‏إظهار الرسائل ذات التسميات العلاقات الدولية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العلاقات الدولية. إظهار كافة الرسائل

2025-05-22

السؤال المنطقي ليس ما إذا كانت الصين ستصبح القوة العظمى الأولى؟ بل متى؟

 



د.سلام الربضي: مؤلف وباحث في العلاقات الدولية.

     إذا كانت قد استطاعت حروب التعريفات الجمركية والمواد النادرة بين الصين والولايات المتحدة، أو حروب أوكرانيا وغزة ولبنان واليمن وسوريا، إعادة  طرح علامات الاستفهام حول موازين القوى العالمية، ولكن هنا يجب الأخذ بعين الأعتبار على عكس ما هو شائع لدى كثير من النخب الأكاديمية، بأن التغيرات في موازين القوى على مستوى العلاقات الدولية، لم تعد خاضعة إلى حد كبير إلى لعبة صفرية النتائج Zero-Sum Game بل على العكس من ذلك أصبحتNon Zero-Sum Game. بمعنى، أن زيادة نفوذ وسلطة وقوة دولة ما، لا تعني بالضرورة، فقدان الدول الأخرى لنفوذها. كما أن كون دولة ما، هي أقوى دولة  فهذا لم يعد يعني احتكارها للقوة بشكل مطلق. وبالتالي  تبقى جميع الطروحات التي تشير وتتنبأ بأفول أو صعود القوى العالمية، خاضعة للنقاش وعدم اليقين. حيث ليس هناك منهج علمي يسمح بتنبؤات دقيقة حول مستقبل النظام العالمي.

       وفي هذا السياق، يمكن لنا التطرق إلى إشكالية محاولة المقارنة بين قوة الصين المتصاعدة ومكانة الولايات المتحدة المتراجعة. وهنا يجب لفت الانتباه، إلى أن هذا التراجع يعود إلى التغير في طبيعة النظام العالمي، أكثر مما يعود إلى ضعف الولايات المتحدة العسكري أو السياسي أو الاثنيـن معاً، نتيجة حتمية نسق التغيرات العميقة الذي أصاب بنية المجتمع العالمي. حيث باتت العلاقات الدولية المعاصرة، ترتكز على نسق ذو قوة موزعة أكثر مما هي مركزة، إذ يوجد هنالك تقاطع وتشابك في النفوذ. ولكن ومع  كل تلك المعطيات، لا يمكننا تجاهل طرح إشكالية :

كيف إن النفوذ الحقيقي لقوة الولايات المتحدة، لم يدوم لأكثر من 25 عام؟   

كما أنه وفقاً إلى الاستنتاجات القائمة على استقراء حيثيات سقوط الامبراطوريات أو واقع السياسة العالمية الحالي، يتضح أن الانحدار النسبي لقوة الولايات المتحدة، سيبقى مستمراً  بغض النظر عن محاولات استدراكه. وبناء على ذلك، قد تكون أكثر التساؤلات المنطقية باتت تتمحور حول ليس إذا كانت الصين سوف تصبح القوة العظمى الأولى عالمياً، بل متى؟  وهل ترغب الصين أو تُفكر فعلياً بتولي مسؤولية قيادة العالم، وفي حال كانت لديها هذه الرغبة فهل هي جاهزة لفعل ذلك، وهل ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية في الوقت الراهن؟

 فانطلاقاً من تداعيات الحروب والنزاعات والأزمات الأخيرة على كافة الستويات (السياسية والاقتصادية والثقافية) يمكن تناول إشكاليات تصنيف النظام العالمي والمرتبطة بمصطلحات الأحادية القطبية أو الثنائية والتي باتت بلا معنى. حيث يبدو من الصعوبة بمكان ما، رؤية نظام عالمي يتحكم فيه قطب واحد أو حتى قطبين. وذلك بسبب عوامل نوعية كثيرة  سواء كانت عسكرية،اقتصادية،سياسية،ثقافية، بيئية،تكنولوجية..الخ، والتي أصبحت من أهم محددات العلاقات الدولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1-      لا توجد دولة واحدة، تتمتع بتفوق في جميع عناصر القوة.

