سلام الربضي \ باحث أردني في العلاقات الدولية
مجلة مدارات استراتيجية \ اليمن
من علامات أزمة النخب الحاكمة فى بلادنا، أن بعض التصورات والأفكار تتحول إلى ثوابت فى الأذهان والأفعال، وكأنها تحولت إلى قوالب مقدسة. ويظل الكثير، من النخب والقادة العربية ينتهجون ويلتزمون ذات الثوابت، التي لم تعد تواكب التطورات الحاصلة بأي شكل من الأشكال. وفي ظل هذا الوضع، تزدهر في سماء المنطقة كثير من خطابات سياسية، لا تضمن التوصيفات المتعددة في العلوم السياسية القدرة على الإحاطة بها، من شعوبية جديدة ودوغمائية ما بعد عصر الحداثة. وسواها من تلك التوصيفات، التي تم تخصيصها لوصف سلوكيات سياسية بدائية، سادت وانتشرت في أزمنة أولى من ممارسة السياسة. والتعاطي معها بوصفها ترويضاً للمجتمعات الإنسانية، وليس باعتبارها، فن الممكن وفن إدارة الأزمات والمجتمعات، للوصول إلى أفضل النتائج التي تؤمن حياة البشر.
والإشكالية، تكمن في التوظيف السياسي البشع للأحداث من قبل بعض الأنظمة، التي تعرف تماماً، أنها لا تخسر شيئاً من الامتيازات التي حصلت عليها في بلدانها. ولن تترتب عليها أي التزامات. تمهيداً للابتزاز السياسي في لعبة السلطة، ودائماً بتحريض وتشجيع من الخارج. ومن البديهي أيضاً، أن يتم استخدام المالي السياسي الخارجي، الآتي باسم التنمية والإعمار في هذا المضمار. خصوصاً، أن مقدميه هدفهم نصرة طرف على طرف آخر. بحيث يصبح المال السياسي، الآتي تحت شعار التنمية والإعمار، سبباً لمزيد من الانقسامات التي تأخذ إلى الفتنة. حيث يستخدم المال السياسي، لزيادة مساحة الشقاق بين مكونات المجتمع وتحديداً السياسية منها.
فمنبع التناقضات جميعاً، هو هذه الغرابة الجوهرية والجذرية في انساق قد يرغب في فرضها على روحية المجتمعات التي فرضت فية وعليه غصباً، فلا تستطيع أن تكون آمنة . الأمر الذي يعمق غربتها ويعزز استحالة القبول بها، ولا يؤثر العنف الذي قد تتصف فيه يوما ما باللاتناسب، إلا على أن اللاتناسب هو جوهر هذا النسق ، وببساطة هذه الانساق غير مناسبة ومتناسبة في المنطقة. هذا أمر غير قابل للتقادم ولا المحو، لا بالقوة ولا بمزيد من القوة لا بالجنون ولا بالعقل. لأن المفاهيم باتت مضطربة من فرط سوء استخدامها بلا تحديد ولا تدقيق، ووفق وظيفة تنتمي إلى التفخيم اللفظي أكثر مما تهجس بالمضمون. تهرباً ربما، من الفراغ السياسي الذي يقف أمامه جميع الفاعلين إلى أي تيار انتموا، فتصبح في أفضل الأحوال أدوات لحاجة صماء، لذلك قد يكون تعبير "تاريخي" في وصف المنعطف الذي تقف أمامه يصبح محرجاً، ولكن النظر إلى المشهد برمته يفرض مثل هذا التوصيف.
ومعرفة هذا النسق الجديد، في تحديد ووصف طبيعة العلاقات العربيّة الإستراتيجيّة الدّاخليّة والخارجيّة، وهو عبارة عن، المظهر السّياسي المراد منه تحويل الأنظار نحو تقسيم الدّول العربيّة. من جهة فيما بينها، ومن جهة أخرى، في وضعها في حالة صراع مع قوى إقليمية. لكن الأهمّ من ذلك، هو إدراكنا بالعمق لهذا الواقع، واستيعاب عمق التحدّي، والتحلي بالرّؤية الإستراتيجيّة الكفيلة بدرء المخاطر والتحدّيات عن أوطاننا والمجتمعات من نخب ثقافيّة، فكريّة، سياسيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة . فمثلاً مشروع الشرق الأوسط الكبير سيكون لزمن غير قصير وسيبقى الخيار الثقافي الدّولي الذي ترغب الدّول الكبرى في جعله برنامج عمل وتنفيذ لدول المنطقة. على الرغم، من كل تلك التغيرات والثورات في المنطقة العربية. وهو المشروع الذي سيصبح ضرورة دوليّة، سياسيّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة وأمنيّة بامتياز في المنطقة، الأكثر اشتعالاً في العالم. للألتفاف على التغيرات والثورات المجتمعية الإيجابية، سواء في تونس أو مصر أو اليمن أو البحرين أو ليبيا..الخ وكل ما يليها مستقبلاً.
