2010-05-04

النفوذ العالمي للشركات عبر الوطنية وواقع ضبطه




ملخص 
رسالة درجة الماجستير في العلاقات الدولية والاقتصادية
2009  
   
إعداد
سلام الربضي

  لجنة المناقشة
الدكتور محمد المجذوب رئيساً
الدكتور جورج حجار مشرفاً
الدكتور فوزت فرحات مشرفاً
                                  الدكتور سناء حمودي عضواً








إذا استطعنا التخلص من المبادئ الميتافيزيقية والعامة التي تستند إليها من وقت لآخر سياسة الحرية الاقتصادية القائمة على حرية الأفراد والمؤسسات في فعاليتهم الاقتصادية الليبرالية، وإذا تجاوزنا النظرة إلى الاقتصاد العالمي من منظار المناضلين المعادين لليبرالية وأوهام الشيوعيين بشأن المجتمع بدون طبقات فإننا نفتح أمامنا مجالاً واسعاً لطرح جملة من التساؤلات قد لا يكون من الممكن الإجابة عنها بوضوح، لكنها تساؤلات تستحق أن تؤخذ من تفكيرنا الحيز الضروري لكي نخلص من ذلك إلى استنتاجات حان وقت الوصول اليها والاستفادة منها.

 أولى هذه التساؤلات إشكالية الأرقام والمعطيات التي تضلل أحياناً عند دراسة نشاط الشركات عبر الوطنية:

فكثير من الدراسات التي تتعلق بنشاط الشركات تحاول الربط بينها وبين أرقام ومعطيات عن الثروة، توزيع الدخل،الفقر،الجوع،ومقارنة دخول الشركات مع إمكانيات الدول والناتج الإجمالي لها. وهنا يجوز التساؤل عن المعيار العلمي والمنهجي الذي على أساسه يتم الربط فيما بينهما من خلال منهجية الاعتماد على المقارنة الإحصائية الظاهرية والصورية بلا تدبّر في المقدمات والحيثيات والدلالات العلمية والمنطقية؟ وابتعاداً عن التحليل النظري والاقتراب من الأمثلة الواقعية، هل هذا الربط يعني أن الشركات هي التي تتحمل مسؤولية كل ما يحدث في ظل العولمة من فقر وجوع وبطالة وخلل في توزيع الثروات؟ وهل يمكن القول إن لعبة الأرقام وربطها بمعطيات_التي تصب في اتجاه معين_ تعبّر عن مواقف مسبقة ذات أبعاد أيديولوجية؟ فإذا، منهجياً، من الواجب والضرورة العلمية التساؤل عن موضوعية هذا الربط؟

ومن التساؤلات التي تطرح أيضاً: إشكالية العلاقة بين الشركات عبر الوطنية والدولة؟

العلاقة التي على ضوئها يتم تحديد مدى تزايد نفوذ الشركات وسيطرتها أو مدى تراجع سيطرة وسيادة الدولة؟ وإمكانية تحديد الحد الفاصل بين مصالح الشركات ومصالح الدول؟ وهل العلاقة بين الشركات والدول تعبّر عن اضمحلال سيادة الدول أم تغيّر في وظائفها؟ وهل استرتيجية الشركات قائمة على تجاوز الدول أم إنها ستبقى قومية المرتكز وهل الواقع العالمي المعاصر يعبر عن استرتيجيات دول أم سيطرة شركات؟ وفي انتظار الأنعكاسات السياسية للأزمة المالية العالمية2008 يطرح التساءل التالي: هل عدنا إلى الدولة التدخلية؟؟ وهل تكون فكرة التدخل أصبحت موجودة وحالة ملحة؟ ولكن أساليب التدخل وحدود التدخل فإنها متروكة حسب تداعيات الأزمة وواقعها؟؟؟

والإشكالية الجوهرية التي تطرحها ظاهرة الشركات: هي إشكالية الضبط  سواء على الصعيد القومي أو العالمي؟

فهل الشركات حرة طليقة متفلّتة من كل ضبط؟ أم إن هناك معايير ضبط ما زالت تخضع لها وهل ستنتفع كثيراً من وجود بيئة عالمية خالية من كل معايير الضبط؟ وهل عملية الضبط تكمن في إعادة اكتشاف الحركة الدائمة على مستوى اللعبة الاقتصادية والدينامية الاجتماعية، وبالتالي هل يمكن تحقيق الترويض الاجتماعي لقوى الاقتصاد المعولم؟ وما هي ردود الفعل الاجتماعية والسياسية على ما تم الآن من تشابك اقتصادي عالمي عموده الفقري الشركات عبر الوطنية، وهل هذه الردود تعبر عن واقع الضبط؟