2-      تداعيات عصر المعرفة العابر للحدود السياسية والثقافية والأمنية.

3-      بروز ظاهرة الإرهاب بكافة تجلياتها.

4-      إشكاليات المسألة البيئية وقضايا الديمغرافيا والهجرة.

5-      وتيرة التطورات العلمية والكنولوجية على كافة المستويات.

6-      تشابك الاقتصاد العالمي، وتعدد نفوذ كثير من القوى بداخله.

7-      التحولات في معايير قياس القدرة العسكرية.

وبالتالي يمكن القول، إن عالم العلاقات الدولية خاضع اليوم لنظام عديم القطبية، نتيجة حتمية نسق التغيرات التي زادت من حجم التعقيدات المرتبطة بقضايا الإرهاب، والبيئة، والتكنولوجيا، والإعلام، المواد النادرة، الفيروسات الحقيقية والالكترونية..الخ. وهذا النسق يدعم النظام عديم القطبية، وفقاً لعدة اتجاهات، ومنها:

1-      كثير من التدفقات تتم خارج سيطرة الدول وبالتالي تحد من نفوذ  القوى الكبرى.

2-   بعض التطورات تخدم الدول الإقليمية وتزيد من هامش فاعليتها واستقلالها.

3-                         وجود ثروات هائلة تخضع لقبضة أفراد وقوى فاعلة جديدة.

وعلى نور ما تقدم، يجب التنبيه إلى أننا حالياً في عصر بعيد كل البعد عن التصنيفيات الكلاسيكية المرتبطة بمصطلح القطبية، ناهيك بصعوبة فهم التحولات البنيوية الضخمة على صعيد هيكلية الاقتصاد العالمي وواقع السياسة الدولية فهماً كاملاً. وبالتالي يجب الأخذ بعين الأعتبار، حتى لو كان نظام عدم القطبية حتمياً ولكنه يستوجب الحذر حيث قد يولد مزيداً من العشوائية وعدم الاستقرار. ومنطقياً الإشكالية تكمن هنا في كيفية إيجاد ذلك النوع من التوازنات حول تشكيل عالم عديم القطبية؟

فعندما نتحدث عن التوازنات نستحضر حقيقة أن نسق الانتظام لن ينشأ من تلقاء نفسه، وحتى في حال تم ترك النظام عديم القطبية يعمل وفقاً لعشوائيته، فذلك سيجعله أكثر تعقيداً ويتجه نحو المزيد من الفوضى.

     وبناء عليه، يجب توجيه النظر صوب المخاطر المحتملة، فالنظام العالمي عديم القطبية سيُعقد الديبلوماسية السياسية، وستفقد التحالفات الكثير من أهميتها، لأنها تتطلب وجود رؤية استراتيجية لمواجهة تهديدات والتزامات يمكن التنبؤ بها، وكل هذا من المتوقع ألا يكون متاحاً في عالم عديم القطبية. واستناداً إلى ذلك، من الصعوبة بمكان التنبؤ بسيناريوهات المستقبل السياسية والتي تبدو أنها مهمة علمية شاقة، مما يجبرنا تبني وطرح جملة تساؤلات حول طبيعة القوى القادرة على تولي زمام المبادرة  وتحمل مسؤولية القيادة العالمية في ظل نظام عديم القطبية؟


2023-10-21

محور المقاومة وإشكاليات الأمن القومي الإسرائيلي

 


سلام الربضي : باحث ومؤلف في العلاقات الدولية \ اسبانيا

 

      من حيث المبدأ الحروب تأتي استكمالاً للسياسة، ولكن في إسرائيل تبقى الحروب على الإطلاق هي القاعدة والسياسة هي الشواذ. إذ يبقى منبع التناقضات هو غربة إسرائيل الجوهرية والجذرية عن المحيط العربي الذي فرضت عليه، فلا تستطيع أن تكون آمنة إلا بمراكمة وسائل القوة، الأمر الذي يعمق غربتها ويعزز استحالة القبول بها. وهذا أمر غير قابل للديمومة وذلك لا بمزيد من القوة ولا بمزيد من التحالفات (العلنية والسرية)، بما في ذلك توقيع اتفاقيات السلام العقيمة.