ونحن بأمس الحاجة، لذلك النمط من السياسة وهو ما يمكن أن يطلق عليه، مفهوم السياسة السهلة. بمعنى السياسة التي تزدحم بالخيال القادر، على إيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا. فضلاً عن الإرادة التي تحول هذا الخيال إلى مشاريع ورؤى وتصورات، وفق تعاطي منهجي مستمر. وصولاً إلى التكييف العملي والعلمي لتلك المناهج، مع واقع الإمكانات المتاحة وواقع البيئة المحلية والدولية. إذ تكتسب القدرة على التكيف الخلاق مع الموجات التاريخية أهمية قصوى، باعتبارها إحدى المهارات الأساسية للثقافة السياسية ، وخصوصاً في لحظات الانتقال السريعة في منطقتنا العربية الحالية، التي يغلب فيها على الحركة الدولية قدراً هائلاً من التغير والدينامكية. إذ تبدو أدق الحسابات السياسية عاجزة عن التواؤم الكامل مع هذه المتغيرات وحركتها الدافقة، بما يجعلها في حاجة دائمة لإعادة النظر من أجل التكيف المرن والخلاق معها. وهو ما يقاس بدقة الاستشعار وعمق القراءة، ومن ثم حسن التوجه وسرعته أيضاً، إزاء ما يعتبر موجات تاريخية أو تحولات سياسية، على النحو الذي يعظم من الفرص التي تتيحها هذه التحولات، ويقلص من مخاطرها لتأتي محصلة عوائدها وتكلفتها إيجابية.
وفي هذا السياق، يجب طرح إشكالية المراهنة على الجماهير والشارع العربي. طبعاً، ليس من منطلق التقليل من أهمية هذه المظاهرات والتحركات، أو من نبل المشاعر، التي تثيرها فهذا أضعف الإيمان. لكن ما يجب دراسته وبحثه، هو ضرورة كشف المسكوت عنه في الخطاب الجماهيري السائد. لأن الذهاب للبحث في هكذا مواضيع ملحة سيوصلنا إلى السؤال الاستراتيجي :
عن معنى غلبة علاقات السلطة على الدولة في النظام العربي، وإلى واقع إحلال وسائل القوة والسيطرة، محل علاقات المشاركة والتداول والتمثيل ؟
فمن خلال، تفحص التجارب العربية، يمكن ملاحظة أن معظم الخطاب العربي الجماهيري تاريخياً، كان مراوغ ويتواطأ مع علاقات السيطرة في الواقع السياسي . حيث كان يتم السكوت عن واقع المجتمع اليومي، بإدعاء إعلاء شأن القضايا القومية والخارجية. حيث لا تبدو، الشعوب على شكل مجتمعات أو مواطنين أحراراً، وإنما مجرد أفراد وكتل عشوائية. بينما يبدو الشارع، مجرد ساحة وبديلاً للإطارات وللتوسطات السياسية، وللتمثيلات الشعبية، وللبرلمانات. وفي هذا وذاك، تحل التحركات الشعبية محل المشاركة السياسية .
إذ في التفاصيل، لا بد من الاعتراف بأن خطاب الجماهير، كان يتعامل مع القضايا أكثر من تعامله مع البشر وحاجاتهم. فبقاء خطاب الجماهير أسير اللحظات التاريخية، يؤكد عدم نضج الواقع العربي، ويدلل على واقع السياسة في بلادنا. وعلى الرغم، من النكسات والهزائم والإخفاقات العربية السابقة، فإن مراكز صنع القرار ومراكز الأبحاث في البلدان العربية، كانت وما تزال تفتقد لأي نوع من الأبحاث والمراجعات الناجمة عن ذلك، لاستنتاج الدروس والعبر منها. ففي إسرائيل، ذات الخطر الاستراتيجي على العالم العربي والمستحضرة دائماً في المقارنات، توجد لديها عشرات مراكز البحث والدراسات ولجان تحقيق يشارك فيها، مسؤولون وخبراء عسكريون وقانونيون، ومفكرون، تمد صناع القرار الإسرائيلي بالتوجهات والنصائح ولائحة الاحتمالات والخيارات. هكذا هي حال، تقارير لجنة "أغرانات" بعد حرب 1973 ولجنة "كاهانا" 1982 وأخيراً لجنة "فينوغراد" بعد حرب تموز وكثير من اللجان الفرعية والمختلفة.
