الجوع،ومقارنة دخول الشركات مع إمكانيات الدول والناتج الإجمالي لها. وهنا يجوز التساؤل عن المعيار العلمي والمنهجي الذي على أساسه يتم الربط فيما بينهما من خلال منهجية الاعتماد على المقارنة الإحصائية الظاهرية والصورية بلا تدبّر في المقدمات والحيثيات والدلالات العلمية والمنطقية؟ وابتعاداً عن التحليل النظري والاقتراب من الأمثلة الواقعية، هل هذا الربط يعني أن الشركات هي التي تتحمل مسؤولية كل ما يحدث في ظل العولمة من فقر وجوع وبطالة وخلل في توزيع الثروات؟ وهل يمكن القول إن لعبة الأرقام وربطها بمعطيات_التي تصب في اتجاه معين_ تعبّر عن مواقف مسبقة ذات أبعاد أيديولوجية؟ فإذا، منهجياً، من الواجب والضرورة العلمية التساؤل عن موضوعية هذا الربط؟
ومن التساؤلات التي تطرح أيضاً: إشكالية العلاقة بين الشركات عبر الوطنية والدولة؟
العلاقة التي على ضوئها يتم تحديد مدى تزايد نفوذ الشركات وسيطرتها أو مدى تراجع سيطرة وسيادة الدولة؟ وإمكانية تحديد الحد الفاصل بين مصالح الشركات ومصالح الدول؟ وهل العلاقة بين الشركات والدول تعبّر عن اضمحلال سيادة الدول أم تغيّر في وظائفها؟ وهل استرتيجية الشركات قائمة على تجاوز الدول أم إنها ستبقى قومية المرتكز وهل الواقع العالمي المعاصر يعبر عن استرتيجيات دول أم سيطرة شركات؟ وفي انتظار الأنعكاسات السياسية للأزمة المالية العالمية2008 يطرح التساءل التالي: هل عدنا إلى الدولة التدخلية؟؟ وهل تكون فكرة التدخل أصبحت موجودة وحالة ملحة؟ ولكن أساليب التدخل وحدود التدخل فإنها متروكة حسب تداعيات الأزمة وواقعها؟؟؟
والإشكالية الجوهرية التي تطرحها ظاهرة الشركات: هي إشكالية الضبط سواء على الصعيد القومي أو العالمي؟
فهل الشركات حرة طليقة متفلّتة من كل ضبط؟ أم إن هناك معايير ضبط ما زالت تخضع لها وهل ستنتفع كثيراً من وجود بيئة عالمية خالية من كل معايير الضبط؟ وهل عملية الضبط تكمن في إعادة اكتشاف الحركة الدائمة على مستوى اللعبة الاقتصادية والدينامية الاجتماعية، وبالتالي هل يمكن تحقيق الترويض الاجتماعي لقوى الاقتصاد المعولم؟ وما هيردود الفعل الاجتماعية والسياسية على ما تم الآن من تشابك اقتصادي عالمي عموده الفقري الشركات عبر الوطنية، وهل هذه الردود تعبر عن واقع الضبط؟
منهجية المعالجة في هذا البحث سوف تكون قائمة على جدلية المجتمع والسلطة
حيث إن المبدأ العام في هذه العلاقة يرتكز على أن السلطة تنبثق من المجتمع، والمجتمع يتكوّن من مجموعة قوى تتفاعل في ما بينها، فمن الطبيعي أن تعكس هذه السلطة واقع هذا التفاعل. وفي هذا الصدد فإن الشركات عبر الوطنية هي جزء من المجتمع تتفاعل مع باقي الأجزاء، وهذا التفاعل أو التنافس تعبّر عنه السلطة. ومن هذا المنطلق يمكن إيجاد مقاربة لهذة الظاهرة بواقعية أكبر، عند دراسة العلاقة بين الشركات والدولة من جهة، وإمكانية الضبط والتحكّم من جهة أخرى. فعلى مستوى العلاقة بين الدولة والشركات، فإذا كانت الشركات جزءاً من القوى الفاعلة والمسيطرة داخل المجتمع، وهذا الواقع سوف ينعكس على السلطة بشكل طبيعي، فالسلطة تمثل مصالح مجتمعها، ويمكن التعبير عن هذا الواقع بمقاربتين الأولى: مصالح الدولة الخارجية واستراتيجيتها التي تعكس واقع مجتمعها، فإذا كانت الدولة تعبّر عن مصالح الشركات، فهل نحن أمام تراجع في سيطرة الدولة أم أمام ترابط في المصالح؟ أما المقاربة الثانية، فهي قائمة على طبيعة العلاقة داخل المجتمع وصراع السلطة. وفي هذا الجانب يمكن التساؤل عن القوى الأخرى القادرة على وضع حد لسلطة الشركات وتزايد نفوذها: جدلية السلطة والسلطات المضادة؟
في هذه الدراسة سوف يتم استخدام المنهج العلمي القائم على استخدام المنهج الواقعي عند التحليل، ومنهجي المقارنة والتحليل الكمي عند التعاطي مع الأرقام والمعطيات توخياً للايضاح والمقاربة. أما المصادر المعتمدة في هذه الدراسة فهي متنوعة مع التركيز على التقارير والدراسات الصادرة عن المنظمات الدولية.