     حيث أثبت مسار التفاوض العربي الإسرائيلي منذ العام 1991 مروراً إلى اتفاقيات طابا واسلو ووداي عربه وصولاً إلى ما يسمى الاتفاقيات الإبراهيمية مع بعض دول الخليج عام 2020، عجزها الشامل عن ردع إسرائيل. حيث لم تؤدي سياسة التكيف أو التحالفات الأمنية وتعظيم التعاون الاقتصادي إلى أي نتيجة تُذكر على صعيد تغيير المواقف العدائية الإسرائيلية. بل على العكس من ذلك، لقد زادت من حدة تصلبها وتعنتها. حيث كانت وما تزال دولة الاحتلال تعالج إشكالياتها الأمنية من خلال إستراتيجية ترتكز على اللاءات المعهودة والتي تعكس ثوابتها الأمنية، والتي من أهمها:

-    لا للانسحاب الكامل إلى حدود 1967.

-    لا لدولة فلسطينية ذات استقلال كامل.

-    لا لإيقاف علميات الاستيطان وتفكيك المستوطنات.

-    لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين.

-   لا لامتلاك أي دولة عربية وإقليمية لبرنامج نووي.

-    لا لأي خلل في موازين القوى العسكرية .

       وبناء على ذلك لا يزال التفوق العسكري العنصر الرئيسي الذي ترتكز عليه دولة الاحتلال من أجل الحفاظ على وجودها. إذ يبقى تفردها في هذا المجال هو الدعامة الحقيقية لحمايتها حتى في حالة تحقيق السّلام. فنظريّة الأمن القومي الإسرائيلي ستبقى على الدوام قائمة على مبدأ أن كيان الاحتلال يقوم على مساحة محدودة جغرافياً. وبالتالي، طالما هنالك عطوبية على مستوى العمق الاستراتيجي لا بد من الاعتماد على قوّة ردع ضاربة، تحفظ لإسرائيل ديمومتها. ولكن ونتيجة للانتصارات الاستراتيجية لمحور المقاومة في حرب تموز 2006 مرروراً بحروب غزة (2008-2021) والحرب العالمية على سوريا(2011-2019) بات هنالك استحقاقات ينطوي عليها تهديدات مستقبلية على مصير دولة الاحتلال الإسرائيلية.

     وفي هذا الإطار لقد جاءت انتصارات المقاومة الفلسطينة في غزة في تشرين الأول 2023 امتداد لهذا النسق التصاعدي على صعيد إعادة التوازن والرعب الاستراتيجي بين محور المقاومة ودولة الاحتلال، التي تلقت عدة هزائم قاسية أوصلتها إلى مرحلة العجز المطلق. وهذا الواقع الجديد لا ينفصل عن صيرورة الانتصارات منذ حرب تموز 2006 وما تلاها والتي نتج عنها كثير من التطورات الجيوسياسية، التي تتعلَّق بتعاظُم قوَّة محور المقاومة: ومنها:

-  أكتساب تجربة قتالية غير تقليدية: حيث أصبح هذا المحور قادراً مستقبلياً على خوض معارك متعددة المستويات تتطلب تنسيقاً لوجستياً ضخماً.

-  تغير المفهوم العسكرى القائم على الاستنزاف والدفاع واستبداله باستراتيجية هجومية وقائية:  قائم على مبدأ التوغل إلى داخل الأراضي المحتلة، وشن غارات بالآف الصواريخ بذات اللحظة من عدة  جبهات مختلفة، وبالتالي تغيير معادلة الردع المتبادل مع إسرائيل بشكل جذري.

   وهذا بالفعل ما تم تجربته بشكل مصغر على أرض الواقع في حرب غزة عام 2021، حيث استطاع محور المقاومة عبر حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس من اعتماد هذه الاستراتيجية التي ثبت نجاعتها. حيث لم تستطيع القدرات العسكرية الإسرائيلية مواجهة واعتراض مئات الصواريخ التي تم إطلاقها من غزة في ذات اللحظة ومن مواقع مختلفة. وعليه، هذه التحديات تطرح علامات استفهام حقيقية والتي تدور حول التساؤل التالي:

هل دولة الاحتلال الإسرائيلية قادرة على مواجهة كل تلك التحديات في أي حرب مستقبلية؟

 

     من المنطقي القول أن طبيعة التحديات التي تواجهها دولة الاحتلال على مستوى بنية ومفهوم أمنها القومي قد تغيرت في شكل دراماتيكي وجوهري ، ومن تلك التحديات :

 

1-    أصبح لدى محور المقاومة قدرات تسليحية ضخمة تستطيع تغطية كل نطاق دولة اسرائيل.