منهجية المعالجة في هذا البحث سوف تكون قائمة على جدلية المجتمع والسلطة 

حيث إن المبدأ العام في هذه العلاقة يرتكز على أن السلطة تنبثق من المجتمع، والمجتمع يتكوّن من مجموعة قوى تتفاعل في ما بينها، فمن الطبيعي أن تعكس هذه السلطة واقع هذا التفاعل. وفي هذا الصدد فإن  الشركات عبر الوطنية هي جزء من المجتمع تتفاعل مع باقي الأجزاء، وهذا التفاعل أو التنافس تعبّر عنه السلطة. ومن هذا المنطلق يمكن إيجاد مقاربة لهذة الظاهرة بواقعية أكبر، عند دراسة العلاقة بين الشركات والدولة من جهة، وإمكانية الضبط والتحكّم من جهة أخرى. فعلى مستوى العلاقة بين الدولة والشركات، فإذا كانت الشركات جزءاً من القوى الفاعلة والمسيطرة داخل المجتمع، وهذا الواقع سوف ينعكس على السلطة بشكل طبيعي، فالسلطة تمثل مصالح مجتمعها، ويمكن التعبير عن هذا الواقع بمقاربتين الأولى: مصالح الدولة الخارجية واستراتيجيتها التي تعكس واقع مجتمعها، فإذا كانت الدولة تعبّر عن مصالح الشركات، فهل نحن أمام تراجع في سيطرة الدولة أم أمام ترابط في المصالح؟ أما المقاربة الثانية، فهي قائمة على طبيعة العلاقة داخل المجتمع وصراع السلطة. وفي هذا الجانب يمكن التساؤل عن القوى الأخرى القادرة على وضع حد لسلطة الشركات وتزايد نفوذها: جدلية السلطة والسلطات المضادة؟

في هذه الدراسة سوف يتم استخدام المنهج العلمي القائم على استخدام المنهج الواقعي عند التحليل، ومنهجي المقارنة والتحليل الكمي عند التعاطي مع الأرقام والمعطيات توخياً للايضاح والمقاربة. أما المصادر المعتمدة في هذه الدراسة فهي متنوعة مع التركيز على التقارير والدراسات الصادرة عن المنظمات الدولية.

الدراسة قائمة على الفصل التمهيدي بالإضافة إلى فصلين: الفصل التمهيدي يركز على العلاقة بين المنظور الكمي والظواهر الإنسانية سواء على صعيد تشخيص الظاهرة أو المقاربة بين استخدام المنهج المثالي والواقع. حيث إن استخدام المنظور الكمي في مقام التعامل مع معظم الظواهر الإنسانية ومنها حقول التاريخ والاجتماع والسياسة والتنمية الإنسانية أمر محفوف بالتحفظات والمحاذير، وذلك على خلاف التقدم المذهل الذي نجم عن استخدام المنظور ذاته على صعيد الظواهر الطبيعة. فالإنسانيات أكثر تعقيداً وأبعد عمقاً من أن تخضع للمعادلات الإحصائية الرقمية بكل جفافها وصرامتها، وهذا ما ينطبق على كيفية مقاربة ظاهرة العولمة بما فيها العلاقة بين الدولة والشركات عبر الوطنية؟ إما الفصل الأول فيتناول نفوذ الشركات عبر الوطنية من خلال التعرف على استراتيجيات الشركات وتوضيح طبيعة العلاقة القائمة بين الشركات والأسواق المالية، وعالم العمل والاستثمار المباشر، ومعرفة أين هي الشركات عبر الوطنية من السياسات الضرائبية والاحتكارية، وتحول القوة الاقتصادية إلى ميزة سياسية غير متساوية, وما هو تأثير الشركات على السياسة والإعلام. والفصل الثاني يتطرق إلى إشكالية واقع الضبط والتحكّم من خلال المؤشرات التي تعبّر عن الإمكانيات الموجودة فعلاً لدى الدول في كافة القطاعات الاقتصادية، ومقاربة دور ونشاط الأمم المتحدة في جعل مواطنة ومسؤولية الشركات عبر الوطنية عالميتين، وفي هذا المنحى إشارة إلى إيجابية المنظمات غير الحكومية التي تمثل القوى العظمى الثانية، والتركيز على عملية التحكّم الاجتماعي من خلال النقابات العمالية وأهمية عصر المساءلة الذي نعيش في كنفه ودور القضاء والرأي العام في إمكانية المراقبة، ودراسة المقاربات والمتغيّرات العالمية وتحليل الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر كظاهرة التسوّق السياسي ومبدأ الاستثمار الاستهلاكي، وصناديق الثروة السيادية والقوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق.

إذا كانت التناقضات والتساؤلات وعدم اليقين هي ميزة المسرح العالمي الجديد، فقد عادت إلى الواجهة الطروحات المختلفة حول معنى السيادة ومدى إمكانية الاستمرار في الدفاع عنها في عالم جديد ومعطيات جديدة تمهّد لتجاوز النظام الوستفالي حيث التبديل لم يعد في النظام بل تبديل النظام نفسه؟ وبعيداً عن الاختلافات الفقهية والقانونية وتجاوزاً لمتاهات الفكر السياسي فكل المؤشرات تدل وتكشف أن هناك اختراقاً لمكانة الدولة ووظائفها وهذه الحقيقة تطاول جميع الدول سواء كبيرة أم صغيرة، وتلك القوية أو الضعيفة. ولا يبدو أن الاقتصاد العالمي يقترب من الترابط كما أن ممارسة واستراتيجية الشركات الكبرى تبدو أكثر تعقيداً، وأن التحالفات الاستراتيجية تخلق سوقاً عالمية بالغة التفاوت، وهذا الوضع يتكرر في كثير من القطاعات، وإن كان ثمة وجود لاقتصاد معولم، فإنه وفقاً لجدلية الزمان والمكان يترك خللاً واضحاً ويطرح السؤال التالي: هل نحن في العولمة أو خارجها وهل هذا الاقتصاد منظّم وفقاً لاحتكار القلة أم وفقاً لمقتضيات التنافس؟

