2021-07-18

مستقبل أوروبا والتحديات الديموغرافية: الجدليات والإشكاليات

 



د. سلام الربضي \ الميادين نت، بيروت 13- 17- 2021.

 

تعتبر التحديات المرتبطة بالتطورات الديموغرافية وتدفقات الهجرة من بين أهم الاتجاهات التي ستحدد مستقبل أوروبا. وسيكون لذلك تداعيات ستؤدي إلى نظام متكامل من التغيرات الجذرية على مستوى هوية المجتمعات واستقرار الدول، والتي ستؤدي إلى إعادة تشكيل موازين القوى في القارة الأوروبية. وانطلاقاً من ذلك، بات من المستحيل فهم الواقع الحالي وقراءة التعقيدات المستقبلية بعيداً عن المسألة الديموغرافية. حيث تبدو العديد من التقديرات الديموغرافية الأوروبية خطيرة وتثير مخاوف استراتيجية. وبناءً على ذلك، واستناداً إلى كيفية تأثير تلك التحديات وتداخلها مع الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية والثقافية والبيئية، يمكن طرح العديد من الجدليات والإشكاليات:


1.     جدلية ضبابية التنبؤات الديمغرافية وغياب السيناريوهات الثقافية والسياسية:


تطرح الدراسات الديموغرافية عدم اليقين إلى حد الارتباك، مما يثير العديد من الإشكاليات حول الحقائق الديموغرافية غير المدعومة بأدلة علمية مؤكدة. وذلك نظراً لأن معظم التنبؤات والنظريات حول السلوك الديموغرافي تبدو ضبابية وغير قادرة على تقديم تفسيرات مقنعة. وفي حال تم إضافة تداعيات إشكاليات الهجرة، يصبح الإطار النظري أكثر تعقيداً وانفتاحاً على مجموعة متنوعة من علامات الاستفهام وعدم اليقين الجوهري المرتبطة بنسق الديناميكية الديمغرافية[1]. كما إن إمكانية التغيير السريع والجذري على الرغم من أن الشكل الذي يتخذه غير معروف، يطرح إشكاليات أساسية حول فعالية التخطيط. وبالتالي، يوجد الكثير من الشكوك حول فيما إذا كان هناك تحليل ديموغرافي أوروبي مستدام وموثوق فيه، إذ أن العديد من الاحصاءات الديمغرافية المستقبلية تستند إلى توقعات إيجابية غير مؤكدة ومشكوك فيها. ناهيك علامات الاستفهام الكبيرة حول غياب الدراسات الرصينة المبنية على توقع سيناريوهات ديمغرافية سلبية ( سواء كانت ثقافية أو سياسية) ووضع حلول لمعالجتها[2].

 

2- جدلية دولة الهجرة الناشئة والأمن غير الكلاسيكي:

 

تأثير الهجرة على المجتمعات الأوروبية معقد للغاية، فمنذُ عام 2015 ، شكلت الأزمة المتعلقة بمسألة الهجرة في أوروبا تحولاً غير مسبوق على مستوى التكامل الأوروبي. فالهجرة بأبعادها الثقافية والأمنية والسياسية والبيئية ينبغي دراستها من خلال منهجية استباقية وديناميكية[3]. وفي هذا الإطار، هناك العديد من الإشكاليات التي يجب على المجتمعات الأوروبية معالجتها:

-   هل ينبغي اعتبار الهجرة مسألة تتعلق بالأمن الثقافي أم أنها تخضع للقواعد الاقتصادية؟ وهل يمثل تدفق المهاجرين تهديداً لمبادئ المواطنة في أوروبا؟

 - إذا كان الخلل الديموغرافي المتعلق بمعضلة الشيخوخة لا يمكن مواجهته إلا برفع معدل الهجرة، فهل الأوروبيون على استعداد لتحمل العواقب الثقافية لمثل هذا الخيار؟

-    في حالة تأكيد مصداقية النظريات والأرقام التي تنبئ بتراجع معدلات الخصوبة في الدول النامية فما الذي يمكن أن تجده الدول الأوروبية كحلول، إذا كانت تعتمد بالدرجة الأولى على زيادة نسبة المهاجرين من الدول النامية؟

 - هل هنالك استراتيجية لمواجهة تكرار أزمة الهجرة 2015؟ فمثلاً كيف يمكن لإسبانيا أن تتعامل مع إشكاليات الهجرة فيما إذا قرر المغرب فتح حدوده مع إسبانيا للمهاجرين نتيجة نزاع سياسي بين البلدين أو عدم استقرار داخل المغرب أو بسبب الظروف المناخية؟

-    ما هي المعايير المناسبة للتعامل مع إشكاليات اللجوء البيئي المستقبلي؟ وهل يشكل هذا النوع الجديد من اللجؤ تهديداً على الأمن القومي الأوروبي؟


3- جدلية العلاقة بين الخيارات السياسية والاقتصادية:

 

