2011-05-19

الفضاء الثوري العربي ويوتوبية جدلية النزعة الإنسانية ( ج2 )






سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية

منبر الحرية \المغرب،15 /أيار 2011

لعل بمقدورنا استلهام تصور أكثر حساسية للبدائل، وأن نلقي الضوء على حقيقة أن النزعة اليوتوبية الجدلية هي بالضرورة فضائية زمانية، وتكوينها يبدأ من الجغرافيا التاريخية القائمة. فمعضلة الخصوصية تتجسد في الواقع، بوصفها مشكلة المتطلبات الخاصة بالمكان على كل المقاييس، في ظل وقائع دائمة التحول، وهي مشكلة يتطلب حلها الإبقاء على شيئين متناقضين في حالة توتر دائم :

1- إنتاجاً ديناميكياً ومستمراً للفضاء.
2- تقبلاً طوعياً لضرورة القرارات من نوع إما / أو، على الأقل ثباتاً مؤقتاً.

وفي إطار جدلية طرح الأفكار الأولية، حول ما الذي يمكن أن تتضمنه تعددية البدائل الكائنة في اليوتوبية الفضائية الزمانية، قد يتطلب الأمر الانجذاب إلى فن الهندسة المعمارية، لأن المهندسين المعماريين ليس لديهم بديل سوى أن يخلقوا أشكالاً فضائية. وفي أحسن الأحوال، يكونون واعين تماماً بالدلالة السياسية الزمانية للفضاء المنتج، وفي السياسة يمكن الانعتاق من فضاء المكان والزمان إلى الطبيعة- التي هي مادة المكان والزمان إذ أجاز التعبير- فالطبيعة البشرية لم تخلق اجتماعياً وتاريخياً فحسب، بل بيولوجياً أيضاً.
من المؤكد أننا جميعاً كعرب، يجب أن نكون معماريون متمردون للمستقبل الجمعي، فكل ما يسمى نضالات عالمية لها أصول شديدة الخصوصية. وإن الانتقال من الخصوصية المناضلة إلى الفعل الجمعي، إنما يتم دائماً من خلال توسيط المؤسسات، والكيانات البيئية التي ننشئها بوعي قصدي، من أجل ذلك الغرض. وفي سياق تدفق عملية الانتقال، تنبعث لحظة الإنسانية، والإنسانية ليست إنجازاً ثابتاً أو نهائياً. بل هي بالأحرى، إحدى لحظات القرار الوجودي، إذ نجد أن المبادئ قد تجسدت في الواقع من خلال الفعل في العالم العربي.

فالإنسان هو سياسي بأعمق الطرق الممكنة، والمبادئ تتشكل من خلال القرار بالاشتراك أو عدم الاشتراك في نضالات معينة، لكنها حتى في ذلك السياق فإنها تستمد قوتها من المفاهيم المحتواة داخل الكائن الإنساني. وهناك قائمة متنوعة ذات طابع راديكالي إنساني حضاري، تزودنا بمسودة أولى للحقوق الجديرة بالنضال من أجلها، فقط إذا كان لدينا نحن العرب المعمارين المتمردين المنتجين لعالم مختلف، الشجاعة لأن نأخذ زمام المخاطرة، للقفز للمستقبل المحتمل، في ظل حالة من الفوضى الثورية الشاملة. مع الأخذ بعين الاعتبار، استثمار هذا الواقع من قبل الشعوب العربية، التي أخذت تعيد تنظيم الحياة اليومية، من أسفل إلى أعلى تراتبية ، وفقاً للوحدات الفضائية المقاسة.

ليس الماضي والحاضر بل والمستقبل أيضاً، كل منهم يتسم بأنه فضائي زماني بصورة غير قابلة للاختزال. فالإصرار على النقد الفضائي للخطاب اليوتوبي، أي مزج الشكل الفضائي بالعملية السياسية في النزعة اليوتوبية، بدلاً من التعامل مع الفضائية اليوتوبية بطريقة الكل أو لا شيء، يجب أن يعدل رؤية المستقبلات البديلة، وفقاً لمستقبل النزعة الإنسانية العربية العميقة، المتضمنة الإسهامات الأكثر تحليلاً وحقيقة وبروزاً. فكلما عبرت تلك النزعة الإنسانية العربية عن نفسها أكثر فأكثر، أخذت الضمائر فيها تتجه نحو " النحن" الخاصة بالإنسانية مأخوذة ككل. ولدينا نحن العرب، القدرات على إدراك النزعة الإنسانية من خلال تلك المفاهيم العامة، ومن خلال النزعة اليوتوبية الجدلية، لتأسيس المواطن العربي المعاصر. فالطبيعة الفضائية للمبادئ، هي ليست لحظة نهائية أو لحظة وحي أو حقيقة مطلقة. بل هي بالأحرى، لحظة قرار وجودي، ونوع من التمتع بالوضوح الجذري الممتزج بالفعل السياسي.

وهذا ما يقودنا إلى مسألة الأنطولوجيا، ومكانة الأنطولوجيا في أية رؤية ثورية أو يوتوبية، فدراسة جوهر الأشياء أو الوجود الخالص أي الانطولوجيا يمكن تصورها، على أنها تتكون من مجموعة من المبادئ العامة التي تبددت داخلها إلى حد كبير لحظة التضايف. والانطولوجيا تحتل مكاناً مهماً في التخطيط الفكري، فهناك خيط أنطولوجي عميق يربط النزعة اليوتوبية الجدلية بالكائن الإنساني، ويربط مرونة المستقبلات العربية بأسس المواطنة العربية. ولعل المقارنة، تلقي الضوء على جوانب الموضوع الأعم، فالتاريخ يتمايل للأمام بالتبادل بين مسارين متضافرين معاً، فالتاريخ والأنطولوجيا إذا لم يكونا متناقضين فهما على الأقل غير متوافقين. فالقضايا المعاصرة تتميز بأن أنساقها المؤسسة تنضبط على نحو جديد، وهكذا نجد، أن نهاية التاريخ قد أصبحت الآن مطوية داخل الأنطولوجيا.

