2010-10-31

أمر العلاقات التركية الإسرائيلية ومستقبلها قد يتجاوز مصلحة البلدين






سلام الربضي \ باحث أردني في العلاقات الدولية
مركز سبأ للدراسات الاستراتيجية \ اليمن.
مجلة مدارات استراتيجية.
العدد 5 \ 4.  تشرين الأول 2010.

السياسة التركية الجديدة التي تعمل على كسب المزيد من الأصدقاء، لا ترغب أن يكون لها أعداء جدد أو أن تبني علاقاتها الجديدة على أنقاض بعض الأصدقاء الآخرين وخاصة إسرائيل، لأن ثمن ذلك قد يكون باهظاً على عدة مستويات ومجالات. ورغم ردود الفعل التركية المتعددة إزاء الممارسات والمواقف الإسرائيلية المختلفة ومواقف الرأي العام المتشنجة في كلا البلدين فما زالت الحكومتان تحافظان على علاقتهما الاقتصادية والعسكرية في جميع المجالات، إذ لم تقم تركيا مثلاً بإلغاء أو تجميد عقود التسليح أو الدفاع أو التجارة مع إسرائيل على الرغم من اقدام تركيا على عدم السماح للجيش الإسرائيلي بالمشاركة في المناورات العسكرية لحلف شمال الاطلسي في آواخر العام 2009.  

ولا يبدو أن لكلا الطرفين مصلحة في تعميق الخلافات القائمة بينهما أو تطوير مداها ومضمونها بغض النظر عن حجم الضرر أو استفادة هذا الطرف أو ذاك من ذلك، بل إن أمر العلاقات التركية الإسرائيلية ومستقبلها على ما يبدو، قد يتجاوز مصلحة البلدين.  إذ أن توتر العلاقة أو القطيعة بين الطرفين قد يُلحق الضرر بكثير من الأطراف الدولية والإقليمية ومنها العربية وبالتحديد سوريا أذ قد صرح الرئيس السوري بشار الأسد مطالباً تركيا بتحسين علاقاتها مع حليفها الإسرائيلي، وذلك حتى تضمن مجدداً القيام بدور الوساطة بين سوريا وإسرائيل. فإذا رغبت تركيا الدخول على خط مفاوضات السلام الإسرائيلية العربية ينبغي أن تكون لديها علاقات جيدة مع هذه لدولة .

الإستراتيجية التركية على يقين أن أميركا لن تستطيع  في المستقبل، إن تستمر مستفردة بقرار المنطقة. لذلك اتجهت تركيا لاعتماد إستراتيجية خاصة بها في المنطقة لا يكون فيها ارتباط عضوي كلي مع الولايات المتحدة ولا يكون فيها أيضاً مواجهة أو عداء لأميركا حتى في إطار علاقتها مع إسرائيل. ويعي أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركية، والمنظر الاستراتيجي، أهمية تركيا استراتيجياً لواشنطن؛ بحيث يربط بين مصالح تركيا الوطنية وتحقيق المصالح الأميركية، في قوس جغرافي كبير ممتد من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط، حتى شرق المتوسط . حيث يسند دائماً سياسات تركيا الخارجية إلى تناغمها مع المصالح الأميركية، بمعنى آخر، إن من خلال تحقيق تركيا لمصالحها في جوارها الجغرافي يعني تحقيق الولايات المتحدة الأميركية لمصالحها هناك أيضاً .

هذا الواقع ملموس من خلال تتبع الموقف التركي من القضية الأذربيجانية، حيث أن سياسة تركيا حيال الصراع الأذربيجاني_الأرميني وانحيازها لمصلحة أذربيجان، من منطلق إن ضعف أذربيجان المهمة جغرافيا والغنية بموارد الطاقة، سيخسر التحالف الأطلسي التوازن في كامل القوقاز وآسيا الوسطى لمصلحة موسكو وتحالفاتها هناك، وبالتالي أضعاف للنفوذ الأمريكي. كما أن قدرات تركيا الاقتصادية والعسكرية، وتحالفاتها الدولية، لا يمكنها أن تؤهلها مع ذلك، من لعب دور إقليمي في كل جهات جوارها الجغرافي. سواء في البلقان أو القوقاز، أو الشرق الأوسط أو البحر الأسود، وحتى شرق المتوسط، إذ لا يستطيع لعب هكذا دور سوى القوى العظمى، وتلك بديهة من بديهيات العلاقات الدولية .

