سلام الربضي \ باحث ومؤلف
في العلاقات الدولية.
وكالة عمون الاخبارية
24\11\2012
بتنا نشهد تحولات عميقة في بنية
المجتمع العالمي، حيث انتقلنا من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعرفة، بالترافق مع
صعود ما يسمى باقتصاد المعرفة، بالإضافة لإنتقالنا من الثنائية القطبية إلى
النسبية القطبية، والإنتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ولقد انتقلنا أيضاً من
مفهوم مجتمع الأمن النسبي إلى مفهوم مجتمع الخطر, خطرالتلوث،الإرهاب، جنون
البقر،البذور المسرطنة،الإستنساخ….الخ. فالواقع
العالمي يعبر عن مرحلة إنتقالية، تتميز بها معظم الملفات الدولية، إن لم نقل
السياسة العالمية، والقضايا المطروحة عالمياً من الأسلحة النووية، البيئة، الفقر،
إصلاح الأمم المتحدة، حقوق الإنسان... كل تلك القضايا تجعلنا نتساءل عن جدلية الواقع
النظري المفسر لقضايا العالم؟
ومن الواضح إن كل تلك المتغيرات
والمعطيات على الصعيد العالمي تضعنا أمام تساؤل حول نظرية الواقعية في العلاقات
الدولية القائمة على نسق وتوازن دوليين. ويقصد بالنسق الدولي بإنه إنتظام آلي يعبر
عن طبيعة العلاقة بين الدول، وهذه العلاقة خاضعة لنوع من التوازن تعبر عن واقع
القوة. وما يميز تلك الطروحات النظرية إرتكازها على مبدأين: مبدأ الدولة اللاعب
الوحيد على الصعيد الدولي، ومبدأ القوة أي توازن دولي قائم على القوة المادية.
ولكن من خلال محاكاة الواقع العالمي
المعاصر، نجد أنه أصبح زاخراً بكثير من التطورات على كافة الأصعدة، والذي يمكن
التعبير عنها بالسؤالين التاليين:
هل ما زالت الدولة وحدها
القادرة على تحديد العلاقات الدولية؟
وهل يمكن تحليل هذا
الواقع المستجد من خلال الإرتكاز على معيار القوة المادية فقط؟
أولاً، على صعيد الدولة:
إن أكبر إشكالية مطروحة في عصر
العولمة هي جدلية العلاقة بين الدولة والعولمة, لدرجة أن كثيراً من النظريات تبشر
بزوال الدولة أو تآكل وأفول مكانتها. وكثير من القضايا التي تجعل من مقولة "
الدولة اللاعب الوحيد في العلاقات الدولية" هي موضع تساؤل؟ سواء على صعيد
الفاعلين أم طبيعة القضايا العالقة، فهناك تزايد لنفوذ فاعلين غير دوليين أصبحوا
محددين رئيسيين للعلاقات الدولية كالمنظمات غير الحكومية، الأفراد ، الشركات عبر
الوطنية، المؤسسات الإعلامية.
تأكيداً على هذا الوضع، يمكن مراجعة
ومتابعة الكثير من الأحداث من مفاوضات جولة الدوحة لـ " منظمة التجارة
العالمية" لنرى تأثير المجتمع المدني، والاتفاقيات الدولية كـ " حظر
الألغام" 1997، التنوع البيولوجي " 2000"، " كيوتو"
للبيئة 1998، وحملات الغاء ديون الدول الفقيرة، وتأثير الشركات عبر الوطنية في
الاقتصاد العالمي، يعكس واقع طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة. كما إن القضايا
العالقة أو المشكلات الدولية التي تهم العالم كله، لم تعد وقفاً على الدول بذاتها.
وطبيعة تلك القضايا أو الظواهر، خرجت عما هو مألوف في العلاقات الدولية، فمثلاً
مشاكل البيئة هي مشكلة بين الإنسان والطبيعة. وليست مشكلة بين الدول، وذلك من خلال
التشخيص الدقيق لتلك الظاهرة.
وعلى صعيد ظاهرة
الإرهاب، فنحن أمام وقائع تتم ليست على أيدي دول، إنما على أيدي منظمات أو شبكات
أو أفراد غير معروفة العنوان أو الهوية. أو حتى ليس لها مركز واحد لصنع القرار.
وبالتالي، فنحن أمام علاقات دولية جديدة لا تزال في طور الإكتشاف، وهذا النوع من
العلاقات يتناقض مع منطق العقل التقليدي، مما يؤدي إلى تآكل مفهوم الدولة التقليدي.