ومحاولة استعادة مفهوم المواطن العربي الإنساني بوصفه المفهوم المركزي في مسألة البدائل السياسية، إنما هي محاولة مختلفة تماماً، لحل المعضلة الخاصة بالتغير التاريخي والانطولوجيا. ونحن على قناعة بصورة عامة، بأن المفاهيم الإيديولوجية المغلقة يجب التخلي عنها، فمفهوم المواطن العربي الإنساني يتميز بشيء متعلق بتفاؤل العقل، ونقد مضمر للدعاوي المثالية الخاصة بنزعة دينية أو جغرافية ضيقة. وهذا المفهوم، أصبح أمراً لا بد منه، في سياق مواكبة فضاء النظريات الاجتماعية والثقافية والسياسية العالمية، ويزودنا بمدخل إلى البحث العلمي فيما سيجعلنا أمة موحدة رغم معظم الاختلافات (الدينية والمذهبية والقومية والاقتصادية والفكرية والجغرافية) . فمفهوم المواطن العربي هو الفضاء الأعم والأهم، من حيث هو يشكل الإطار للمستقبلات المحتملة.

ومفهوم المواطن العربي الإنساني يخدم من ناحية أخرى هدفاً هو موضع تساؤل بدرجة أكبر، فمع وجود مفاهيم سياسية كثيرة للغاية في كل مكان، تبرز الحاجة إلى إيجاد شيء ثابت في مكان ما، إذ استثنينا أن يكون لنا منظور ما. فالكائن العربي بطبيعته الإنسانية الكلية العالمية العامة العمومية، وبتوجه جغرافي أكثر منه فلسفي، يضعف من شأن أي تبني مبسط للأنطولوجيا. ومثل هذا المفهوم، يزودنا بمكان نقف فيه وسط حالة من عدم اليقين التي لا تختص بالحاضر فقط بل تشمل المستقبل ربما بدرجة أكبر، فالإنسان العربي المواطن، هو حاجة ليس فقط لأنه يكتشف نوعه عملياً ونظرياً، وإنما أيضاً، لأنه ينظر إلى نفسه، على أنه النوع الحي الراهن، بوصفه كلياً، وبالتالي كائناً حراً. 

والتناقض الظاهر بين المحلية والثورية، يمكن حله فقط عن طريق التخلي عن التجريد الفلسفي الذي عبر ذلك التناقض عن نفسه من خلاله، أي بإيجاز، إضفاء الطابع الفضائي على معضلة الخصوصية. فهناك وجود لرابطة وثيقة بين الفضاء السياسي والطبيعة. ورغم ذلك، تبقى هذه الرابطة غير منظورة وتحتفظ بطبيعتها التجريدية، ويجري بناء ما تبقى من أنطولوجيا حول أفكار الخصوصية المتصلبة إلى درجة قد لا تستطيع إنتاج حتى الطبيعة بأسرها، ولا حتى رسم الطرق البديلة لإنتاج الطبيعة العربية، ولا أيضاً المحلية الضيقة التي ينشدون تحقيقها وينطلقون منها ويتذرعون بها .

ليس معنى ذلك، نفي وجود المبادئ الخصوصية في الحياة اليومية العربية، وإنما بالأحرى، طرح تساؤلات حول أهميتها. فهناك بطبيعة الحال، إحتياجات خصوصية عامة أساسية، لكن المشكلة هي أن الاعتراف بشمولية خصوصية هذه الاحتياجات الأساسية، لا تخبرنا بشيء ذي قيمة خاصة. وأن مثل تلك الاحتياجات الأساسية، ملباة بوسائل اجتماعية وسياسية شديدة التنوع. وهناك مفارقة ذات مغزى بين ما تتسم به هذه الاحتياجات من طابع يومي دنيوي، وبين الإحساس ذي الوزن، تجاه المبادئ والتحديات الكلية التي ينطوي عليها مفهوم الكائن العربي الإنساني. وبعبارة أبسط فإن مسألة أنساق الخصوصية المغلقة، يمكن كما ذهب الكثيرون، أن تكون بمثابة شرك تمويهي، إذ يتم وضع مسألة ممكنات المستقبل في تضاد مع إشكاليات الخصوصية، وهذا يشكل تقييداً لا ضرورة له.

فالدفاع عن المبادئ يتسم بالحسم الشديد، وينشأ كقرارات متحققة مترافقة مع أفعال سياسية حاسمة. وإعادة صياغة المفاهيم حول المبادئ الثورية على هذا النحو، ينطوي على كل أنواع الاحتمالات السياسية المثيرة، والتي تتعالى كثيراً على المناقشات حول الخصوصيات والمحلية الضيقة. والتي يتم التعبير عنها من خلال، إطلاق الخيال الذي يحرك المناقشات التحليلية في فضاءات الأمل. وبقدر ما، في التأملات العميقة لموقعنا العربي في هذا العالم.

ويسمح لنا تفاؤل العقل، بنقد واضح لعملية تجاهل القوة المتجددة للتمايز الفضائي. ويحث المرء على التساؤل حول :
ما إذا كانت ثمة خيالات غير منضبطة أكثر تسعى إلى التعبير عن نفسها؟
وما إذا كانت قد بقيت مكانها للحفاظ على اليوتوبيا الجدلية، بإبقاء إحدى القدمين في الحاضر؟ أم أن الخيالات قد تمت إعاقتها بفعل انغراس إحدى قدميها في الأنطولوجيا؟

For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com