وتحاول تركيا أن تخفف من أعباء علاقتها مع إسرائيل حتى تتمكن من ممارسة دور الدولة الإقليمية الكبرى في محيطها. وتركيا تعمل على امكانية الحفاظ على علاقتهم مع الولايات المتحدة دون المرور بإسرائيل. وفي المنظور الإستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي، تركيا تشكل ركناً لا يستغنى عنه في أي رؤية تعد للشرق الأوسط، وهي حالة إستراتيجية، يفرضها الموقع الجيوسياسي لتركيا في أوجهه الأساسية، خاصة الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن العسكرية. والولايات المتحدة باتت مدركة للصعوبات التي تواجهها في المنطقة وترى في تركيا احتياطاً إستراتيجي يمكن الركون علية ليشكل عامل استقرار وحاجة ملحة في الأزمات المعقدة.

ولتدعيم الدّور الإسرائيلي في الشرق الأوسط ترى إسرائيل أنّ توطيد علاقاتها الإستراتيجيّة مع تركيا من شأنه أن يدعم دورها الإقليمي في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والأمنيّة على الرغم من كل ما تشوب العلاقات بين البلدين حالياً من شوائب إذ أنّ تلك العلاقة تمنحها بطاقة دخول رسميّة أخرى غير معاهدات السّلام العربيّة الإسرائيليّة، إلى منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى عبر دولة إسلاميّة. كما أنّ تعاونها الاقتصادي مع تركيا سيمنحها القدرة على طرح نموذج لكيفيّة التعاون بين دول المنطقة. إضافة إلى سعيها لمواجهة الدول الإقليميّة في المنطقة وهي إيران، سوريا، مصر، والسعودية. التي قد تحاول ايجاد نوع من التوازن الإستراتيجي مع تركيا وإسرائيل.

وتعلق اسرائيل آمالاً من خلال توطيد علاقتها مع تركيا، على أن تكون بوابة دخول لها إلى الدّول الإسلاميّة في آسيا الوسطى، حيث الموارد الاقتصاديّة الهامّة هناك وبخاصّة البترول، وذلك لأنّ تركيا تربطها بتلك الدول علاقات دينيّة وتاريخيّة وقوميّة وجوار جغرافي.

فالإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية تتقن فن الواقعية السياسية. والعمل على محورين، حتى ولو كان اتجاههما الظاهر متعاكساً. حيث لا يتم الدخول في لعبة سياسة آحادية الاتجاه، بل يتم الاعتماد على الثنائية القائمة على اتجاه رئيسي للحركة المباشرة. واتجاه فرعي أو غير مباشر، مرادف لبعض القوى الإقليمية صاحبة القدرة على المناورة وصاحبة المصلحة في العمل ذاته .

وتطبيقاً لهذا المبدأ، فإن إسرائيل والولايات المتحدة قد لا ترى خطر إستراتيجي في التحرك التركي الجديد في الشرق الأوسط، وتحديداً باتجاه سوريا وإيران. والدخول المباشر على خط القضية الفلسطينية، لانتاج تفاهمات إستراتجية معهما. إذ لا يكون هذا التحرك في نهاية المطاف خطراً إستراتيجياً على كلا الدولتين.

وتطبيقاً لهذا المبدأ، فإن إسرائيل والولايات المتحدة قد لا ترى خطر إستراتيجي في التحرك التركي الجديد في الشرق الأوسط، وتحديداً باتجاه سوريا وإيران. والدخول المباشر على خط القضية الفلسطينية، لانتاج تفاهمات إستراتجية معهما. إذ لا يكون هذا التحرك في نهاية المطاف خطراً إستراتيجياً على كلا الدولتين.

فالتفاهم التركي الإيراني السوري بأبعادة اللبنانية والفلسطينية، قد يشكل نافذة آمنة للولايات المتحدة وإسرائيل، في مرحلة تمهيدية وانتقالية نتيجة الوقائع المستجدة في المنطقه. سواء على صعيد اخفاق الولايات المتحدة في العراق وافغانستان من جهة، أو على صعيد اخفاق إسرائيل في مواجهة المقاومة اللبنانية في الجنوب اللبناني أو المقاومة الفلسطينية في غزة. تمهيداً لكسب وقت تحتاجه تحديداً إسرائيل، من أجل إعادة رسم وتحديد امكاناتها العسكرية واستخلاص العبر من اخفاقاتها العسكرية .