2-     امتلاك الجيش السوري وحزب الله خبرة عسكرية هجومية نتيجة حرب العصابات مع الحركات الأرهابية المدعومة من الغرب وإسرائيل.

3-    تطوير محور المقاومة لاستراتيجيته العسكرية القائمة على ضرب تفوق إسرائيل الجوي والبحري.

    

     وهنا يجب الاعتراف بإن انتصارات محور المقاومة على إسرائيل في حروب لبنان وغزة وسوريا باتت تمثل تحدياً حقيقياً لقوتها الردعية هي منعطف استراتيجي ويزيد من تعقيدات عمل أجهزتها الاستخبارية. حيث أصبحت تعاني من فقدان أهمّ عناصر الرّدع لديها وإن أي مواجهه عسكرية جديدة ستكون معقدة وستصل إلى كل رقعة على مساحة إسرائيل نفسها.  فهي لم تكن في يوم من الأيام مُهددة مثل ما هو شأنها اليوم، نتيجة تطور ونضج تجارب محور المقاومة، الذي أثبت أنه بات يمتلك رؤية عسكرية وسياسية ذات نهج منطقي وعقلاني على مستوى الفكر والممارسة. فحروب إسرائيل الخاسرة وعجزها عن تحقيق أي من أهدافها في سوريا أو غزة أو لبنان، دليل قاطع على تفوق محور المقاومة على كافة المستويات.

 

     وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن الاحتمال المستقبلي الوارد هو حتماً خيار الحرب والمواجهة الشاملة، والتي لن تكون كما كان يحدث سابقاً كحرب تقليدية على أرض عربية يحسمها التفوق العسكري الإسرائيلي. بل على العكس من ذلك، ستكون حرباً  لا تملك دولة الاحتلال زمام المبادرة بها. إذ ربما تستطيع دولة الاحتلال أن تبدأ تلك الحرب ولكن الأهم من ذلك كيف تديرها وتنهيها؛ إذ بكل تأكيد لن تكون قادرة على حسمها، وستصل تلك الحرب إلى كل شارع داخل إسرائيل نفسها.


      فمبدئياً يمكن التأكيد على إمكانية وقدرة محور المقاومة على شن هجوماً شاملاً على إسرائيل(وليس فقط تبني سياسة دفاعية)، سواء عبر وابل من الطائرات المسيرة والصواريخ من جميع الجبهات(إيران، العراق، اليمن، لبنان، سوريا، غزة)، والذي سيكون مصحوب بهجوم إلكتروني بحيث تعجز منظومة الدفاع "القبة الحديدية" التصدي بشكل كامل لمثل ذلك النوع من الهجوم الواسع القادر على ضرب وتعطيل القواعد الجوية والبحرية ومراكز الجيش والبنية التحتية في كل إسرائيل. ناهيك عن تزامن ذلك مع هجوم بري عبر كل الحدود داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

     على سبيل المثال، ووفقاً للتقارير والدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث والمؤسسات العسكرية الإسرائلية فإن أقله لدى حزب الله تحديداً قدرات عسكرية ضخمة باتت تمكنه من احتلال منطقة الجليل شمالي إسرائيل ، وما إلى ذلك من عواقب وخيمة على الكيان الإسرائيلي. لذلك إذا تم مقاربة المعادلة التي ترتبط بالقدارت الصاروخية للمقاومة والتي تم تفعيلها في حرب تموز عام 2006 (حيفا وما بعد حيفا) وإذا تم إضافة معادلة الطائرات المسيرة والإمكانيات البحرية( كاريش وما بعد كاريش)، فإنه من المنطقي سوف تكون المقاربة المستقبلية القادمة، أقله وفقاً لمعادلة: الجليل وما بعد الجليل!!