ولكن من الملفت للنظر والمستغرب، أن الكثير من العرب يستشهدون بهذه اللجان من دون أن يتساءلوا أين هي لجاننا وتحقيقاتنا ومراجعتنا ودراساتنا في هزائمنا أو حتى عند انتصاراتنا؟
منتهى القول، أن واقع الثورات العربية الحالية يعبر ويوضح، أن النظام العربي كان مريض وغير قادر على المتابعة والإبداع، لا في فضائه الإقليمي، ولا في باحته الداخلية. لهذا يصح توقع مآسي أكثر ترويعاً، إن لم يبادر هذا العالم العربي الرحب، إلى تغييرات جوهرية في بنيانه. حيث أن إعادة التقويم تتطلب آلية شاملة، تتناول تقويم الحالة السياسية والفكرية والاقتصادية والمعايير السياسية، وطرائق التفكير العربية. وأن هذه الإعادة، مطلوبة بشكل عاجل في وقت قد تدفع فيه الشعوب العربية أكلافاً باهضة. فما تكشفه المواجهة من معطيات، تؤكد ارتباط عموم الناس في المنطقة العربية بالحرية والمساواة، وذلك رغم سنوات الضباب والشك. فعملية النهوض العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت متعثرة إلى حد تم تحويلها إلى سيرورة خديعة وإخضاع، والصراع على السلطة كان فوق الحد القابل للتجاهل. في ظل واقع عالمي، كانت تنتابه دائماً، الازدواجية والاضطرابات في المفاهيم والإستراتيجيات.
فخطاب الجماهير العربية برغم ثورويتة الظاهرة وطوباويتة، كان يسكت عن حال تغييب المجتمعات. ويقصر عن الإجابة، عن أسباب عجزها وضعف وعيها لذاتها ولدورها. فهذا الشارع، لم يرغب في الذهاب إلى البحث في أسباب قصور التحركات الجماهيرية، وأسباب تغييب المجتمعات العربية المستمر. فالمسألة إذاً، قد تكون في الخيارات والواقع السياسي، وليس في أي شيء آخر. وبهذا الصدد، فإن كان أحد أوجه ميزان القوى ممثلاً لمصلحة السلطات العربية، فإن وجهه الآخر حالياً ليس كذلك، وعدم الاستفادة من ذلك الواقع، هو بمثابة ورطة إستراتيجية ستؤدي إلى إعادة إدامة الاختلال في ميزان القوى، لصالح مبدأ السلطة على حساب مبادئ الدولة والتمثيل والمشاركة. وإلى الاتجاه نحو آفاق غير محسوبة، وغير قابلة للضبط، يكون الخاسر الوحيد فيها في المحصلة، شعوب الأمة العربية بأسرها وعلى كافة المستويات.
إذ تكشف تلك الثورات الحاصلة حالياً في المنطقة العربية، عن تطور وعي الشارع السياسي والشعبي في العالم العربي، وتفاعلة مع مفاهيم الحرية والديمقراطية. فلقد خسرت الشعوب العربية كثيراً، في صراع الحكم والسلطة. والمعضلة، أن سبب هذه الخسارة لم يكن فقط بسبب ضعفهم، أو بسبب رجحان ميزان القوى لصالح السلطة والأنظمة الرسمية. وليس بسبب عدم ملائمة الأوضاع الدولية والإقليمية، لتطلعاتهم ومتطلباتهم المشروعة فحسب. وإنما بسبب، فوضاهم وتخلف إدارتهم لأوضاعهم، وانقساماتهم. وغياب إستراتيجية واضحة لهم، تتأسس على الواقعية والعقلانية . ولقد جاءت، الثورات والاحتجاجات المتسارعة وأن بوتيرة مختلفة، في كل من : تونس،مصر، ليبيا،البحرين، اليمن،الأردن،المغرب،الجزائر..الخ لتعطي بارقة أمل، نحو المواجهة السليمة مع دوائر السلطة. ذلك العمل، يتطلب من أجل ديمومتة على الشعوب العربية، اعتماد التخطيط والرؤية الواضحة. وقد تكون أولى النتائج المرجوه من هذه الثورات، هو تطوير الفكر والممارسة، لدى تلك الشعوب قبل النخب والقيادات.