فالولايات المتحدة وإسرائيل حريصتا على علاقاتهما الإستراتيجية مع تركيا. والتحرك التركي ونتائجه، قد تقدم لهما أهداف إستراتيجية منها :

1- إقامة التوازن مع إيران في المشرق العربي خاصة من باب دعم القضية الفلسطينية.

حتى لا تبقى إيران وحدها من الدول الإسلامية ممسكة بهذا الملف من حيث دعم الفلسطنيين، ونقد المواقف العربية المتعاجزة في مواجهة إسرائيل. فنجاح تركيا في إقامة مثل هذا التوازن يشد انتباه الفلسطنيين إليها، للأمساك بالورقة الفلسطنية، وعدم ترك الساحة خالية أمام النفوذ الإيراني. ولكن هذا الطموح أمامة عقبات كثيرة. أقلها، ما يتأتى عن الواقع الجغرافي، ووجود قوى مقاومة أساسية لا يمكن لها، أن تقدّم تركيا على إيران، ولو كانت لا ترفض مساعدة الطرفين معاً. كذلك الآمر فيما يتعلق بتركيا فهل من مصلحتها الإستراتيجية لعب مثل هذا الدور وهل تضمن إسرائيل تركيا على هذا الصعيد الإستراتيجي ؟

2-  تقديم فرصة لسوريا للتخفيف من اعتمادها على إيران كحليف إستراتيجي.

من ثم العمل على ابعاد البلدين عن بعضهما، وهذا المنطق تعول عليه أطراف عدة بشكل بالغ. لأنه يشكل المدخل الفعلي لتطمين إسرائيل، عبر تشتيت جبهات المقاومة المدعومة من إيران. ولكن يبقى دون هذا الطموح الإستراتيجي عوائق لا يستهان بها، منها ما يعود إلى طبيعة العلاقة بين سوريا وإيران، ومنها ما يعود إلى الإستراتيجية السورية التي ترى قوتها تكمن في ذاتها،  وفي اتساع مروحة تفاهماتها أو تحالفاتها، الآمر الذي يمنعها من الدخول في عملية الاستبدال ويدفعها في عملية التراكم التحالفي.

3- إسرائيل لا يمكنها في ظل الواقع الحالي الاستغناء أو التفريط بعلاقتها مع تركيا.

لذلك قد تكون مضطرة لمراعاة بعض المواقف التركية وتفهمها، صوناً لهذه العلاقة الإستراتيجية. ومن هذا المنطلق قد تستفيد أميركا من الآمر دون أي احراج لها. حيث يتم انشاء  قوة  ضغط إقليمي على إسرائيل، دون أن تتسبب في احراج الإدارة الأميركية أمام الكونغرس أو الهيئات الآخرى التي تخضع بشكل أو بآخر لضغط اللوبي اليهودي .

الولايات المتحدة قادرة لو شاءت الضغط مباشرة على إسرائيل لتدفعها لفعل شيء ما _ خاصة بعد العام 2006 حيث ضغطت الولايات المتحدة على إسرائيل انذاك من خلال وزيرة الخارجية الأمريكية كوندا ليزا رايس من أجل عدم وقف عدوانها على لبنان مما أدى إلى أطالة آمد الحرب لمدة 33 يوم  _ لكنها لا تريد ذلك حتى لا تضعف إسرائيل، ولكي لا تنكشف أكثر أمام الدول العربية المتحالفة معها. فأمريكا تريد إسرائيل القوية المنيعة، ولكن المنضبطة نوعاً ما. وقد يأتي الموقف التركي في هذا السياق، وبتقاطع مصالح مع جميع الأطراف دون استثناء. لهذا قد يأتي الضغط التركي على إسرائيل منحصراً في الشكليات والجزئيات، أما الأساسيات فلن تكون محلاً له حتى اشعار آخر، أو حتى حدوث تغير جذري في المواقف الإستراتيجية التركية .  