الدراسة قائمة على الفصل التمهيدي بالإضافة إلى فصلين: الفصل التمهيدي يركز على العلاقة بين المنظور الكمي والظواهر الإنسانية سواء على صعيد تشخيص الظاهرة أو المقاربة بين استخدام المنهج المثالي والواقع. حيث إن استخدام المنظور الكمي في مقام التعامل مع معظم الظواهر الإنسانية ومنها حقول التاريخ والاجتماع والسياسة والتنمية الإنسانية أمر محفوف بالتحفظات والمحاذير، وذلك على خلاف التقدم المذهل الذي نجم عن استخدام المنظور ذاته على صعيد الظواهر الطبيعة. فالإنسانيات أكثر تعقيداً وأبعد عمقاً من أن تخضع للمعادلات الإحصائية الرقمية بكل جفافها وصرامتها، وهذا ما ينطبق على كيفية مقاربة ظاهرة العولمة بما فيها العلاقة بين الدولة والشركات عبر الوطنية؟ إما الفصل الأول فيتناول نفوذ الشركات عبر الوطنية من خلال التعرف على استراتيجيات الشركات وتوضيح طبيعة العلاقة القائمة بين الشركات والأسواق المالية، وعالم العمل والاستثمار المباشر، ومعرفة أين هي الشركات عبر الوطنية من السياسات الضرائبية والاحتكارية، وتحول القوة الاقتصادية إلى ميزة سياسية غير متساوية, وما هو تأثير الشركات على السياسة والإعلام.والفصل الثاني يتطرق إلى إشكالية واقع الضبط والتحكّم من خلال المؤشرات التي تعبّر عن الإمكانيات الموجودة فعلاً لدى الدول في كافة القطاعات الاقتصادية، ومقاربة دور ونشاط الأمم المتحدة في جعل مواطنة ومسؤولية الشركات عبر الوطنية عالميتين، وفي هذا المنحى إشارة إلى إيجابية المنظمات غير الحكومية التي تمثل القوى العظمى الثانية، والتركيز على عملية التحكّم الاجتماعي من خلال النقابات العمالية وأهمية عصر المساءلة الذي نعيش في كنفه ودور القضاء والرأي العام في إمكانية المراقبة، ودراسة المقاربات والمتغيّرات العالمية وتحليل الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر كظاهرة التسوّق السياسي ومبدأ الاستثمار الاستهلاكي، وصناديق الثروة السيادية والقوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق.
إذا كانت التناقضات والتساؤلات وعدم اليقين هي ميزة المسرح العالمي الجديد، فقد عادت إلى الواجهة الطروحات المختلفة حول معنى السيادة ومدى إمكانية الاستمرار في الدفاع عنها في عالم جديد ومعطيات جديدة تمهّد لتجاوز النظام الوستفالي حيث التبديل لم يعد في النظام بل تبديل النظام نفسه؟ وبعيداً عن الاختلافات الفقهية والقانونية وتجاوزاً لمتاهات الفكر السياسي فكل المؤشرات تدل وتكشف أن هناك اختراقاً لمكانة الدولة ووظائفها وهذه الحقيقة تطاول جميع الدول سواء كبيرة أم صغيرة، وتلك القوية أو الضعيفة. ولا يبدو أن الاقتصاد العالمي يقترب من الترابط كما أن ممارسة واستراتيجية الشركات الكبرى تبدو أكثر تعقيداً، وأن التحالفات الاستراتيجية تخلق سوقاً عالمية بالغة التفاوت، وهذا الوضع يتكرر في كثير من القطاعات، وإن كان ثمة وجود لاقتصاد معولم، فإنه وفقاً لجدلية الزمان والمكان يترك خللاً واضحاً ويطرح السؤال التالي: هل نحن في العولمة أو خارجها وهل هذا الاقتصاد منظّم وفقاً لاحتكار القلة أم وفقاً لمقتضيات التنافس؟
تُعبّر الشركات عبر الوطنية عن التعارض التام بين التطور الرأسمالي من ناحية وبين التنظيم السياسي الدولي الذي ما يزال يعطي الدولة القومية مغزى ووظيفة اقتصادية جوهرية، وهذا التناقض في المجال الاقتصادي يترجم في المجال الاجتماعي حيث يمثل اختراقاً فعالاً وفعلياً لهيكلة ونسيج الدولة الاجتماعي. وهذا متوقف على تعددية جنسية الشركات الكبرى أي التعددية الفعلية للمالكين والمديرين من حيث الجنسية في هيكل الشركة، فكلما ظلت الشركة متبلورة حول مُلاّك ومديرين من جنسية واحد تصبح الشركات التابعة تمثل اختراقاً أجنبياً خالصاً ليكون الاختراق الاجتماعي محدوداً للغاية. أما إذا اشترك قطاع كبير من المُلّاك والمديرين المحليين في السيطرة والإدارة في الشركة، فإن ذلك سيشكل اختراقاً هاماً وفعالاً من الناحية الاجتماعية وذلك ببساطة لأن الشركة تمثل إطاراً للولاء وللسياسات التي تتقاطع جذرياً مع بنية الدولة القومية.