تُعبّر الشركات عبر الوطنية عن التعارض التام بين التطور الرأسمالي من ناحية وبين التنظيم السياسي الدولي الذي ما يزال يعطي الدولة القومية مغزى ووظيفة اقتصادية جوهرية، وهذا التناقض في المجال الاقتصادي يترجم في المجال الاجتماعي حيث يمثل اختراقاً فعالاً وفعلياً لهيكلة ونسيج الدولة الاجتماعي. وهذا متوقف على تعددية جنسية الشركات الكبرى أي التعددية الفعلية للمالكين والمديرين من حيث الجنسية في هيكل الشركة، فكلما ظلت الشركة متبلورة حول مُلاّك ومديرين من جنسية واحد تصبح الشركات التابعة تمثل اختراقاً أجنبياً خالصاً ليكون الاختراق الاجتماعي محدوداً للغاية. أما إذا اشترك قطاع كبير من المُلّاك والمديرين المحليين في السيطرة والإدارة في الشركة، فإن ذلك سيشكل اختراقاً هاماً وفعالاً من الناحية الاجتماعية وذلك ببساطة لأن الشركة تمثل إطاراً للولاء وللسياسات التي تتقاطع جذرياً مع بنية الدولة القومية.

مع نمو ظاهرة الشركات عبر الوطنية في البلدان النامية كالهند والصين فإن استراتيجية الشركات ترتكز على أبعاد سياسية، حيث إن النمو السريع في الصين والهند يثير قلق تلك الدول بشأن نفاذ الموارد والمدخلات الأساسية لاستمرارية التوسع الاقتصادي. فاستراتيجية الشركات في الدول النامية جراء الاستثمار الأجنبي المباشر تتمركز إلى حد ما في قطاع الموارد الأولية واستراتيجية تلك الشركات لا تخرج عن الأهداف الاستراتيجية التي تسندها حكومات الموطن إلى الشركات عبر الوطنية خاصة المملوكة من الدولة حيث تعمل الحكومات على تشجيع الشركات على تأمين مدخلات حيوية مثل الموارد الخام للأقتصاد والموطن, فأستراتيجية الشركات الهندية والصينية في الخارج تتجه نحو البلدان الغنية بالموارد ولاسيما النفط والغاز اكثر من الاستثمار في اطار استراتيجية أستهداف الزبائن.

المتغيرات العالمية في الأسواق المالية تنعكس على طبيعة العلاقة بين الدولة وقوى السوق. وكثير من التساؤلات تطرح حول دور الدولة ووظائفها أثناء الأزمات المالية؟ ولكن عكس التيار الذي يحاول إظهار عدم قدرة وتآكل سيادة الدولة. أمام هذه المتغيّرات لا بد من طرح التساؤل الآتي: هل الدول بريئة مما يحدث؟ وهل هي الضحية كما يتم تصويرها في الكثير من الأحيان؟ وما هو الحد الفاصل بين مصالح الحكومات ومصالح الشركات على صعيد عمليات الإنقاذ التي تتم عند التعرّض للأزمات المالية؟ إن النظام المالي يعتبر من أكثر ميادين الخلاف نتيجة هذا التحول الكبير من جهة، وبروز تيارات فكرية ترى أنه قد تم الانتقال من النظام العالمي الذي تقوده الحكومات إلى النظام العالمي الذي تقوده الأسواق.

إن التفاوت في توزيع الثروة في تفاقم مستمر، فالأمر الواضح هو أن ثمة تحوّلات جذرية باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية. وفي الوقت الذي ترتفع فيه دخول الشركات وأصحاب الثروة بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي بكثير، بقيت دخول العاملين بأجر عند مستوى متدنٍ مقارنة بدخول الشركات، أي إن النمو الاقتصادي لم يعد يترك أي أثر يذكر على نمو دخول العمال مقارنة مع الشركات وأصحاب الثروات. ومن البديهي أن تؤدي الهوّة بين دخول أصحاب المشاريع ومُلاّك الثروة من ناحية ودخول العمال من ناحية أخرى إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته. والكثير من الافكار والنظريات تعتبر أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتمثلة بالشركات عبر الوطنية هي من سلبت خيرات وإمكانيات الدول النامية وأنها تبحث فقط عن مصالحها الخاصة، وجعلت الدول النامية أكثر تبعية لها. لكن في هذا السياق لا بد من التساؤل عن بعض التطورات الحاصلة في هذا الإطار: هل كان بإمكان الصين وهي الدولة العملاقة تحقيق ما حققته في المجال الاقتصادي دون هذه الاستثمارات؟ وما هي حال الهند أيضاً، وماذا يمكن القول عن كوريا الجنوبية وسنغافورة وتشيكيا وإيرالندا ؟