المؤكّد أنّ هناك تآكلاً في العلاقات الإستراتيجيّة بين تركيا وإسرائيل. ولكنّ إسرائيل تدرك أنّ تركيا مازالت تعتبر إسرائيل شريكاً إستراتيجياً لها في الشرق الأوسط، وأنّ هناك مصالح إستراتيجيّة قويّة تربط بين البلدين. ورغم مخاوف إسرائيل من التقارب التركي مع كل من سوريا وإيران، فإنّها تراهن على عدم قيام تركيا بمراجعة علاقاتها الوثيقة بإسرائيل على الرغم من التوتر الحاصل في العلاقات بين البلدين، حتى لو وصل الآمر إلى درجة تخفيف مستوى التمثيل الدبلوماسي أو لو حتى تم تجميدها.

2010-10-19

منظمة التجارة العالمية وحكم القانون







سلام الربضي  | باحث في العلاقات الدولية.

منبر الحرية بالشراكة مع معهد كيتو \ الولايات المتحدة الأمريكية.

19 - 10 - 2010
 
في ظل الحراك العالمي والمستجدات التي تفرضها قضايا العولمة، لا بد من وجود قانون يستجيب لتلك المشاكل المترتبة على فرضية تداخل الفضاءات، ويحدد العلاقة بين الدول والقانون والمجتمع على كافة الصعد. حيث يمكن الاستفادة من هذه المرحلة الحالية التي تشهد إلى حد ما الانتقال من دولة الشرعية إلى دولة القانون.   

فواقع الإدارة العالمية الاقتصادية لن يكون مستقراً، إلا إذا برز نظام كوني متجانس قادر على مواجهة القوى الاحتكارية ، وتطبيق كل قواعد الحكمانية عليها من المجاهرة والإيضاح والشفافية والديمقراطية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية، وهنا تكمن أهمية القضاء ودوره. وإلا فإن كل صيحات الديمقراطية الاقتصادية الجديدة ومضمونها ستكون نظاماً دولياً احتكارياً لم يشهد العالم مثيلاً له. وإذا طغت السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي، فإن كل دعاوى الديمقراطية الاقتصادية التي نسمعها ستكون مجرد همسات في ريح عاتية. وفي حال غياب أداة قادرة على الفصل ـ كالمحاكم ـ تكون قد تركزت دعائم دكتاتورية السياسة الدولية. وفي هذا الإطار يمكن الرجوع إلى عمل منظمة التجارة الدولية لمحاولة فهم هذه المتغيّرات، خاصة نشاطها على الصعيد القضائي.

إن إجراء تقييم دقيق للسجل القضائي لمنظمة التجارة العالمية، يظهر أن النظام قد سجل تقليصاً لدور الدبلوماسية الدولية وعمل بالمقابل على تعزيز حكم القانون. والنزاعات التجارية الدولية الآن تسوّى من قبل منظمة التجارة العالمية، وعلى أساس حكم القانون وليس من خلال اللجوء إلى سياسة القوة المحضة. وتمنح تلك المنظمة كل عضو حقوقاً متساوية وكذلك التزامات متساوية في قبول النتائج، ومن أكثر الأمثلة تعبيراً عن واقع عمل هذه المنظمة على الصعيد القضائي، هو ما يتعلق بقضية الهرمونات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا. والمسيرة القضائية لمنظمة التجارة العالمية أثبتت نجاحها بوجه عام على الرغم من بعض الملاحظات والاعتراضات على مسيرتها القضائية كالاعتراضات على نظام التسويات القضائية للمنظمة مثل سرية المداولات، ونفقات المقاضاة ...الخ .

وتظهر سجلات منظمة التجارة أن عدد الخلافات أو الشكاوي الواقعة بين الدول والتكتلات داخل المنظمة حتى نهاية العام 2005 بلغت نحو 335 شكوى بين الاعضاء، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي  أكثر الدول الشاكية والمشكو منها أيضاً. وتشير إحصاءات المنظمة أن عدد الشكاوي الموجهة من الولايات المتحدة ضد الدول الأخرى بلغت 81 شكوى منذ العام 1995، فيما بلغ عدد الشكاوي ضدها 90 شكوى. والنسبة العظمى من الخلافات التي تم تقديمها إلى المنظمة، مقدمة من قبل الدول والتكتلات الكبرى، فيما الدول النامية والصغرى وهي التي تعتبر الأكثر تضرراً من غيرها من الواقع الاقتصادي العالمي، هي الأقل تقدماً أو تذمراً أمام مراجع المنظمة القضائية.