2023-06-25

إشكاليات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية في السياسة العالمية



د. سلام الربضي

 

إذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية هي الحدث الأهم الذي سيطر على عام 2022، لكن لعل الدور الحاسم للاعتماد على أسلحة الذكاء الاصطناعي في هذه الحرب سيثير العديد من الإشكاليات المستقبلية المتعلقة بواقع العلاقات الدولية ومستقبل البشرية. وغني عن البيان أن الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية سيكون لهما آثار سياسية وأخلاقية جذرية خطيرة للغاية في جميع القطاعات الاقتصادية والأمنية والقانونية والثقافية والبيئية، ناهيك عن المخاوف بشأن القدرة على التلاعب بالطبيعة البشرية. وانطلاقاً من ذلك، تثير هذه القضايا الكثير من الإشكاليات الإستراتيجية على مستوى العلاقات الدولية، والتي يمكن التعبير عنها من خلال طرح التساؤلات التالية:

1-       ما هي الاستراتيجيات الأخلاقية التي من المفترض أن تلتزم بها خوارزميات الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية؟ ما مدى القلق من احتمال استخدام أسلحة الرياضيات لتحقيق أهداف سياسية قذرة؟

2-       إلى أي مدى يمكن وضع قوانين استباقية قادرة على الحد من هذه الانعكاسات والتصدي لها؟ لماذا هذا التباطؤ العالمي في وضع معايير صارمة للسيطرة على هذه التطورات؟ هل يتطلب هذا الواقع المستقبلي إنشاء دستور أخلاقي عالمي على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟

3-       هل هناك رؤية سياسية على مستوى العلاقات الدولية قادرة على مواجهة هذه التحديات الاستراتيجية؟

 

يجب أن نعترف بحقيقة أن تحديات الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية، بما لها من آثار سياسية وثقافية وأمنية، نادرًا ما تتم دراستها بشكل استراتيجي. وبناء على ذلك، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في هذا الواقع وفق منهج نقدي قائم على رؤية أخلاقية وثقافية وسياسية وأمنية، والتي يمكن تأطيرها وفقاً للإشكاليات التالية:

1-       إشكالية الأمن السيبراني وحروب الفضاء.

2-       إشكالية التحيز الخوارزمي والأمن المجتمعي.

3-       إشكالية معايير مفهوم العدالة الحسابية والمعضلات الثقافية.

4-       إشكالية الحوسبة العاطفية وأتمتة الطبيعة البشرية.

5-       إشكالية الحلول التقنية (النمذجة) لتغير المناخ.

6-       إشكالية الحروب الجيولوجية وهندسة المناخ المستقبلية (أسلحة المناخ).

7-       إشكالية أخلاقية وسياسية للتكنولوجيا الحيوية (ثورة التكنولوجيا الحيوية).

8-       إشكالية الحوكمة والمساءلة والرقابة المتعلقة بالتكنولوجيا.

9-       إشكالية هالة الموضوعية التي تضفيها ثقافة اليوم على الخوارزميات والعلوم.

وبناء على تلك الإشكاليات ستواجه العلاقات الدولية الكثيرمن الجدليات المتعلقة بكيفية تغيير تلك التقنيات لواقع السياسة والمجتمع وحتى الطبيعة البشرية. وعلية من الواضح أن جميع النقاشات السياسية في المستقبل سوف تتمحور حول العلاقة الإشكالية بين السياسة والعلم. إنها العلاقة التي يمكن التعبير عنها من خلال السؤال التالي:

 

إلى أي مدى يجب أن يتم توجيه المجتمعات والتحكم فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية؟وبأي شروط؟

 

في هذا السياق، وعلى الرغم من التعقيدات التي ستواجه إشكالية العلاقة بين العلم والسياسة، إلا أن جدلية تأثير العلم على الطبيعة البشرية ستبقى القضية الأكثر إشكالية. وعليه فالسؤال هو:

 

ماذا لو لم يعد التطور البيولوجي الطبيعي للبشر ضرورياً على الإطلاق؟

 