مع نمو ظاهرة الشركات عبر الوطنية في البلدان النامية كالهند والصين فإن استراتيجية الشركات ترتكز على أبعاد سياسية، حيث إن النمو السريع في الصين والهند يثير قلق تلك الدول بشأن نفاذ الموارد والمدخلات الأساسية لاستمرارية التوسع الاقتصادي. فاستراتيجية الشركات في الدول النامية جراء الاستثمار الأجنبي المباشر تتمركز إلى حد ما في قطاع الموارد الأولية واستراتيجية تلك الشركات لا تخرج عن الأهداف الاستراتيجية التي تسندها حكومات الموطن إلى الشركات عبر الوطنية خاصة المملوكة من الدولة حيث تعمل الحكومات على تشجيع الشركات على تأمين مدخلات حيوية مثل الموارد الخام للأقتصاد والموطن, فأستراتيجية الشركات الهندية والصينية في الخارج تتجه نحو البلدان الغنية بالموارد ولاسيما النفط والغاز اكثر من الاستثمار في اطار استراتيجية أستهداف الزبائن.
المتغيرات العالمية في الأسواق المالية تنعكس على طبيعة العلاقة بين الدولة وقوى السوق. وكثير من التساؤلات تطرح حول دور الدولة ووظائفها أثناء الأزمات المالية؟ ولكن عكس التيار الذي يحاول إظهار عدم قدرة وتآكل سيادة الدولة. أمام هذه المتغيّرات لا بد من طرح التساؤل الآتي: هل الدول بريئة مما يحدث؟ وهل هي الضحية كما يتم تصويرها في الكثير من الأحيان؟ وما هو الحد الفاصل بين مصالح الحكومات ومصالح الشركات على صعيد عمليات الإنقاذ التي تتم عند التعرّض للأزمات المالية؟ إن النظام المالي يعتبر من أكثر ميادين الخلاف نتيجة هذا التحول الكبير من جهة، وبروز تيارات فكرية ترى أنه قد تم الانتقال من النظام العالمي الذي تقوده الحكومات إلى النظام العالمي الذي تقوده الأسواق.
إن التفاوت في توزيع الثروة في تفاقم مستمر، فالأمر الواضح هو أن ثمة تحوّلات جذرية باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية. وفي الوقت الذي ترتفع فيه دخول الشركات وأصحاب الثروة بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي بكثير، بقيت دخول العاملين بأجر عند مستوى متدنٍ مقارنة بدخول الشركات، أي إن النمو الاقتصادي لم يعد يترك أي أثر يذكر على نمو دخول العمال مقارنة مع الشركات وأصحاب الثروات. ومن البديهي أن تؤدي الهوّة بين دخول أصحاب المشاريع ومُلاّك الثروة من ناحية ودخول العمال من ناحية أخرى إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته. والكثير من الافكار والنظريات تعتبر أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتمثلة بالشركات عبر الوطنية هي من سلبت خيرات وإمكانيات الدول النامية وأنها تبحث فقط عن مصالحها الخاصة، وجعلت الدول النامية أكثر تبعية لها. لكن في هذا السياق لا بد من التساؤل عن بعض التطورات الحاصلة في هذا الإطار: هل كان بإمكان الصين وهي الدولة العملاقة تحقيق ما حققته في المجال الاقتصادي دون هذه الاستثمارات؟ وما هي حال الهند أيضاً، وماذا يمكن القول عن كوريا الجنوبية وسنغافورة وتشيكيا وإيرالندا ؟
فصل من فصول العولمة يدور حالياً في أفريقيا ويكتب هذا الفصل الصينيون المتواجدون في مختلف أنحاء أفريقيا. والاستثمارات الصينية وسّعت نطاق أعمالها في أفريقيا وتسللت إلى حياة القارة الأفريقية اليومية. والاستثمارات الصينية في القاره السمراء تعبّر عن بعد نظر الدولة الصينية وعن تحقيق أهداف بعيدة المدى.التساؤل مشروع حول الاستثمارات التي تقوم بها الشركات عبر الوطنية من الدول النامية، هل هذه الاستثمارات تدخل في إطار التعاون وتبادل المصالح أم تدخل في إطار السيطرة والاستغلال؟ ولماذا في حال شرّعت الدول النامية أسواقها أمام الشركات الأوروبية أو الأمريكية يعتير ذلك نوعاً من الاستعمار، وفي حال شرّعت الدول النامية أبوابها أمام الشركات الهندية والصينية والآسيوية يصبح ذلك نوعاً من التعاون والتكامل؟؟