فصل من فصول العولمة يدور حالياً في أفريقيا ويكتب هذا الفصل الصينيون المتواجدون في مختلف أنحاء أفريقيا. والاستثمارات الصينية وسّعت نطاق أعمالها في أفريقيا وتسللت إلى حياة القارة الأفريقية اليومية. والاستثمارات الصينية في القاره السمراء تعبّر عن بعد نظر الدولة الصينية وعن تحقيق أهداف بعيدة المدى. التساؤل مشروع حول الاستثمارات التي تقوم بها الشركات عبر الوطنية من الدول النامية، هل هذه الاستثمارات تدخل في إطار التعاون وتبادل المصالح أم تدخل في إطار السيطرة والاستغلال؟ ولماذا في حال شرّعت الدول النامية أسواقها أمام الشركات الأوروبية أو الأمريكية يعتير ذلك نوعاً من الاستعمار، وفي حال شرّعت الدول النامية أبوابها أمام الشركات الهندية والصينية والآسيوية يصبح ذلك نوعاً من التعاون والتكامل؟؟ 

 أمام تلك التيارات الجارفة الحاملة عناوين حرية التجارة الدولية يوجد سياسة حمائية واضحة مما يخلق تضارباً في السياسات والمصالح وهو ما يلحق الضرر بمختلف الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، ويطرح علامات استفهام حول حرية التجارة الدولية. وهذه السياسة لها آثارها على الدول الغنية والفقيرة، إلا أن تأثيرها يكون وقعه أكثر على الدول الفقيرة حيث هامش التحرك أمامها ضئيل مقارنة بالدول الغنية خاصة فيما يتعلق بالصادرات الزراعية والمنسوجات القادمة من الدول الفقيرة. إذ إن الموضوع بالمطلق يطرح تساؤل التناقض بين مبدأ حرية التجارة والسياسة الحمائية. ومن خلال محاكاة الواقع العالمي المعاصر نجد أنه أصبح زاخراً بكثير من التطورات وعلى كافة المستويات، الأمر الذي يلزمنا التوقف عند بعض المعطيات التي يمكن التعبير عنها بالسؤال الآتي:

                       هل ما زالت الدولة وحدها قادرة على تحديد العلاقات الدولية؟   

قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد لنا أن نتساءل فيما إذا كان قد تم السير في اتجاه هذا النسق الدولي القائم على تخصيص الأمن لمصلحة الشركات الخاصة؟ أو في حال تم تبني مقترحات الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي الداعي لربط مسألة التصويت لأعضاء الأمم المتحدة بمقدار مساهمتها في تمويل أنشطة المنظمة، الأمر الذي يطرح في المستقبل إمكانية احتلال مقاعد من قبل منظمات ومؤسسات وشخصيات معنوية لديها قدرة مالية كبيرة؟

من الخطأ أن نرد الأزمة الراهنة لمفهوم السيادة إلى النفوذ العالمي للشركات عبر الوطنية وحدها، فالعولمة الإعلامية تلعب هي الأخرى دوراً لا يقل فاعلية، إضافة إلى رابطات حقوق الإنسان وحماية البيئة والمنظمات غير الحكومية وجلها مناهض للشركات عبر الوطنية، والتي لا تقيد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة، ولا بد من الاعتراف بأن حصانة الدولة وسيادتها المطلقة قد سقطت ولم تعد هناك حدود غير قابلة للاختراق لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا إعلامياً ولا ثقافياً ولا حتى أمنياً؟ ونظرية تآكل دور الدولة وانحسارها أمام نفوذ الشركات قابلة للنقاش، كما أن الانتقال من عصر الدول إلى عصر السوق يطرح علامات استفهام على ضوء المقاربات والمتغيّرات العالمية الجديدة. فالدولة ما تزال الحجر الأساسي الذي يرتكز عليه أي نظام سواء كان سياسياً أم اقتصادياً أم قانونياً. ولم يعد مجدياً النظر للاقتصاد من باب الزيادة الرقمية للإنتاج القومي أو الدخل الفردي فحسب، بل لا بد من بناء أساس مادي علمي وتقاني جديد قرين فكر وثقافة جديدين، ودعامة هذا الأساس تكون قائمة على الاستثمار في رأس مال القدرة البشرية بدلاً من رأس المال البشري كهدف وأساس للتنمية والتطوير.

التعامل مع الشركات من معيار أيدولوجي قائم على امبرياليتها الاقتصادية والسياسية لم يعد يواكب التطورات الاقتصادية العالمية، فها هي شركات الدول النامية تزداد قوة، وظاهرة صناديق الثروة السيادية التي تملكها دول تجعل من إشكالية تحديد المعيار الموضوعي للفصل بين مصالح الدول واستراتيجيتها ونفوذ الشركات معقدة. وظاهرة الصناديق السيادية تعكس واقع ودور الدول الموسَّع التي تؤديه في الأسواق المالية والاقتصاد العالمي. وإن استمرار تصدير صافي رأس المال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة الغنية برؤوس الأموال يؤدي إلى إثارة الشكوك حول مدى صلاحية نظرية التنمية التقليدية في السياق العالمي الجديد، مما يشير إلى ضرورة إعادة التفكير في أهم الافتراضيات فيما يتصل بالسياسات البديلة ومسارات اللحاق بالركب والتدفقات الرأسمالية والاستثمار.