بالإضافة إلى التغيير الذي يحصل في مواجهة تلك الظاهرة، ومن هنا تأتي إشكاليات
تعريف الإرهاب والعدوان. وبنظرة للواقع العالمي، نرى أنه حدث تحول كبير لمفهوم
الأمن الجماعي أو العالمي، بحيث لم تعد النظرة الكلاسيكية المرتكزة على تحقيق أمن
الدولة الأمن السياسي بالمعنى الضيق، هي التي تحكم واقعنا، بل أصبح مفهوم الأمن الإنساني
بجميع أبعاده الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، السياسية... لم يعد يقاس بمدى
تقليص التهديدات بل بمدى الاستجابة للحاجيات الأساسية للإنسان.
وأصبح مفهوم التنمية المستدامة اكثر
رواجاً، وهو الذي يحاول التوفيق بين تلك الحاجيات الأساسية للإنسان، وبين قدرة
البيئة على تلبيتها، وفقاً لمبدأ المحافظة على إمكانات أرضنا، من أجل إستفادة أحفادنا
منها. فبنية المجتمع العالمي المعاصر تضعنا أمام تساؤل حول نظرية الواقعية في
العلاقات الدولية. فالواقعية ترى العالم على هيئة نظام تهيمن عليه الدولة، وهدف
هذه الأخيرة تحقيق الأمن والقوة والسلم. لكنها اليوم، لم تعد هي محور النظام
وحدها، وأمام هذا الواقع نجد انفسنا أمام حالتين: حال تخضع لدوافع تقليدية في
البحث عن القوة والمصالح والسيادة، وحال تخضع لدوافع الاستقلالية وتجاوز الدول.
ثانياً، على صعيد القوة:
المشكلة لا تكمن في مدى أهمية
القوة في السياسة العالمية، وإنما حول إمكانية تفسير أنماط القوة وأشكال إستمرارها،
بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية فقط ؟ أم يجب أيضاً، التركيز وإدراج الجوانب
الثقافية عند التحليل؟
فالتفاعل على المسرح الدولي، هو
تفاعل ثقافي وليس تفاعلاً مادياً فقط. فإذا اخذنا أكثر القضايا سخونة على المستوى
العالمي كالإرهاب، الأسحلة النووية،
البيئة، لا يمكن إيجاد مقاربة نظرية لها، بعيداً من البعد الثقافي سواء في تحليلها
أو حلولها. فقضية الأسلحة النووية لم تعد مطروحة من منطلق وجود الأسلحة بحد ذاتها،
إنما الأهم كيفية فهم وجودها، فالولايات المتحدة لا تقلق كثيراً من إمتلاك دول مثل
بريطانيا أو فرنسا للأسلحة النووية، على عكس موقفها من إيران أو كوبا، أو سوريا أو
كوريا الشمالية.
كما إن قضية الإرهاب منذ احداث 11
أيلول تعطي دلالات جديدة، ليس أقلها التعبير عن إنبثاق الثقافة كعامل أساسي في
تحليل وتحديد العلاقات الدولية. والعولمة بالمفهوم الواسع، أصبحت مسكونة بهاجس
التعايش الثقافي، لا بالاقتصاد والتكنولوجيا فحسب، فنحن أمام مفهومين نقيضين :
1- مفهوم الأمبريالية الثقافية.
ويقصد بها حصراً " الأمبريالية الثقافية الأميركية".
2- مفهوم الأصولية الثقافية. ممثلة
بالأصوليات الدينية، كالأصولية الإسلامية اليوم، كما الأصولية الأرثوذكسية البارحة
والكاثوليكية من قبلها.
وبالتالي، فإن مسألة الإرهاب لا
يمكن إيجاد مقاربة لها وفقاُ لمبدأ القوة المادية ( التوازن). وفي ما يخص مسألة
البيئة والتنمية المستدامة، فإنها تطرح وبإلحاح مسألة القيم وتحولاتها، فلم تعد
القضية تقف عند حدود الدول بل أصبحت مرتكزة إلى الإنسان بذاته. فالبيئة ومخاطرها
تعكس علاقة الإنسان بأرضه، وقضايا التنمية المستدامة والفقر، لم يعد بالإمكان
إيجاد حلول لها على صعيد الدول فقط. والمسألة ليست مطروحة عملياً وعلمياً بين دول
غنية ودول فقيرة، بل بين إنسان فقير وآخر غني، وتقارير الأمم المتحدة زاخرة في
تحليل هذا الواقع، كما إن التنمية المستدامة قائمة على هاجس السؤال الآتي :
كيف يمكننا وضع حد لانتهاك الموارد الطبيعية، الذي قد يقضي نهائياً على إمكانيات التنمية المستدامة، وبالتالي على حظوظ الآجيال القادمة، من دون عقد ثقافي؟ وما هي السبل التي نملكها، لمواجهة وتحديد متطلبات أخلاقية تتضمن إطاراً عاماً للأمن البشري؟