أمام تلك التيارات الجارفة الحاملة عناوين حرية التجارة الدولية يوجد سياسة حمائية واضحة مما يخلق تضارباً في السياسات والمصالح وهو ما يلحق الضرر بمختلف الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، ويطرح علامات استفهام حول حرية التجارة الدولية. وهذه السياسة لها آثارها على الدول الغنية والفقيرة، إلا أن تأثيرها يكون وقعه أكثر على الدول الفقيرة حيث هامش التحرك أمامها ضئيل مقارنة بالدول الغنية خاصة فيما يتعلق بالصادرات الزراعية والمنسوجات القادمة من الدول الفقيرة. إذ إن الموضوع بالمطلق يطرح تساؤل التناقض بين مبدأ حرية التجارة والسياسة الحمائية. ومن خلال محاكاة الواقع العالمي المعاصر نجد أنه أصبح زاخراً بكثير من التطورات وعلى كافة المستويات، الأمر الذي يلزمنا التوقف عند بعض المعطيات التي يمكن التعبير عنها بالسؤال الآتي:
هل ما زالت الدولة وحدها قادرة على تحديد العلاقات الدولية؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد لنا أن نتساءل فيما إذا كان قد تم السير في اتجاه هذا النسق الدولي القائم على تخصيص الأمن لمصلحة الشركات الخاصة؟ أو في حال تم تبني مقترحات الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي الداعي لربط مسألة التصويت لأعضاء الأمم المتحدة بمقدار مساهمتها في تمويل أنشطة المنظمة، الأمر الذي يطرح في المستقبل إمكانية احتلال مقاعد من قبل منظمات ومؤسسات وشخصيات معنوية لديها قدرة مالية كبيرة؟
من الخطأ أن نرد الأزمة الراهنة لمفهوم السيادة إلى النفوذ العالمي للشركات عبر الوطنية وحدها، فالعولمة الإعلامية تلعب هي الأخرى دوراً لا يقل فاعلية، إضافة إلى رابطات حقوق الإنسان وحماية البيئة والمنظمات غير الحكومية وجلها مناهض للشركات عبر الوطنية، والتي لا تقيد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة، ولا بد من الاعتراف بأن حصانة الدولة وسيادتها المطلقة قد سقطت ولم تعد هناك حدود غير قابلة للاختراق لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا إعلامياً ولا ثقافياً ولا حتى أمنياً؟ ونظرية تآكل دور الدولة وانحسارها أمام نفوذ الشركات قابلة للنقاش، كما أن الانتقال من عصر الدول إلى عصر السوق يطرح علامات استفهام على ضوء المقاربات والمتغيّرات العالمية الجديدة. فالدولة ما تزال الحجر الأساسي الذي يرتكز عليه أي نظام سواء كان سياسياً أم اقتصادياً أم قانونياً. ولم يعد مجدياً النظر للاقتصاد من باب الزيادة الرقمية للإنتاج القومي أو الدخل الفردي فحسب، بل لا بد من بناء أساس مادي علمي وتقاني جديد قرين فكر وثقافة جديدين، ودعامة هذا الأساس تكون قائمة على الاستثمار في رأس مال القدرة البشرية بدلاً من رأس المال البشري كهدف وأساس للتنمية والتطوير.
التعامل مع الشركات من معيار أيدولوجي قائم على امبرياليتها الاقتصادية والسياسية لم يعد يواكب التطورات الاقتصادية العالمية، فها هي شركات الدول النامية تزداد قوة، وظاهرة صناديق الثروة السيادية التي تملكها دول تجعل من إشكالية تحديد المعيار الموضوعي للفصل بين مصالح الدول واستراتيجيتها ونفوذ الشركات معقدة. وظاهرة الصناديق السيادية تعكس واقع ودور الدول الموسَّع التي تؤديه في الأسواق المالية والاقتصاد العالمي. وإن استمرار تصدير صافي رأس المال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة الغنية برؤوس الأموال يؤدي إلى إثارة الشكوك حول مدى صلاحية نظرية التنمية التقليدية في السياق العالمي الجديد، مما يشير إلى ضرورة إعادة التفكير في أهم الافتراضيات فيما يتصل بالسياسات البديلة ومسارات اللحاق بالركب والتدفقات الرأسمالية والاستثمار.