 لقد بات واضحاً أن الدول تتجه بوتيرة متزايدة نحو المزيد من التدخل ولا سيما في بعض القطاعات كالغاز والبترول ووسائط الإعلام والنقل الجوي. وإن لعبة السلطات المضادة بصورة أو بأخرى، بشكل سلس أو بصدمات متتالية ستفرض نفسها في النهاية، وإن واقع السوق الذي تعمل الشركات عبر الوطنية في ظله والذي تستمد النفوذ منه يستدعي أدوات وآليات للضبط والتحكّم، وهذا هو ما يحصل على أرض الواقع. إذ توجد سلطات مضادة وهي في طور التبرعم وهذه السلطات المضادة تفرض نفسها رويداً رويداً في ظل فلسفة جديدة تطغى على المستويين المحلي والعالمي. إذ في ظل هذا النظام المتبلور والقائم على حيوية القضاء والرأي العام لا بد من وجود سلطات تأخذ على حين غرة وبصورة قوية على عاتقها مواجهة الشركات عبر الوطنية وتكون القلب النابض والدينامو المحرّك لنشاط الثلاثية الجديدة. والمنظمات غير الحكومية تعبّر عن واقعية النموذج الجديد الذي يتشكل ويعمل على الضبط والمراقبة لكل عملية سيطرة من قبل الشركات.

بعيداً عن التنظير ومن منطلق جدلية السلطة والسلطات المضادة يمكن القول إنه من الأجدى على الذين يعارضون نشاط المؤسسات الدولية كمنظمة التجارة العالمية والصندوق الدولي والبنك الدولي أن يعملوا على عكس ذلك، أي المطالبة بتعزيز سلطاتها. ويجب أن تدرك المنظمات غير الحكومية أيضاً وفقاً للتجارب أن تكون في مقدمة المطالبين بتعزيز المؤسسات العالمية القائمة لتصبح أكثر استقلالية حيال مساهميها الكبار وأن تطالب كذلك بإنشاء مؤسسات شبيهة تعتني بالبيئة والصحة والأغذية، وكل ذلك ينطلق من اعتبار أن هذه الطريقة أقصر وأنفع عملياً من مجرد الاعتراض والرفض لأي إصلاح من الداخل، وفي أضعف الأحوال تعتبر هذه الطريقة أفضل الممكن والمتاح في ظل هذا الوضع العالمي حتى يتسنى تغييره.

بدل التكلُّم عن الامبريالية والرأسمالية المتوحشة لماذا لا يتم التكّلم عن النمط الجديد من التمييز العنصري العالمي البيئي الذي ترتكبه الدول الصناعية والشركات بحق البيئة والأفراد الفقراء، وإن استخدام تعبير التكيّف مع المتغيرات المناخية قد يكون عبارة عن مجرّد تعبير مُلَطَّف للتمويه عن غياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيعها على الصعيد العالمي. فالتكيّف مع التغيّرات المناخية أمر قد يكون حصوله متعذّراً بالنسبة لسكان الكرة الأرضية الفقراء، فكيف يمكن لمزارع فقير أن يتلاءم أو يتعايش مع التصحّر والفيضانات التي تهدد حياته وإنتاجه ومحصوله؟ وهل من المعقول أن يختزل الفقراء والجائعون مصادر التغذية وهم بالكاد يحصلون على القليل منها؟ إن مثل تلك المقاربة لقضايا العالم المعاصر ومثل هذه الثقافة هي الطريق الأفضل والأكثر واقعية وجدوى في حل مشاكل العالم، ومنها عملية ضبط نفوذ الشركات .

في ظل الواقع المتأزم لأسواق العمل العالمية خاصة في الدول النامية التي تعاني من إشكالية خلق الثروة وإشكالية توزيعها، وبين هاتين الإشكاليتين، اللتين يمكن مواجهتهما عن طريق إدخال القضايا العمالية في المفاوضات الدولية لمنظمة التجارة الدولية، فمن الأسباب الرئيسية لتعّثر مفاوضات جولة الدوحة هو الخلاف القائم بين الدول الصناعية والدول النامية حول تحرير المنتجات الزراعية، وذلك نتيجة عدم استعداد الدول الصناعية لمواجهة المتطلبات لمرحلتين تاليتين هما تحرير السلع الصناعية وتجارة الخدمات. إذ إن تحرير تجارة الخدمات لا يمكن أن يتم من دون تحرير الانتقال للاشخاص بين الدول. ويعتبر ما قد أقدمت عليه الدول النامية في منظمة التجارة من اقتراح يهدف إلى الفوز بتنازلات تمنح عمالها حرية أكبر في عبور الحدود الدولية لعرض خدماتهم في أسواق الدول الصناعية المتقدمة خطوة في الاتجاه الصحيح لتحقيق الكثير من المكاسب، وهذا الاقتراح يحمل أسم  النموذج رقم4. والتغيرات العالمية على الصعيد الاقتصادي والمالي تطرح تساؤلات عدة حول العديد من المفاهيم والنقاشات الدائرة حول دور الشركات في السياسة الدولية أو الاقتصاد العالمي، في وقت لم يعد بالإمكان اعتماد المقاربات التقليدية في تحليل ودراسة هذه الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر كل صناديق السيادية، والقوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق، وزيادة الاعتماد على الدولة كوحدة سياسية وقانونية قادرة على مواكبة تلك التغيّرات العالمية.