والقضايا المطروحة في أروقة المنظمة متنوعة منها ما يتعلق بحقوق الملكية، وفرض قيود على حرية وصول المطبوعات، وسياسة الإغراق. وفي نيسان2007 تقدمت الولايات المتحدة بشكوى ضد الصين تتعلق بحقوق الملكية الفكرية، وشكوى أخرى تتهم الصين بوضع قيود على حرية وصول المطبوعات والأفلام والموسيقى الأجنبية إلى الأسواق الصينية. وأصدرت منظمة التجارة العالمية أول أحكامها ضد الصين وشملت القضية ثلاث دعاوى رفعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا في شأن الضرائب التي تفرضها على واردات مكونات السيارات، وهذا أول حكم ضد بكين منذ انضمامها لعضوية المنظمة عام 2001, وطالبت لجنة فض المنازعات في المنظمة من الصين بمطابقة نظام الواردات لديها مع قواعد التجارة العالمية.

والخلافات القضائية داخل المنظمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معظمها قائم، على دعم الدول لصناعتها وزراعتها التي تصب في خدمة ودعم الشركات. وقد تكون المنافسة القضائية بين الشركتين، إيرباص ـ بوينغ تدخل في إطار استراتيجيات الدول التي تعتبر صناعة الطيران صناعة استراتيجية تدخل في صميم الأمن القومي السياسي والأمني والاقتصادي. فالولايات المتحدة قدمت شكوى ضد مؤسسة الطيران الأوروبية، تتهم فيها الحكومات الأوروبية بتقديم الدعم لشركة إيرباص، وتعتبر هذه القضية من أكثر القضايا تعقيداً التي تبت بها المنظمة الدولية. وقد قدمت الولايات المتحدة أدلة على أن السلطات في مقاطعة ويلز، قدمت 9,5 مليون دولار على شكل منحة لتدريب فنيين جدد لطائرة إيرباص A350 المنافسة لطائرة البوينغ 787 حيث يحاول كلا الطرفين تقديم الأدلة والبراهين على مخالفة الطرف الآخر لمبادئ المنظمة ودعمه لشركته الوطنية. ولقد أصدرت منظمة التجارة العالمية حُكمها القضائي المكون من حوالي 1200 صفحة والذي تدين فيه الاتحاد الأوروبي .

قوى السوق بأمسّ الحاجة إلى سلطة القضاء من أجل إعطائها الشرعية القانونية، ومن أجل صون ملكيتها وحماية حرية عملها. والمنظمات غير الحكومية تستطيع أن تلعب دوراً على صعيد العمل القضائي للمنظمة، من خلال الحق الذي أعطي لها في تقديم مذكرات النصح والإشارة لهيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية. ويمكن الاستفادة من السلطة القضائية العالمية للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة في ما يتعلق بقضايا النزاعات المسلحة وانتهاك حقوق الإنسان. فلا بد من الإشارة إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية المتعلق بمسؤولية الاشتراك في الجريمة، والذي يمكن أن يخلق مسؤولية جنائية دولية للموظفين والمسؤوليين. وعلى المجتمع المدني الصغط والعمل لإيجاد تعديلات في نظام المحكمة من أجل إدراج مسؤولية المؤسسات عن الانتهاكات، في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.  

المجتمعات بحاجة إلى قوانين مالية واقتصادية وسياسية تنظم حركة الأسواق الاقتصادية بكافة جوانبها، والقضاء قد يكون مدخلاً لهذه الحركة. وإلى أن يتم الاتفاق على وضع تلك القوانين، يبقى القضاء وقدرته على الحركة ـ خاصة  من باب الاجتهاد ـ المدخل الأسهل والأسرع لمعالجة هذا الوضع. وفي إطار لعبة السلطة والسلطات المضادة يمكن للقضاء أن يملأ الفراغ الناتج عن هذه المتغيرات، سواء على صعيد الفاعلين من شركات، منظمات غير حكومية، حكومات، منظمات دولية، أفراد، أو الأسواق وضروراتها. وفي ظل عصر السوق لا يمكن إيجاد توازن بين كل تلك الجهات سوى من خلال القانون. وفي ظل غياب مدلول قانوني معولم واضح لكثير من القضايا الشائكة. وقد تكون قرارات واجتهادات المحاكم المدخل لواقع جديد يتبلور في ظل التباين في العلاقة بين العولمة والقانون.

