2010-06-30

النزاعات التجارية وحكم القانون






سلام الربضي 


إن واقع السوق الذي تعمل الشركات عبر الوطنية في ظله والذي تستمد النفوذ منه يستدعي أدوات وآليات للضبط والتحكّم، وهذا هو ما يحصل على أرض الواقع إذ توجد سلطات مضادة وهي في طور التبرعم وهذه السلطات المضادة تفرض نفسها رويداً رويداً في ظل فلسفة جديدة تطغى على المستويين المحلي والعالمي في سياق السباق المتواصل بين السعي لاحتلال مواقع احتكارية ـ وهو ما تمثله الشركات عبر الوطنية ـ وبين الردع الذي تتولاه المؤسسات الراعية لحقوق المنافسة.

وفي ظل هذا الحراك العالمي والمستجدات التي تفرضها قضايا العولمة، لا بد من وجود قانون يستجيب لتلك المشاكل المترتبة على فرضية تداخل الفضاءات، ويحدد العلاقة بين الدول والقانون والمجتمع على كافة الصعد، وكذلك علينا الاستفادة من هذه المرحلة الحالية التي تشهد إلى حد ما الانتقال من دولة الشرعية إلى دولة القانون والمجتمعات بحاجة إلى قوانين مالية واقتصادية وسياسية تنظم حركة الأسواق الاقتصادية بكافة جوانبها. والقضاء قد يكون مدخلاً لهذه الحركة، وإلى أن يتم الاتفاق على وضع تلك القوانين، يبقى القضاء وقدرته على الحركة ـ خاصة  من باب الاجتهاد ـ المدخل الأسهل والأسرع لمعالجة هذا الوضع.

وفي إطار لعبة السلطة والسلطات المضادة يمكن للقضاء أن يملأ الفراغ الناتج عن هذه المتغيرات سواء على صعيد الفاعلين من شركات، منظمات غير حكومية، حكومات، منظمات دولية، أفراد، أو الأسواق وضروراتها. وفي ظل عصر السوق لا يمكن إيجاد توازن بين كل تلك الجهات سوى من خلال القانون، والسلطة تكمن بمَن يسيطر على تلك المتغيّرات في ظل غياب مدلول قانوني معولم واضح لكثير من القضايا الشائكة. 

قد تكون قرارات واجتهادات المحاكم المدخل لواقع جديد يتبلور في ظل التباين في العلاقة بين العولمة والقانون، حيث إن واقع الإدارة العالمية الاقتصادية لن يكون مستقراً، إلا إذا برز نظام كوني متجانس قادر على مواجهة نفوذ الشركات عبر الوطنية، وتطبيق كل قواعد الحكمانية عليها من المجاهرة والإيضاح والشفافية والديمقراطية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية، وهنا تكمن أهمية القضاء ودوره، وإلا فإن كل صيحات الديمقراطية الاقتصادية الجديدة ومضمونها ستكون نظاماً دولياً شرساً احتكارياً لم يشهد العالم مثيلاً له. وإذا طغت السيطرة على النظام الاقتصادي الدولي الجديد من قبل الشركات، فإن كل دعاوى الديمقراطية الاقتصادية التي نسمعها ستكون مجرد همسات في ريح عاتية، وفي حال غياب أداة قادرة على الفصل ـ كالمحاكم ـ تكون قد تركزت دعائم دكتاتورية السياسة الدولية.

في هذا الإطار يمكن الرجوع إلى عمل منظمة التجارة الدولية لمحاولة فهم هذه المتغيّرات، خاصة نشاطها على الصعيد القضائي، وكذلك الحال يمكن الاستفادة من السلطة القضائية العالمية للمحكمة الجنائية الدولية.

إن إجراء تقييم دقيق للسجل القضائي لمنظمة التجارة العالمية يظهر أن النظام قد سجل تقليصاً لدور الدبلوماسية الدولية وعمل بالمقابل على تعزيز حكم القانون. والنزاعات التجارية الدولية الآن تسوّى من قبل منظمة التجارة العالمية وعلى أساس حكم القانون وليس من خلال اللجوء إلى سياسة القوة المحضة. وتمنح تلك المنظمة كل عضو حقوقاً متساوية وكذلك التزامات متساوية في قبول النتائج, ومن أكثر الأمثلة تعبيراً عن واقع عمل هذه المنظمة على الصعيد القضائي ما هو متعلق بقضية الهرمونات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، والمسيرة القضائية لمنظمة التجارة العالمية أثبتت نجاحها بوجه عام على الرغم من بعض الملاحظات والاعتراضات على مسيرتها القضائية كالاعتراضات على نظام التسويات القضائية للمنظمة مثل سرية المداولات , ونفقات المقاضاة ...الخ .

تظهر سجلات منظمة التجارة عن عدد الخلافات الواقعة بين الدول والتكتلات داخل المنظمة حتى نهاية العام 2005 حيث بلغت عدد الشكاوي المقدمة إلى المنظمة نحو 335 شكوى بين الاعضاء , خصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وهي  أكثر الدول الشاكية والمشكو منها أيضاً  وتشير احصاءات المنظمة أن عدد الشكاوي الموجهة من الولايات المتحدة ضد الدول الأخرى بلغت 81 شكوى منذ العام 1995 , فيما بلغ عدد الشكاوي ضدها 90 شكوى. والنسبة العظمى من الخلافات التي تم تقديمها إلى المنظمة، مقدمة من قبل الدول والتكتلات الكبرى.