 حتماً، هناك العديد من علامات الاستفهام فيما يتعلق بالمخاوف والشكوك المحيطة بتطورات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والتقنيات الحيوية، حيث يبدو أنه لم يعد هناك أي ارتباط بيولوجي بين هذه التطورات. لذا فإن إحدى القضايا المستقبلية التي ستنشأ في مجال العلوم الإنسانية هي إشكالية طبيعة علاقة الإنسان بالذكاء الاصطناعي وإمكانية تفوقه عليه ، ناهيك عن الجدليات الكثيرة بين علماء الإنسانيات وعلماء الأحياء وعلماء الأعصاب. ومنطقياً سيؤدي هذا الواقع إلى طرح عدة إشكاليات في العلاقات الدولية حول الحتمية التكنولوجية:

1-       هل هناك أنساق انتقاء جديدة لأن الروبوتات والسلوكيات البيولوجية تتحكم في مصير البشرية أكثر من الجينات؟

2-       كيف يمكن تناول هذه الإنساق  نظرياً وعملياً على المستوى السياسي؟

3-       ما هي القيم الثقافية والأخلاقية التي من المفترض أن يلتزم بها الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية؟ من سيقرر ذلك؟

بناءً على هذه الإشكاليات المستقبلية ومع تشابك الاعتبارات العلمية مع المصالح التجارية، أصبح من الضروري على المستوى السياسي والأخلاقي أن تتدخل الدول. فعملياً كان هنالك سابقاً الكثير عدد من التقنيات غير الأخلاقية التي تم وضعها تحت المراقبة السياسية على المستوى العالمي. قد تكون محاولة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل أو وضع ضوابط صارمة على تجارب الاستنساخ البشري خير دليل على إمكانية السيطرة. وحتماً هذا يتطلب تبني رؤية حديثة معنية بوضع قوانين ومعاهدات واضحة لا لبس فيها فيما يتعلق بمواجهة هذه الإشكاليات، خاصة على مستوى القانون الجنائي الدولي. على سبيل المثال، يجب تعديل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لملاءمة هذه المخاطر والتحديات كنوع من الأمن العالمي الاستباقي، بحيث يتم توسيع اختصاص المحكمة ليشمل الجرائم المستقبلية التي تهدد مصير الإنسانية وتتعلق بـ القضايا التالية:

 

-          ثورة التكنولوجيا الحيوية.

-          تغير المناخ.

-          الذكاء الاصطناعي والحوسبة العاطفية.

 

يتضح من خلال تتبع سياق تطور العلاقات الدولية والقانون الجنائي الدولي على المستويين النظري والعملي ، أنها لا تواكب هذه الأنماط العالمية الجديدة. فمع وجود مفاهيم سياسية فضفاضة وغامضة تبرز الحاجة إلى تبني مبدأ تحمل المسئولية الجنائية بشكل صريح ورادع في ظل الغموض الاستفزازي المصاحب للتكنولوجيا. لذلك، هناك علامات استفهام وشكوك حقيقية وواقعية حول ما إذا كان التطور البيولوجي الطبيعي للإنسان لم يعد ضرورياً على الإطلاق، وذلك نتيجة لتطورات الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية. ومن هنا فإن حقيقة أن إشكالية مسألة التناقض بين مستقبل الذكاء الاصطناعي وثورة التكنولوجيا الحيوية مع الطبيعة البشرية ستفرض نفسها حتماً على الساحة السياسية والأخلاقية. هنا ، يجب طرح الإشكاليات التالية:

 

1-       هل هناك حاجة سياسية ملحة لمعرفة الظروف البيولوجية الطبيعية للوجود البشري؟

2-       هل واقع إشكالية التكنولوجيا يتطلب البحث في طبيعة السياسة أو سياسة الطبيعة؟

باختصار، في السنوات القليلة المقبلة، من المرجح أن يكون لنمط التحولات التكنولوجية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات والتكنولوجيا الحيوية وإنترنت الأشياء تأثير كبير على توازن القوى في السياسة العالمية، مما سيزيد من اعتماد السياسات لتأميم الابتكارات التكنولوجية كمجالات استراتيجية وجزء لا يتجزأ من الأمن البيولوجي والقومي والسيبراني للدول. لذا فإن هذا النسق يتطلب على مستوى العلاقات الدولية طرح التساؤل التالي:

 

هل يجب أن نعرف ثقافة وأفكار العلماء في الذكاء الاصطناعي والطب الحيوي قبل دراسة القادة السياسيين لفهم الواقع الاستراتيجي للسياسة العالمية والعلاقات الدولية ومستقبل البشرية؟


2023-02-18

الصبر الاستراتيجي الإيراني: إسرائيل والحروب الناعمة


 

د. سلام الربضي

للأسف، من خلال تتبع نسق استراتيجيات كثير من الدول القائم على الاهتمام المبالغ فيه بقضايا حقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية في إيران (كقضية وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني)، لم يعد بالإمكان تجاهل وأغفال مدى الاستغلال السياسي والأمني والثقافي الحاصل. وهذا النسق تم اعتماده سابقاً في سوريا مما أدى الى دخولها في مستنقع الحرب منذ العام 2011. وبالتالي وانطلاقاً من تواجد إيران في ذات الاتجاه السياسي تم اتباع ذات النسق، فالمسألة مرتبطة بالدرجة الأولى بمواجهة قوة إيران المتصاعدة.

فمن حيث المبدأ هنالك استراتيجية باتت واضحة ومكشوفه وهي ترتكز على خلفيات ثقافية هدفها الأساس تفتيت المجتمعات من الداخل(الحروب الناعمة). أذ إن كثير من الدول(إسرائيل تحديداً) لا يمكنهما التسليم بتاتاً بواقع وجود إيران كقوة إقليمية كبرى. فعلى الرغم من كل سياسات العقوبات المتبعة لعزل وتهميش إيران خلال 45 عاماً المنصرمة، استطاعت إيران بناء قوتها الذاتية وترسيخ نفوذها الإقليمي.

وبالتالي، لم يعد أمام الدول تلك الدول المعادية لإيران سوى الاتجاه نحو استغلال بعض القضايا الجدلية داخل المجتمع الإيراني المرتبطة بحقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية، من أجل زعزعة استقرارها وأضعافها. ووفقاً  لذلك، توجهت تلك الدول نحو خيار الحرب الناعمة وذلك عن طريق:

  1. التغلغل الثقافي داخل المجتمع الإيراني لتمزيق بنيته السياسية.
  2. دعم الحركات الإرهابية، بما في ذلك محاولة إعادة إنتاج داعش جديدة. 

وفي هذا السياق هنالك كثير من الأدلة التي تؤكد تلك التدخلات الخارجية الهادفة إلى إغراق إيران بنزاعات وحروب داخلية، منها على سبيل المثال لا الحصر:

·         ضبط  شحنات أسلحة قادمة من الخارج ترافقت مع  أعمال الشغب الداخلية.

·         تفكيك خلايا إرهابية كانت تخطط لاغتيال شخصيات من أصول عربية وإجراء عمليات إرهابية في الأماكن الدينية من أجل إشعال حرب أهلية.

·         القبض على مجموعات إرهابية مرتبطة باستخبارات خارجية تعمل على تهريب الأسلحة.

 

وانطلاقاً من تلك الحقائق، يبدو أن الهدف الرئيس هو تدمير البنية المجتمعية وتضخيم الاستقطاب السياسي وتقويض الاستقرار الأمني؛ بحيث تُصبح إيران أكثر هشاشةً وقابلية للتقسيم. فعملياً الجمهورية الإيرانية تواجه حرب هجينة، غايتها السياسية قائم على مواجهة النفوذ الايراني الذي يرتكز على:

-         التمسك بالبرنامج النووي.

-         دعم حركات المقاومة في مواجهتها للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

-         التواجد في سوريا ومساعدة الجيش السوري في حربه ضد الحركات الإرهابية.

-         مساندة الحوثيين في اليمن بشكل دائم.

-         ترسيخ التغلغل في العراق على كافة الأصعدة.

-         التقارب الاستراتيجي مع كل من روسيا والصين.