2010-10-16

إسرائيل والمقايضة الإستراتيجيّة







سلام الربضي \ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية
صحيفة العرب اليوم \ عمان
16-10-2010

إنّ التأكيد على يهوديّة إسرائيل "إسرائيل الجديدة" بالمعنى الإثني الأيديولوجي له مخاطره على حقّ العودة وعلى عرب 1948 . وإسرائيل تسعى دائماً لاقتاع العالم بأنّ مساحتها البالغة21 ألف كيلومتر مربع هي مساحة لا تساوي شيئاً إزاء مساحة العالم العربي البالغة 14مليون كيلومتر، وبالتالي لا بدّ من إسهام الدول العربية في حل مشكلة الحيّز الديمغرافي بين إسرائيل وجيرانها في فلسطين.

وتنظر إسرائيل إلى مفهوم الدولة اليهودية ليس كدولة تشمل المواطنين اليهود داخل حدودها، بل هي أيضاً الناطقة بأسم جميع اليهود المنتشرين في مختلف بلدان العالم والمدافع الأول عن مصالحهم. وهي الدولة الوحيدة التي يمارس فيها التطابق في شكل كامل بين الدين والقومية ويتم فيها اتباع معايير وأدوات دينية لفحص الانتماء إلى هذه القومية حيث ينشغل القادة الإسرائيليون بالسؤال :
                  من هو اليهودي؟ وليس من هو الإسرائيلي؟
وتكمن الخطورة في هذا الموضوع من الناحية الإستراتيجيّة أن تتمّ المقايضة من قبل إسرائيل بين تعويض لليهود الذين غادروا الوطن العربي من العام 1948 بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين. وممّا يؤكّد هذا التّوجّه العودة إلى محادثات كامب دايفد في تموز2000 حيث خلق الرّئيس الأميركي بيل كلينتون ربطاً مباشراً، بين حقوق اللاجئين الفلسطينيين وحقوق اللاجئين اليهود الذين اضطرّوا إلى مغادرة دول عربية، ومن بينها العراق وقد اقترح انشاء صندوق دولي يعالج مطالب اللاجئين العرب واليهود.

وتركز الحكومة الإسرائيليّة والوكالات الدوليّة اليهوديّة منذ عام 2002على قضية التعويضات. وقد تمّ انشاء مركز معلومات في وزارة العدل الإسرائيليّة في أيار 2002 متخصّص في ممتلكات اليهود الذين غادروا البلاد العربية سواء كانوا موجودين في إسرائيل أو في باقي دول العالم.

وتشير الدراسات إلى أنّ عدد اليهود في الدول العربية وصل إلى ما يقارب 700ألف نسمة من العام1950 . وعلى سبيل المثال لا الحصر، يبلغ عدد اليهود الذين غادروا العراق خلال الفترة التي تلت حرب 1948 ما بين 130 _150 ألف نسمة، وتمّ جذب ما يقارب 240 ألف يهودي من المغرب بعد عام 1948. كما يبلغ عدد اليهود من الجزائر الذين تمّ جذبهم إلى إسرائيل في عهد بومدين ما يقارب 141ألف نسمة. ولقد غادر حوالي 50 ألف يهودي يمني في نفس تلك الفترة أي بعد حرب 1948، ولم يبق في اليمن سوى 250عائلة يهودية فقط.

وترغب إسرائيل ربط حق تعويض اليهود العرب في إسرائيل بحق تعويض اللاجئين الفلسطينيين. وهذا الرّبط هو بداية منظمه لتحقيق المصالح الإسرائيلية فيما يتعلق بقضايا حق العودة والتعويض، وبالتالي تهميش القرار 194 الذي يقضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في أقرب فرصة ممكنة والتعويض عن الأضرار النفسيّة والماديّة التي لحقت بهم جرّاء طردهم من ديارهم مما يفتح الباب على مصراعيه أمام إسرائيل في تحقيق مصالحها المنبثقة عن ضعفها الديمغرافي والجغرافي.