لقد بات واضحاً أن الدول تتجه بوتيرة متزايدة نحو المزيد من التدخل ولا سيما في بعض القطاعات كالغاز والبترول ووسائط الإعلام والنقل الجوي. وإن لعبة السلطات المضادة بصورة أو بأخرى، بشكل سلس أو بصدمات متتالية ستفرض نفسها في النهاية، وإن واقع السوق الذي تعمل الشركات عبر الوطنية في ظله والذي تستمد النفوذ منه يستدعي أدوات وآليات للضبط والتحكّم، وهذا هو ما يحصل على أرض الواقع. إذ توجد سلطات مضادة وهي في طور التبرعم وهذه السلطات المضادة تفرض نفسها رويداً رويداً في ظل فلسفة جديدة تطغى على المستويين المحلي والعالمي. إذ في ظل هذا النظام المتبلور والقائم على حيوية القضاء والرأي العام لا بد من وجود سلطات تأخذ على حين غرة وبصورة قوية على عاتقها مواجهة الشركات عبر الوطنية وتكون القلب النابض والدينامو المحرّك لنشاط الثلاثية الجديدة. والمنظمات غير الحكومية تعبّر عن واقعية النموذج الجديد الذي يتشكل ويعمل على الضبط والمراقبة لكل عملية سيطرة من قبل الشركات.
بعيداً عن التنظير ومن منطلق جدلية السلطة والسلطات المضادة يمكن القول إنه من الأجدى على الذين يعارضون نشاط المؤسسات الدولية كمنظمة التجارة العالمية والصندوق الدولي والبنك الدولي أن يعملوا على عكس ذلك، أي المطالبة بتعزيز سلطاتها. ويجب أن تدرك المنظمات غير الحكومية أيضاً وفقاً للتجارب أن تكون في مقدمة المطالبين بتعزيز المؤسسات العالمية القائمة لتصبح أكثر استقلالية حيال مساهميها الكبار وأن تطالب كذلك بإنشاء مؤسسات شبيهة تعتني بالبيئة والصحة والأغذية، وكل ذلك ينطلق من اعتبار أن هذه الطريقة أقصر وأنفع عملياً من مجرد الاعتراض والرفض لأي إصلاح من الداخل، وفي أضعف الأحوال تعتبر هذه الطريقة أفضل الممكن والمتاح في ظل هذا الوضع العالمي حتى يتسنى تغييره.
بدل التكلُّم عن الامبريالية والرأسمالية المتوحشة لماذا لا يتم التكّلم عن النمط الجديد من التمييز العنصري العالمي البيئي الذي ترتكبه الدول الصناعية والشركات بحق البيئة والأفراد الفقراء، وإن استخدام تعبير التكيّف مع المتغيرات المناخية قد يكون عبارة عن مجرّد تعبير مُلَطَّف للتمويه عن غياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيعها على الصعيد العالمي. فالتكيّف مع التغيّرات المناخية أمر قد يكون حصوله متعذّراً بالنسبة لسكان الكرة الأرضية الفقراء، فكيف يمكن لمزارع فقير أن يتلاءم أو يتعايش مع التصحّر والفيضانات التي تهدد حياته وإنتاجه ومحصوله؟ وهل من المعقول أن يختزل الفقراء والجائعون مصادر التغذية وهم بالكاد يحصلون على القليل منها؟ إن مثل تلك المقاربة لقضايا العالم المعاصر ومثل هذه الثقافة هي الطريق الأفضل والأكثر واقعية وجدوى في حل مشاكل العالم، ومنها عملية ضبط نفوذ الشركات .
في ظل الواقع المتأزم لأسواق العمل العالمية خاصة في الدول النامية التي تعاني من إشكالية خلق الثروة وإشكالية توزيعها، وبين هاتين الإشكاليتين، اللتين يمكن مواجهتهما عن طريق إدخال القضايا العمالية في المفاوضات الدولية لمنظمة التجارة الدولية، فمن الأسباب الرئيسية لتعّثر مفاوضات جولة الدوحة هو الخلاف القائم بين الدول الصناعية والدول النامية حول تحرير المنتجات الزراعية، وذلك نتيجة عدم استعداد الدول الصناعية لمواجهة المتطلبات لمرحلتين تاليتين هما تحرير السلع الصناعية وتجارة الخدمات. إذ إن تحرير تجارة الخدمات لا يمكن أن يتم من دون تحرير الانتقال للاشخاص بين الدول. ويعتبر ما قد أقدمت عليه الدول النامية في منظمة التجارة من اقتراح يهدف إلى الفوز بتنازلات تمنح عمالها حرية أكبر في عبور الحدود الدولية لعرض خدماتهم في أسواق الدول الصناعية المتقدمة خطوة في الاتجاه الصحيح لتحقيق الكثير من المكاسب، وهذا الاقتراح يحمل أسم النموذج رقم4. والتغيرات العالمية على الصعيد الاقتصادي والمالي تطرح تساؤلات عدة حول العديد من المفاهيم والنقاشات الدائرة حول دور الشركات في السياسة الدولية أو الاقتصاد العالمي، في وقت لم يعد بالإمكان اعتماد المقاربات التقليدية في تحليل ودراسة هذه الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر كل صناديق السيادية، والقوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق، وزيادة الاعتماد على الدولة كوحدة سياسية وقانونية قادرة على مواكبة تلك التغيّرات العالمية.