وهنا يجب الاعتراف بإن التجاذبات الإيرانية الداخلية، هي بمثابة ورقة رابحة حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل استغلالها لتحريض الشعب الإيراني على نظام الحكم والتصادم معه. وهذا الوقع أو التحدي الجديد تطلب من الحكومة الإيرانية اعتماد رؤية مختلفة على مستوى كيفية التعامل مع هكذا مستجدات. حيث اتبعت الحكومة الإيرانيه ومؤسساتها الأمنية سياسة ضبط النفس وعدم اتخاذ أية خطوة استفزازية قد ؤدي إلى التصادم، بل على العكس من ذلك تم العمل على:

1-         امتصاص غضب الشعب والسماح بالتظاهر .

2-         مراقبة الوضع الأمني عن كثب والسيطرة على الخلايا الإرهابية.

3-         الكشف للمجتمع الإيراني سياسات التجييش والتحريض الإعلامي القذرة.

4-         أثبات ارتباط كثير من الحركات المعارضة بأجندة الدول الأجنبية .

5-         الربط بين الأحداث الداخلية والنسق القائم على تطبيق النموذج السوري في إيران.

وفي هذا الإطار، وبغض النظر عن مدى قدرة الحكومة الإيرانية على مواجهة هذه الحروب الناعمة، فإن هنالك تحديات سياسية وثقافية وأمنية داخلية في غاية الخطورة لم يعد بالإمكان تجاهلها، وهي تتطلب إعادة النظر بكثير من السياسات التي كانت يُعتقد أنها باتت من البديهات، ومنها:

·         لم يعد من الممكن اتباع السياسة التي تقوم على تحميل الحكومات الإيرانية المسؤولية وتحييد المرشد الأعلى للثورة (أو مؤسسة ولاية الفقية) عن أي مسؤولية.

·         وجود تغيرات جذرية مرتبطة بالتهديدات الأمنية، التي لم تعد تقتصر على الخطر الإسرائيلي، وإنما امتدت لتشمل الحركات الإرهابية.

·         زيادة حدة التعقيدات المرتبطة بالخطط الخارجية الراغبة في تقويض دعائم الدولة الإيرانية.

·    الأزمات الداخلية تبدو الأكثر خطراً، وربما تؤدي إلى تقديم تنازلات استراتيجية على مستوى الملف النووي والقضية الفلسطينية والعلاقة مع سوريا وحركات المقاومة.

في محصلة القول ، أن الاهتمام المبالغ به في قضايا حقوق الإنسان يأتي في سياق الضغوط التي تتعرض لها إيران منذُ عقود، لتحقيق أهداف جيوسياسية. ولكن وفقاً لكيفية مواجهة إيران لما سبق وقد تعرضت له من تحديات يبدو أنها قادرة على تجاوز الصعوبات الحالية، إذ أن ركائز الدولة ما زالت متينة على كافة المستويات.

كما أنه يجب عدم الاستخفاف بقدرة إيران على إعادة تقييم علاقاتها الخارجية انطلاقاً من معادلة أن أمن إيران مرتبط بأمن المنطقة. وهنالك لدى إيران كثير من الخيارات التي تعزز تلك المعادلة. إذ ثمة هنالك استحقاقات متعددة الأبعاد مرتبطة بالواقع الإيراني سواء على صعيد البرنامج النووي أو زيادة حدة التصادم مع إسرائيل وأمن الطاقة. فمثلاً، لم يعد بالإمكان التعويل الدائم على استمرار ضبط النفس الإيراني في اليمن، وما سوف ينتج عن ذلك من تداعيات استراتيجية إقليمية وعالمية، أقله على صعيد توازنات أمن الطاقة العالمي.

ناهيك عن أنه في حال نفاذ الصبر الإيراني الاستراتيجي ليس من المستبعد على الإطلاق، استهداف إيران بشكل مباشر للمصالح الإسرائيلية، وربما في مرحلة ما قد تكون المواجهة مباشرة داخل فلسطين المحتلة نفسها. حيث أن إيران تعي تماماً أن جميع محاولات زعزعة استقرارها لا يمكن فصلها على الإطلاق عن ردود أفعال إسرائيل، التي تواجه خطراً وجودياً بعد خسارتها جميع حروبها مع محور المقاومة المدعوم بشكل كامل وغير محدود من قبل الجمهورية الإيرانية.


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com