قضية صناديق الثروات السيادية لا تبدو استثمارية أو اقتصادية بحتة سواء أردنا أو لم نرد، فقد تمّ تسييسها وأصبحت ظاهرة من ظواهر العلاقات السياسية الدولية. لذا فإن التعامل والدراسة على صعيد هذه القضية لا ينبغي أن يقتصر على الفنيين العاملين في مجال الاقتصاد والاستثمار بل يجب أن تجنّد لهذه القضية أفضل الخبرات في مجال العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الدولية. والصناديق السيادية التي تدير ثروات مملوكة لدول أصبحت تثير حفيظة الدول الكبرى، حيث الخوف من أن تسيطر هذه الصناديق على مفاصل أساسية في الاقتصاد والأمن وقد تُدار بطريقة تتعارض مع مصالح تلك الدول القومية. والخوف يزداد من تلك الصناديق التي تتمتّع بسيولة مالية هائلة جدّاً تصل إمكانياتها لدرجة شراء أسواق مالية بكاملها.ولقد تبدّلت معالم الجغرافيا المالية العالمية، ولقد كشفت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عن تغيّرات في مناخات الجغرافيا المالية العالمية. فالمفارقة أن الأموال الشيوعية تنقذ المؤسسات المالية الرأسمالية. والأزمة المالية رجّحت كفة بلدان الجنوب في الاقتصاد المعولم. ففي أزمة 1997 المالية الآسيوية طمأنت الولايات المتحدة الأسواق المالية في البلدان النامية، وعلى خلاف هذه الأزمة، حملت أزمة النظام المالي الأمريكي في 2007 ـ 2008 بلدان الشمال على قبول مساعدة الدول النفطية وقوى الجنوب المالية العظمى. فالنفوذ المالي انتقل إلى بلدان الجنوب في مجال العمل والفوائض المالية.

هامش الحركة المتاح للمجتمع هو دائماً أوسع بكثير من ذلك المتاح للاقتصاد؟ وقد يكون هذا التصوّر بادرة أمل وارتياح، حيث إن مصير المجتمع هو بين أيدي أبنائه وقانون الجاذبية الاقتصادية يفعل فعله الطبيعي على صعيد النموذج الاجتماعي، فهو يكيّفه ولكنه لا يحدّده، ونحن الآن نعيش عصر الانترنت، ولكن مجتمع عصر الانترنت ما زال أرضاً مجهولة فعلينا نحن بناء هذا المجتمع. وعلى عكس الكلام البليغ السائد حول عدوانية السوق وجنوح الرأسمالية، ولاعقلانية المؤسسات الكبرى، فإن ما نشهده أمام أعيننا، هو ولادة نظام مستقر من السلطات والسلطات المضادة، حتى لو كنا لم نتجاوز بعد لا تساؤلاتنا ولا شكوكنا. والشركات تعرف أكثر من أيٍّ كان أن السباق المتواصل بين السعي لاحتلال مواقع احتكارية وبين الردع الذي تتولاه المؤسسات الراعية لحقوق المنافسة والسلطات المضادة، جعل الشركات عبر الوطنية الآن في ضعف نسبي لم تشهده سابقاً. ومعظم الأطراف اللاعبة في الاقتصاد العالمي لها مصلحة في الاستقرار، بما في ذلك كبرى الشركات التي ترى في تقليص الاضطراب والغموض فائدة جلية من ناحية تخطيط الاستثمارات ومن ناحية الإنتاج واستراتيجيات التسويق، أو على صعيد الأسواق المالية من خلال تثبيت استقرار النظام المالي العالمي بالضبط الحكومي. وإن الفكرة الشائعة وسط غُلاة منظّري العولمة بأن الشركات ستنتفع كثيراً من وجود بيئة عالمية خالية من الضوابط تظل فكرة غريبة حقاً. فالقواعد التجارية المحسوبة، وتسوية حقوق الملكية المنسّقة عالمياً واحتواء التقلّبات المفرطة في أسواق الأسهم المتنوعة، واستقرار أسعار الصرف تسهم جميعاً في تأمين مستويات أولية من السلامة التي تحتاجها الشركات للتخطيط للمستقبل.