قضية صناديق الثروات السيادية لا تبدو استثمارية أو اقتصادية بحتة سواء أردنا أو لم نرد، فقد تمّ تسييسها وأصبحت ظاهرة من ظواهر العلاقات السياسية الدولية. لذا فإن التعامل والدراسة على صعيد هذه القضية لا ينبغي أن يقتصر على الفنيين العاملين في مجال الاقتصاد والاستثمار بل يجب أن تجنّد لهذه القضية أفضل الخبرات في مجال العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الدولية. والصناديق السيادية التي تدير ثروات مملوكة لدول أصبحت تثير حفيظة الدول الكبرى، حيث الخوف من أن تسيطر هذه الصناديق على مفاصل أساسية في الاقتصاد والأمن وقد تُدار بطريقة تتعارض مع مصالح تلك الدول القومية. والخوف يزداد من تلك الصناديق التي تتمتّع بسيولة مالية هائلة جدّاً تصل إمكانياتها لدرجة شراء أسواق مالية بكاملها.ولقد تبدّلت معالم الجغرافيا المالية العالمية، ولقد كشفت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عن تغيّرات في مناخات الجغرافيا المالية العالمية. فالمفارقة أن الأموال الشيوعية تنقذ المؤسسات المالية الرأسمالية. والأزمة المالية رجّحت كفة بلدان الجنوب في الاقتصاد المعولم. ففي أزمة 1997 المالية الآسيوية طمأنت الولايات المتحدة الأسواق المالية في البلدان النامية، وعلى خلاف هذه الأزمة، حملت أزمة النظام المالي الأمريكي في 2007ـ 2008 بلدان الشمال على قبول مساعدة الدول النفطية وقوى الجنوب المالية العظمى. فالنفوذ المالي انتقل إلى بلدان الجنوب في مجال العمل والفوائض المالية.
هامش الحركة المتاح للمجتمع هو دائماً أوسع بكثير من ذلك المتاح للاقتصاد؟ وقد يكون هذا التصوّر بادرة أمل وارتياح، حيث إن مصير المجتمع هو بين أيدي أبنائه وقانون الجاذبية الاقتصادية يفعل فعله الطبيعي على صعيد النموذج الاجتماعي، فهو يكيّفه ولكنه لا يحدّده، ونحن الآن نعيش عصر الانترنت، ولكن مجتمع عصر الانترنت ما زال أرضاً مجهولة فعلينا نحن بناء هذا المجتمع. وعلى عكس الكلام البليغ السائد حول عدوانية السوق وجنوح الرأسمالية، ولاعقلانية المؤسسات الكبرى، فإن ما نشهده أمام أعيننا، هو ولادة نظام مستقر من السلطات والسلطات المضادة، حتى لو كنا لم نتجاوز بعد لا تساؤلاتنا ولا شكوكنا. والشركات تعرف أكثر من أيٍّ كان أن السباق المتواصلبين السعي لاحتلال مواقع احتكارية وبين الردع الذي تتولاه المؤسسات الراعية لحقوق المنافسة والسلطات المضادة، جعل الشركات عبر الوطنية الآن في ضعف نسبي لم تشهده سابقاً. ومعظم الأطراف اللاعبة في الاقتصاد العالمي لها مصلحة في الاستقرار، بما في ذلك كبرى الشركات التي ترى في تقليص الاضطراب والغموض فائدة جلية من ناحية تخطيط الاستثمارات ومن ناحية الإنتاج واستراتيجيات التسويق، أو على صعيد الأسواق المالية من خلال تثبيت استقرار النظام المالي العالمي بالضبط الحكومي. وإن الفكرة الشائعة وسط غُلاة منظّري العولمة بأن الشركات ستنتفع كثيراً من وجود بيئة عالمية خالية من الضوابط تظل فكرة غريبة حقاً. فالقواعد التجارية المحسوبة، وتسوية حقوق الملكية المنسّقة عالمياً واحتواء التقلّبات المفرطة في أسواق الأسهم المتنوعة، واستقرار أسعار الصرف تسهم جميعاً في تأمين مستوياتأولية من السلامة التي تحتاجها الشركات للتخطيط للمستقبل.
لقد أحدثت رياح العولمة، التي بدأت تهب منذ مطلع الثمانينات وأدت في مطلع التسعينات إلى تفكيك المعسكر السوفياتي، تحولاً جديداً في مفهوم السيادة أخذ شكل تغليب الاقتصادي على السياسي ـإلى حد ما ـ في سياق انتصار أيديولوجيا اقتصاد السوق. والواقع أن الاقتصاد كان على الدوام، باستثناء الفاصل السوفياتي، اقتصاد سوق، وأنما طبيعة السوق في ظل العولمة هي التي تحوّلت. فمن قومية صارت عالمية، فيما الدولة كسيادة سياسية، بقيت قومية، ومن هنا اخترق منطق السوق العابر للحدود المنطق السيادي للدولة القومية، وهذا لا يعني أن الدولة قد انتفت، لكنه أيضاً يعني أنها لم تعد حرة اليدين وأصبح هناك تغيير في طبيعة وظائفها، ومن هنا نجمت الفعالية التي اكتسبتها الشركات والتي أدت إلى تزايد نفوذها، كذلك ظهور المنظمات غير الحكومية وجلّها مناهضة للعولمة وتدافع عن سيادة الدولة، ولكن المفارقة أن تلك المنظمات لا تقيّد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة؟ وفي الوقت ذاته تطالب بوضع معايير ضبط وتحكّم على نشاط الشركات عبر الوطنية؟ وقد تكون تلك المنظمات هي من الذين هم بأمسّ الحاجة لوضع معايير لضبط عملهم ونشاطهم؟ وعلى الرغم من وجود علامات مشجّعة على صعيد معايير الضبط والتحكّم.