ولقد ارتفعت في السّنوات الأخيرة وتيرة الحديث عن ملفات التعويض لليهود من أصول عربية. وفي إسرائيل أصبح هناك تيار سياسي تبنّّّته كل الجاليات اليهودية من أصل عربي في إسرائيل للمطالبة بتلك الحقوق. وهذه الحركة المدنيّة الداخليّة في إسرائيل لا تخرج عن إطار المصالح الإستراتيجيّة العليا لإسرائيل. فمثلاً في عام 2004، تمّ فتح ملف تعويض الليبيين اليهود عمّا فقدوه من ممتلكات لدى هجرتهم إلى إسرائيل، وذلك بعد أن أعلنت ليبيا عن استعدادها للنظر في دفع مبالغ ماليّة لإنهاء خصومات تاريخية.

وفي سياق إستراتيجية إسرائيل المتعلقة بنعويضات اليهود العرب، فالهدف أيضاً هذه المرة أرض الكنانة والقضية قضية يهود مصر، فجاء التخطيط لعقد مؤتمر دولي ليهود مصر في القاهرة في شهر أيار من العام 2008 بمشاركة السفير الإسرائيلي بمصر. وخيراً فعلت السلطات المصرية عندما أحبطت هذه المؤامرة بعدم سماحها بعقد المؤتمر وهي كانت فعلت نفس الشيء عام 2006 فلم توافق وقتها على عقد المؤتمر العالمي ليهود مصر على أراضيها فعقد في جامعة حيفا تحت شعار نحن أبناء الخروج الثاني من مصر. وتحاول إسرائيل عبر هذه المؤتمرات المطالبة بتعويضات عما يسمى بممتلكات اليهود المصريين المهاجرين من أرض الكنانة، وضمن حملة منظمة اللوبي الإسرائيلي عالمياً تم الضغط على الكونغرس الأمريكي الذي أصدر قراراً يعتبر أن اليهود الذين غادروا بعض الدول العربية في حكم المهاجرين.

من الضروري الإقرار بأن تهويد فلسطين من البحر وحتى الحدود المفترضة للدولة الفلسطينية العتيدة هدف عقائدي اسرائيلي قائم في كل آن وحين، وإسرائيل اليهوديّة، مشروع إسرائيل المستقبلي والمصيري، هو الذي يحدّد طموح ورؤية المصالح الإسرائيليّة، وهو مشروع قائم على الأبعاد الدّيمغرافيّة والجغرافيّة. ويعتبر موضوع التعويض المادي والمعنوي ليهود العالم العربي بالنسبة لإسرائيل أحد أهمّ أوراقها المستقبليّة في إطار مشروعها إسرائيل اليهودية ، أو في إطار مفاوضاتها النهائيّة مع الفلسطينيّين لمقايضتهم مع حقوق اللاجئين الفلسطينيّين الذين صدرت في شأنهم قرارات دوليّة تضفي شرعيّة قانونيّة على حقوقهم، بعكس نظرائهم اليهود.

ستبقى إسرائيل حذرة في كشف أوراقها الاستراتيجيّة وفتح هذا الملف الآن خشية ظهور مطالب فلسطينيّة مقابلة لمطالبها، ممّا يضع الدّولة العبريّة في موقف حرج ولكن ورقة تعويضات اليهود العرب ستبقى ورقة إستراتيجيّة تخدم المصالح الإسرائيليّة.


2010-10-09

المسيحيون العرب





سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية 

صحيفة العرب اليوم \ عمان 

4 \ 1 \ 2011


إن القضايا الحضارية لا تعالج بمرسوم ولا تلغى أو توضع موضع التنفيذ بانقلاب عسكري ولا حتى بثورة . فالقضايا الحضارية موضوع شائك ومعقد لما هي عليه من اتساع في المدى وتنوع المعطيات. وإن المناخ الإيجابي الذي ساد عصر النهضة، خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تبدل ومال إلى السلبية لا بل يهدد بالانفراط. إذ يعيش عدد كبير من المسيحيين اليوم في لبنان والبلدان العربية الأخرى في حالة نفسية قلقة. ولقد اتخذت تلك المشاكل أشكالاً وأنماطاً مختلفة :

1-  شكل الهجرة في العراق وسوريا ومصر.
2-  شكل الإنزاوء في السودان.
3-  شكل الأزمة الحادة النفسية بين الأقباط والمسلمين في مصر.
4-  شكل الأزمة الحادة الصاخبة في لبنان.

إن هذه المسألة متعددة الجوانب ومعقدة العناصر :

-       منها ما هو عفوي، وهو السائد في الوسط الشعبي.
-       منها ما هو من تأثير التاريخ المتمادي.
-       منها ما هو مفتعل لأغراض المصالح الداخلية.
-       منها ما هو مصطنع بفعل القوى الخارجية.