لقد أحدثت رياح العولمة، التي بدأت تهب منذ مطلع الثمانينات وأدت في مطلع التسعينات إلى تفكيك المعسكر السوفياتي، تحولاً جديداً في مفهوم السيادة أخذ شكل تغليب الاقتصادي على السياسي ـإلى حد ما ـ في سياق انتصار أيديولوجيا اقتصاد السوق. والواقع أن الاقتصاد كان على الدوام، باستثناء الفاصل السوفياتي، اقتصاد سوق، وأنما طبيعة السوق في ظل العولمة هي التي تحوّلت. فمن قومية صارت عالمية، فيما الدولة كسيادة سياسية، بقيت قومية، ومن هنا اخترق منطق السوق العابر للحدود المنطق السيادي للدولة القومية، وهذا لا يعني أن الدولة قد انتفت، لكنه أيضاً يعني أنها لم تعد حرة اليدين وأصبح هناك تغيير في طبيعة وظائفها، ومن هنا نجمت الفعالية التي اكتسبتها الشركات والتي أدت إلى تزايد نفوذها، كذلك ظهور المنظمات غير الحكومية وجلّها مناهضة للعولمة وتدافع عن سيادة الدولة، ولكن المفارقة أن تلك المنظمات لا تقيّد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة؟ وفي الوقت ذاته تطالب بوضع معايير ضبط وتحكّم على نشاط الشركات عبر الوطنية؟ وقد تكون تلك المنظمات هي من الذين هم بأمسّ الحاجة لوضع معايير لضبط عملهم ونشاطهم؟ وعلى الرغم من وجود علامات مشجّعة على صعيد معايير الضبط والتحكّم.

بعض التساؤلات مطروحة فيما يتعلق ببعض الوكالات والمؤسسات الدولية التي تحدّد جدارة الإقراض وتعمل على تنظيم الأسواق المالية بما فيها عمل البورصات المالية. ومن الواضح أن ممارسات تحديد المعايير هي جزء جوهري من نظام السوق الحر وهي تقرر مصير الفاعلين الاقتصاديين بطريقة تمنح سلطة سياسية فعلية. وعلى الرغم من أهمية العمليات التي تقوم بها تلك المؤسسات والوكالات والتي تعتبر أهم جانب من جوانب العولمة والتدويل، ولكن ألا يحق التساؤل عن ماهيّة هذه الوكالات على وجه الدقة؟ هل هي منظمات تدّعي لنفسها وتمارس سلطة عامة حكومية، في حين أنها ليست خاصة بالكامل وليست عامة بالكامل؟ هل هي جزء من التغيير في النظام العالمي؟ هل هي أداة أو جزء من منظومة التحكّم الناشئة أم العكس؟ وهل يحق لنا الاعتقاد هنا بأنه يجب إعارة هذه المؤسسات والوكالات ـ أو هذه الحالة ـ الانتباه الأكبر من قبل الباحثين؟

لقد استطاعت الحركات المناهضة للعولمة أن تقطع شوطاً في مواجهة قوى السوق وجاء المنتدى الاجتماعي العالمي بمثابة الرد على منتدى دافوس الذي يهدف إلى إرساء الشرعية السياسية التي تتوافق مع مصالح الشركات ودولها. وهو مؤشر إيجابي على إمكانية القدرة على العمل وإيجاد سلطات مضادة وموازية لسلطات السوق تكون قادرة على الضغط والتأثير وبالتالي المراقبة والضبط. وليست كل الأخبار باعثة على التشاؤم، فحركة مناهضة العولمة، وعلى الرغم من كل ما يشوبها من التباسات، تبيّن أن من غير المبرر اقتصار هذه الحركات فقط على الاجتماع والاحتجاج بل لا بد من الانتقال إلى القيام بنشاط منظّم وبإمكانية إحياء وإيجاد استراتيجيات جديدة في العمل. وحركة المنتديات الاجتماعية تطرح إشكالية حول تغيير الأحداث. فكيف يمكن لها أن تنتقل من طور الاحتجاج إلى بناء عولمة بديلة؟

على الرغم من التظاهرات الواسعة والمتزايدة ضد العولمة النيوليبرالية لم يتبلور بعد أي بديل استراتيجي منسّق ومتكامل يمكن أن يفتح الباب أمام نمط جديد من استغلال فرص الاندماج العالمي الذي تسمح به الثورة المعلوماتية. فالحركات المعادية للعولمة يغلب عليها طابع الاعتراض والاحتجاج وبدون برنامج ملموس وبديل لتعزيز واقع وجود خيارات بديلة سوف نبقى في دوامة الرفض فقط وخطر العموميات في البرامج وفي حلقة مفرغة. إذ أكثر ما يقلق قوى السوق وبالطبع الشركات هو أن يضطروا إلى تحديد موقفهم من مشروع عالمي اجتماعي. وإذا كان المنتدى العالمي الاجتماعي بدا لنا كسلطة مضادة لسلطة منتدى دافوس، ولكن دون ترجمة هذا التوجه والنشاط من الشعارات إلى واقع، يبقى البديل هو جوهر الخلاف. وفي كل الأحوال فإن هذه الدينامية في الحركة المضادة لقوى السوق تبقى مهمة من حيث أنها تبيّن أن إمكانية الضبط والمراقبة وبزوغ فجر السلطات المضادة تبقى واردة أملاً في اجتراح نظام بديل يكون أكثر عدلاً أو أقل جورا؟