بعض التساؤلات مطروحة فيما يتعلق ببعض الوكالات والمؤسسات الدولية التي تحدّد جدارة الإقراض وتعمل على تنظيم الأسواق المالية بما فيها عمل البورصات المالية. ومن الواضح أن ممارسات تحديد المعايير هي جزء جوهري من نظام السوق الحر وهي تقرر مصير الفاعلين الاقتصاديين بطريقة تمنح سلطة سياسية فعلية. وعلى الرغم من أهمية العمليات التي تقوم بها تلك المؤسسات والوكالات والتي تعتبر أهم جانب من جوانب العولمة والتدويل، ولكن ألا يحق التساؤل عن ماهيّة هذه الوكالات على وجه الدقة؟ هل هي منظمات تدّعي لنفسها وتمارس سلطة عامة حكومية، في حين أنها ليست خاصة بالكامل وليست عامة بالكامل؟ هل هي جزء من التغيير في النظام العالمي؟ هل هي أداة أو جزء من منظومة التحكّم الناشئة أم العكس؟ وهل يحق لنا الاعتقاد هنا بأنه يجب إعارة هذه المؤسسات والوكالات ـ أو هذه الحالة ـ الانتباه الأكبر من قبل الباحثين؟
لقد استطاعت الحركات المناهضة للعولمة أن تقطع شوطاً في مواجهة قوى السوق وجاء المنتدى الاجتماعي العالمي بمثابة الرد على منتدى دافوس الذي يهدف إلى إرساء الشرعية السياسية التي تتوافق مع مصالح الشركات ودولها. وهو مؤشر إيجابي على إمكانية القدرة على العمل وإيجاد سلطات مضادة وموازية لسلطات السوق تكون قادرة على الضغط والتأثير وبالتالي المراقبة والضبط. وليست كل الأخبار باعثة على التشاؤم، فحركة مناهضة العولمة، وعلى الرغم من كل ما يشوبها من التباسات، تبيّن أن من غير المبرر اقتصار هذه الحركات فقط على الاجتماع والاحتجاج بل لا بد من الانتقال إلى القيام بنشاط منظّم وبإمكانية إحياء وإيجاد استراتيجيات جديدة في العمل. وحركة المنتديات الاجتماعية تطرح إشكالية حول تغيير الأحداث. فكيف يمكن لها أن تنتقل من طور الاحتجاج إلى بناء عولمة بديلة؟
على الرغم من التظاهرات الواسعة والمتزايدة ضد العولمة النيوليبرالية لم يتبلور بعد أي بديل استراتيجي منسّق ومتكامل يمكن أن يفتح الباب أمام نمط جديد من استغلال فرص الاندماج العالمي الذي تسمح به الثورة المعلوماتية. فالحركات المعادية للعولمة يغلب عليها طابع الاعتراض والاحتجاجوبدون برنامج ملموس وبديل لتعزيز واقع وجود خيارات بديلة سوف نبقى في دوامة الرفض فقط وخطر العموميات في البرامج وفي حلقة مفرغة. إذ أكثر ما يقلق قوى السوق وبالطبع الشركات هو أن يضطروا إلى تحديد موقفهم من مشروع عالمي اجتماعي. وإذا كان المنتدى العالمي الاجتماعي بدا لنا كسلطة مضادة لسلطة منتدى دافوس، ولكن دون ترجمة هذا التوجه والنشاط من الشعارات إلى واقع، يبقى البديل هو جوهر الخلاف. وفي كل الأحوال فإن هذه الدينامية في الحركة المضادة لقوى السوق تبقى مهمة من حيث أنها تبيّن أن إمكانية الضبط والمراقبة وبزوغ فجر السلطات المضادة تبقى واردة أملاً في اجتراح نظام بديل يكون أكثر عدلاً أو أقل جورا؟
في ظل التشابك والترابط نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي والذي انعكس على واقع الاقتصاد العالمي، أصبحت هناك صعوبات علمية تواجه كل مَن يريد معالجة أو تناول ظاهرة الشركات عبر الوطنية في سياق العولمة، فهل لنا أن نتساءل أين هو الحد الفاصل بين مصالح الشركات عبر الوطنية ومصالح الدول؟ وما هو المعيار هنا للتمييز بين ما هو عام وما هو خاص والذي على ضوئه يمكن التقييم؟ فإذا كان المموّل الأكبر لنشاط منظمة الصحة العالمية هو بيل غيتس مالك شركة مايكروسوفت الذي تفوق مجموع تبرعاته ما تقدمه الولايات المتحدة، فهل هذا التمويل يصب في خانة المسؤولية الاجتماعية للشركات؟أم في خانة الهيمنة والسيطرة؟ أقل ما يمكن قوله في تلك التساؤلات ـوهناك الكثيرـأنه يجب النظر لظاهرة العولمة بكل تجلياتها، ومنها الشركات، بمنظارٍ علمي بعيدٍ عن مبدأ الـ"مع" و"الضد"، حيث إن هذه الظاهرة سيف ذو حدين فهناك رابحون وخاسرون، فإذا كانت ألمانيا مثلاً خاسرة على صعيد فرص العمل ـ نتيجة نقل الشركات مصانع الملابس الجاهزة إلى الخارج بسبب العولمة ـ خلال العشرين سنة الماضية ما يقارب مليون ونصف المليون وظيفة، وهذا لصالح نسبة من نساء بنغلادش وجنوب شرق آسيا، فإنه وفي الأحوال جميعاً إن أسوأ نهج في التعامل مع ظاهرة العولمة هو نهج مَن يريد أن "يؤبلسها" أو أن "يؤمثلها" بأي ثمن.