فيما الدول النامية والصغرى، وهي التي تعتبر الأكثر تضرراً من غيرها من الواقع الاقتصادي العالمي، هي الأقل تقدماً أو تذمراً أمام مراجع المنظمة القضائية. ومعظم هذه القضايا المعروضة على تلك المنظمة تعتبر الشركات عبر الوطنية محورها ومتأثرة بها، والخلافات القضائية داخل المنظمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معظمها قائم على دعم الدول لصناعتها وزراعتها التي تصب في خدمة ودعم تلك الشركات. ومنها تقديم شكوى ضد الاتحاد الأوروبي من قبل الولايات المتحدة لتقديمها معونات مالية لشركة إيرباص، حيث شكلت المنظمة هيئة للتحكيم في تلك الشكوى وكذلك أيضا بعد أن فشل الاتحاد الأوروبي في إقناع الولايات المتحدة بالكشف عن دعمها لشركة البوينغ التجأ إلى منظمة التجارة العالمية.

قد تكون هذه المنافسة القضائية بين الشركتين: إيرباص ـ بوينغ تدخل في إطار استراتيجيات الدول التي تعتبر صناعة الطيران صناعة استراتيجية تدخل في صميم الأمن القومي السياسي والأمني والاقتصادي.وهذه القضية ما زالت تدرس في المنظمة ولم يتم البت فيها إلى هذا الوقت كذلك الولايات المتحدة قدمت شكوى ضد مؤسسة الطيران الأوروبية تتهم فيها الحكومات الأوروبية بتقديم الدعم لشركة إيرباص وتعتبر هذه القضية من أكثر القضايا تعقيداً التي سوف تبت بها المنظمة الدولية, وهذا وقد قدمت الولايات المتحدة أدلة على أن السلطات في مقاطعة ويلز قد قدمت نحو9,5 مليون دولار على شكل منحة لتدريب فنيين جدد لطائرة إيرباص A350 المنافسة لطائرة دريم لاين 787 التي تصنعها شركة البوينغ الامريكية, كذلك اتهمت الحكومة الفرنسية ومصرف فرنسي حكومي بتقديم سندات وأسهم إلى شركة اندمجت في وقت لاحق مع شركة إيرباص . وكلا الطرفين يحاول تقديم الأدلة والبراهين على مخالفة الطرف الآخر لمبادئ المنظمة ودعمه لشركته الوطنية. والقضايا المطروحة في أروقة المنظمة متنوعة منها ما يتعلق بحقوق الملكية، وفرض قيود على حرية وصول المطبوعات، وسياسة الإغراق. وفي نيسان2007 تقدمت الولايات المتحدة بشكوى ضد الصين تتعلق بحقوق الملكية الفكرية، وشكوى أخرى تتهم الصين بوضع قيود على حرية وصول المطبوعات والأفلام والموسيقى الأجنبية إلى الأسواق الصينية. وأصدرت منظمة التجارة العالمية أول أحكامها ضد الصين وشملت القضية ثلاث دعاوى رفعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا في شأن الضرائب التي تفرضها على واردات مكونات السيارات, وهذا أول حكم ضد بكين منذ انضمامها لعضوية المنظمة عام 2001, وطالبت لجنة فض المنازعات في المنظمة من الصين بمطابقة نظام الواردات لديها مع قواعد التجارة العالمية. 

والمنظمات غير الحكومية تستطيع أن تلعب دوراً على صعيد العمل القضائي للمنظمة من خلال الحق الذي أعطي لها في تقديم مذكرات النصح والإشارة لهيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية. وأما على صعيد المحكمة الجنائية الدولية وخاصة في ما يتعلق بقضايا النزاعات المسلحة وانتهاك حقوق الإنسان لا بد من الإشارة إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية المتعلق بمسؤولية الاشتراك في الجريمة، والذي يمكن أن يخلق مسؤولية جنائية دولية للموظفين والمسؤوليين في الشركات. وعلى المجتمع المدني الصغط والعمل على إيجاد تعديلات في نظام المحكمة من أجل إدراج مسؤولية الشركات عن الانتهاكات في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهذا الأمر في غاية الأهمية في ظل تزايد انتهاكات ونفوذ الشركات على المستوى الأمني والعسكري. 

ضغوطات المجموعات المعنية بالشأن العام والتغطية الإعلامية المكثفة والإجراءات القانونية كلها تشكل دينامية معروفة جداً في المجال السياسي وتطال أكبر الشركات عبر الوطنية. وإن وسائل الإعلام تقوم بدور عاكس لصدى اهتمامات المجتمع المدني، وعلى ضوء تحديد المسؤليات وضغوطات الرأي العام يتدخل القضاء كسلطة ضابطة ومراقبة. وقوى السوق هي بأمسّ الحاجة إلى سلطة القضاء من أجل إعطائها الشرعية القانونية ومن أجل صون ملكيتها وحماية حرية عملها.

For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com