وهناك معضلة لا بد من إدراكها ومن ثم معالجتها، فلقد تجاذب المسيحيون تياران :

أ- تيار الاغتراب وحتى الانفصال.
ب- تيار التكامل والتناظم.

وهذه التيارات ناتجة عن عوامل عدة في البيئة المسيحية:

1- الخوف من طغيان الأكثرية العددية.
2- الجاذبية الأوروبية )الغربية(.
3- العالمية الدينية المسيحية.

فهنالك خوف من الطغيان العددي حيث لا يرضى المرء أن يكون من حيث وضعه القانوني في مرتبة أدنى أو هامشية، حيث إذ نص الدستورعلى أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، فيما أن الدين الآخر، خارج النظام الإساسي للبلاد. كما إن السائد في الغرب من مساواة، وحرية، ورفاهية نفسية ومادية، والذي اتصل به المسيحيون من زمن بعيد، ولا يزالون يتصلون به باستمرار، يخشون أن يفقدوه كلياً أو جزئياً. وهناك رابطة وشعور تجذب المسيحي في الوطن العربي وخاصة لبنان، إلى الرابطة المعتقدية التي تشده إلى باقي مسيحي العالم.ونتيجة فقدان الجاذبية القومية الشديدة والشبه مفقودة، كي تربط المسيحيين بباقي أبناء وطنه ومجتمعه.إذ تتخذ صلة المسيحي بمسيحي الخارج طابعاً أكثر تأثيراً بنفسه. وعلى الرغم من الكثير من المآخذ والاخذ بعين الاعتبار التفاوت من بلد لآخر في معالجة هذه المسألة إلا إن المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة لا تسيء معاملة المسيحي على صعيد التعامل الاقتصادي والعمل، ولا على الصعيد التربوي والمشاركة الفكرية والعلمية. ولا نريد الغوص في هذا الإطار، خاصة إذا نظرنا للموضوع نظرة موضوعية وليست عاطفية.

وعلى سبيل المثال هذا ما يقع فيه المسيحي اللبناني، ووقع بمثله المسلم اللبناني أيضاً. وهكذا تضعف الرابطة الوطنية لصالح الرابطة الدينية، ويغلب الولاء الديني على الولاء الوطني، بل ويحل محله. وهذا الواقع ليس له مثيل في دنيا المسيحيين الأوروبيين، فالمسيحي الأوروبي، لا يغلب ولائه الديني على ولائه الوطني، ولقد رأينا كيف قامت كثير من الحروب بين شعوب تنتمي للمسيحية، وهذا الواقع ليس له مثيل أيضاً في دنيا المسلمين، بمن فيهم مسلمي العرب، فالخلافات بين الدول الإسلامية، أكثر من أن تحصى، بل هناك دول إسلامية تتحالف مع دول غير إسلامية، ضد دول إسلامية، وبالتالي فإن الرابطة الدينية خارج لبنان تأتي بعد الرابطة القومية.

هذا الاتجاه لا يشمل كل المسيحيين في الوطن العربي. فهناك مسيحيون جعلوا المشاركة المسؤولة الكاملة، قاعدة فكرهم وسلوكهم، فهم لا يعتبرون أن للمسلمين عليهم مسبقاً في أي مجال وطني، ثقافياً أو اقتصادياً أو سياسياً، بل يعتبرون أن مسؤولية تقدم المجتمع الذين يحيون فيه ) مسلميه ومسيحيه( تقع على عاتقهم كما على عاتق أي مواطن.ومن هذا فعلى الوطن العربي أن يؤمن بأن الوجود المسيحي العربي – كما كان عبر القرون – هو اليوم وغداً، مكسب عربي، لما يضيف إلى الجسم الوطني من خصائص، ولما يحققه من تعددية روحية، تضمن الانفتاح، وتعميق جذور المساواة والحرية. 

فالعرب لا يمكن أن يكونوا مسلمين فقط، ولا المسيحيون العرب يمكن أن يكونوا مسيحيين فقط. والتاريخ يعلمنا أن الاستقلالات الوطنية أصبحت تقسيماً جغرافياً فحسب، وليس تقسيماً حضارياً بفوارق أساسية.



For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com