في ظل التشابك والترابط نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي والذي انعكس على واقع الاقتصاد العالمي، أصبحت هناك صعوبات علمية تواجه كل مَن يريد معالجة أو تناول ظاهرة الشركات عبر الوطنية في سياق العولمة، فهل لنا أن نتساءل أين هو الحد الفاصل بين مصالح الشركات عبر الوطنية ومصالح الدول؟ وما هو المعيار هنا للتمييز بين ما هو عام وما هو خاص والذي على ضوئه يمكن التقييم؟ فإذا كان المموّل الأكبر لنشاط منظمة الصحة العالمية هو بيل غيتس مالك شركة مايكروسوفت الذي تفوق مجموع تبرعاته ما تقدمه الولايات المتحدة، فهل هذا التمويل يصب في خانة المسؤولية الاجتماعية للشركات؟أم في خانة الهيمنة والسيطرة؟ أقل ما يمكن قوله في تلك التساؤلات ـوهناك الكثيرـأنه يجب النظر لظاهرة العولمة بكل تجلياتها، ومنها الشركات، بمنظارٍ علمي بعيدٍ عن مبدأ الـ"مع" و"الضد"، حيث إن هذه الظاهرة سيف ذو حدين  فهناك رابحون وخاسرون، فإذا كانت ألمانيا مثلاً خاسرة على صعيد فرص العمل ـ نتيجة نقل الشركات مصانع الملابس الجاهزة إلى الخارج بسبب العولمة ـ خلال العشرين سنة الماضية ما يقارب مليون ونصف المليون وظيفة، وهذا لصالح نسبة من نساء بنغلادش وجنوب شرق آسيا، فإنه وفي الأحوال جميعاً إن أسوأ نهج في التعامل مع ظاهرة العولمة هو نهج مَن يريد أن  "يؤبلسها"  أو أن  "يؤمثلها"  بأي ثمن.

النظام العالمي يشهد هذه الايام أزمة ثلاثية الأبعاد: بعد اقتصادي يتصل با الأسباب المباشرة التي أدت إلى تفجيرها, وبعد سياسي يتصل بهيكل وموازين وعلاقات القوة القائمة في النظام العالمي لحظة انفجار الأزمة, وبعد إيديولوجي يتصل بتأثير الأزمة على المستوى الفكري.  ومن هذه الروحية يطرح التساؤل:أن نكون  موضوعاً للتاريخ أو فاعليين له، هذا هو السؤال؟ إنه مطروح دائماً ولكن هذه المرة سيكون الثمن الاقتصادي، السياسي، المؤسساتي، السيكولوجي أكبر في حال بقينا موضوعاً للتاريخ. ولم يعد مقبولا ً التعاطي مع هذا الواقع من منطلق أيديولوجي يعبّر عن مجرد موقف ضد هذه الظاهرة أو معها بدون وجود برنامج عملي. والسؤال لماذا هناك الكثير من الأفكار عن كيفية توزيع الدخل وليس عن كيفية توليد الدخل؟ من هنا نرى أن ثمة أسئلة مطروحة على عالمنا المعاصر ولا يمكننا إلا أن نتفاعل معها في الصميم وأن نقدم أجوبة عليها تتلاءم مع تطورنا الإنساني والتاريخي، ومن هذه الأسئلة:
        
سؤال غائية العلم :
فهل سيقود التطور العلمي الراهن إلى سعادة الإنسانية ورفاهها أم سينقلب إلى مصدر لبؤسها وجعل الإنسان يدمر نفسه بنفسه في غياب أي طوبى إنسانية شاملة جامعة لكل الأمم والشعوب، جوهرها الارتقاء الإنساني الشامل، طوبى تعيد الحياة إلى مبادئ العقد الاجتماعي والاقتصادي والمواطنية والعقلانية والمساواتية والعدل الاجتماعي؟ وهل سيبقى التطور الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى المزيد من مراكمة الثروة في جانب ومراكمة الفقر في الجانب الآخر، أم سيتجه لمصلحة البشرية بأسرها ورفاه الناس وخيرهم جميعاً؟
            
ومن هذه الأسئلة سؤال الطبيعة :
 فهل سيبدّل الإنسان المعاصر في نظرته إليها باعتبارها امتداداً للوجود الإنساني وليست عالماً غريباً عنه قابلاً للتحكّم به دون أية ضوابط، ومهما كانت النتائج مسيئة إلى نواميسه وتطوّر أحيائه الحيوانية والنباتية؟
            
ومنها سؤال المعنى والقيمة :
فأي أفق يجري نحوه تطور الإنسانية وتقدمها؟ هل هو الإنسان الفرد بالمفهوم الليبرالي وباعتبارة القيمة الأولى والأخيرة والهدف النهائي للتطور أم هو المجتمع أم الأمة أو الإنسانية بأسرها؟ وهل الصراع والغَلَبة هما اللذان سيحددان مصير الإنسانية أم التكافل الاجتماعي والهم المشترك؟

ومنها سؤال الهوية :
فهل سيتجه التطور الإنساني نحو هوية كونية أممية أم سيكون التشبث بالهويات القومية والإثنية والطائفية هو الرد المضاد على ثورة التواصل العولمي ؟

ومنها سؤال النهايات :
فهل يتجه التاريخ نحو نهاية معينة ليبرالية أو اشتراكية كما تصوّر فوكوياما وقبله ماركس أم أنه يجري في غير هذين الاتجاهين ؟

For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com