النظام العالمي يشهد هذه الايام أزمة ثلاثية الأبعاد: بعد اقتصادي يتصل با الأسباب المباشرة التي أدت إلى تفجيرها, وبعد سياسي يتصل بهيكل وموازين وعلاقات القوة القائمة في النظام العالمي لحظة انفجار الأزمة, وبعد إيديولوجي يتصل بتأثير الأزمة على المستوى الفكري. ومن هذه الروحية يطرح التساؤل:أن نكون موضوعاً للتاريخ أو فاعليين له، هذا هو السؤال؟ إنه مطروح دائماً ولكن هذه المرة سيكون الثمن الاقتصادي، السياسي، المؤسساتي، السيكولوجي أكبر في حال بقينا موضوعاً للتاريخ. ولم يعد مقبولا ً التعاطي مع هذا الواقع من منطلق أيديولوجي يعبّر عن مجرد موقف ضد هذه الظاهرة أو معها بدون وجود برنامج عملي. والسؤال لماذا هناك الكثير من الأفكار عن كيفية توزيع الدخل وليس عن كيفية توليد الدخل؟ من هنا نرى أن ثمة أسئلة مطروحة على عالمنا المعاصر ولا يمكننا إلا أن نتفاعل معها في الصميم وأن نقدم أجوبة عليها تتلاءم مع تطورنا الإنساني والتاريخي، ومن هذه الأسئلة:
سؤال غائية العلم :
فهل سيقود التطور العلمي الراهن إلى سعادة الإنسانية ورفاهها أم سينقلب إلى مصدر لبؤسها وجعل الإنسان يدمر نفسه بنفسه في غياب أي طوبى إنسانية شاملة جامعة لكل الأمم والشعوب، جوهرها الارتقاء الإنساني الشامل، طوبى تعيد الحياة إلى مبادئ العقد الاجتماعي والاقتصادي والمواطنية والعقلانية والمساواتية والعدل الاجتماعي؟ وهل سيبقى التطور الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى المزيد من مراكمة الثروة في جانب ومراكمة الفقر في الجانب الآخر، أم سيتجه لمصلحة البشرية بأسرها ورفاه الناس وخيرهم جميعاً؟
ومن هذه الأسئلة سؤال الطبيعة :
فهل سيبدّل الإنسان المعاصر في نظرته إليها باعتبارها امتداداً للوجود الإنساني وليست عالماً غريباً عنه قابلاً للتحكّم به دون أية ضوابط، ومهما كانت النتائج مسيئة إلى نواميسه وتطوّر أحيائه الحيوانية والنباتية؟
ومنها سؤال المعنى والقيمة :
فأي أفق يجري نحوه تطور الإنسانية وتقدمها؟ هل هو الإنسان الفرد بالمفهوم الليبرالي وباعتبارة القيمة الأولى والأخيرة والهدف النهائي للتطور أم هو المجتمع أم الأمة أو الإنسانية بأسرها؟ وهل الصراع والغَلَبة هما اللذان سيحددان مصير الإنسانية أم التكافل الاجتماعي والهم المشترك؟
ومنها سؤال الهوية :
فهل سيتجه التطور الإنساني نحو هوية كونية أممية أم سيكون التشبث بالهويات القومية والإثنية والطائفية هو الرد المضاد على ثورة التواصل العولمي ؟
ومنها سؤال النهايات :
فهل يتجه التاريخ نحو نهاية معينة ليبرالية أو اشتراكية كما تصوّر فوكوياما وقبله ماركس أم أنه يجري في غير هذين الاتجاهين ؟