العديد من التهديدات الديمغرافية في أوروبا لا يمكن فهمها دون نوع جديد من التحليل السياسي، وهذا المنطق يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة العلاقة الجدلية بين الخيارات السياسية والمصالح الاقتصادية. فعندما تتداخل المصالح بين السلطة السياسية والطبقة الرأسمالية والمؤسسات البيروقراطية ومؤسسات البحث الأكاديمي، يصبح من الصعوبة بمكان ما إيجاد خيارات خارج النسق الاقتصادي المغلق، والذي يرتبط بجدلية العلاقة بين السلطة ورأس المال في أوروبا. إذ أن تعقيدات الاحتكاك بين السياسة والاقتصاد باتت جزء أساسي من فهم المستقبل الأوروبي[4]. لذلك، يجب طرح الإشكاليات التالية:

-      أين تبدأ حدود المصالح الاقتصادية وأين تنتهي؟ وهل الرؤية الاقتصادية وحدها قادرة على معالجة التحديات الديمغرافية أم أنها من أحد أهم التحديات الأوروبية المستقبلية؟

-      لماذا الاهتمام السياسي والأكاديمي الأوروبي المرتبط بمسألة الديمغرافيا والهجرة منصب على تحليلات اقتصادية أكثر من التحليلات الاستراتيجية السياسية والثقافية والأمنية[5]؟

 

4. جدلية الأمن الديموغرافي الثقافي الأوروبي:

 

التغيير الجوهري في البنية الديموغرافية الأوروبية يثير تساؤلات مصيرية حول إشكاليات الأمن الثقافي. فزيادة معدل الشيخوخة ومخاطر تدفقات الهجرة ستحدث تغييرات خطيرة، تنذر بتحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات مفككة تفتقر إلى أي قواسم مشتركة فيما بينها. وهذا الواقع يمكن أن يؤدي إلى زيادة النزعة الانفصالية وردود الفعل الراديكالية من قبل الشعوب الأوروبية الأصلية. وهكذا يتضح أن هناك حاجة ماسة للبحث في المسألة الثقافية، بدلاً من الاعتماد فقط على الخيارات الاقتصادية.

 فالثقافة باتت عاملاً مؤثراً في تطوير الاستراتيجيات الجيوسياسية، خاصة مع تنامي الهواجس القائمة على الخوف المستقبلي من أن تفقد القارة هويتها وأمنها الثقافي. وعلى الرغم من كل الملاحظات أو الانتقادات التي يمكن توجيهها نحو الأفكار والنظريات الثقافية المرتبطة بواقع التحولات الديموغرافية، إلا أنها ستبقى ذو أهمية استراتيجية، وهي ليست مجرد نقاش أكاديمي بحت. هذا لأنه لن تكون هنالك أي دولة أوروبية في مأمن من تلك التداعيات الثقافية، ناهيك عن أنه يجب عند مواجهة التحديات الديموغرافية الأخذ بعين الاعتبار أنها ناتجة عن عوامل وصيرورات ثقافية أوسع وأشمل من مجرد قرارات سيتخذها القادة السياسيون الأوروبيين. وبناء على ذلك، هنالك كثير من الإشكاليات التي تحوم حول كيفية إعادة خلق الثقافة والسياسة الأوروبية، ومنها:

-   أين حدود الأمن الديموغرافي الثقافي الأوروبي؟ وكيف يمكن التوفيق بين الاستمرارية في تبني مبادئ اقتصاد السوق الحر، وعلى العكس من ذلك، على المستوى السياسي ينبغي أن تكون القارة الأوروبية منغلقة ثقافياً على نفسها؟

 

-    ما هو مدى التنوع الثقافي الذي يمكن أن تستوعبه المجتمعات الأوروبية من أجل الحفاظ على تماسكها؟ وما مدى إمكانية استغلال بعض الدول الأجنبية هذا الواقع الثقافي لتقويض الأمن القومي الأوروبي؟ وهل هناك استراتيجية أوروبية لمواجهة أي محاولة مستقبلية للتدخل في شؤون القارة باستغلال الحقائق الناتجة عن الهجرة وسياسات التعددية الثقافية[6]؟

 

-   هل هنالك أي وسيلة لزيادة النمو الديموغرافي دون اللجوء إلى التجديد الديني المحافظ(البديل الاستراتيجي الأكثر أهمية) الذي يُخشى أن تأتي به الديموغرافيا؟ وكيف يمكن التصدي للتحدي الثقافي المرتبط بنسق الحلول التكنولوجية للديمغرافيا ولخطر عدم اليقين بشأن ما إذا كان هذا النسق سيعزز أو يزيد من تآكل الأسرة النووية الأوروبية؟

 

يجب أن نأخذ في الاعتبار الأهمية الواضحة للأنساق الثقافية كعوامل مؤثر توفر رؤية تحليلية مختلفة، والتي غالباً ما يفوق تأثيرها الاستراتيجي المصالح الاقتصادية. لذلك يجب النظر إلى هذه الأنساق من حيث درجة التغيير الذي تمثله. إذ لم يعد من الممكن إيجاد أي مقاربة منطقية للواقع السياسي دون مراعاة تأثير العوامل الثقافية، التي ما زالت تتجاهلها مؤسسات الاتحاد الأوروبي والتي سيكون لها دور محوري في تحديد مستقبل أوروبا[7].

 

5- جدلية مواجهة الانقسامات السياسية والثقافية المرتبطة بتحديات الديموغرافيا والهجرة:

 

يمكن الاستنتاج بشكل قاطع أن المشروع الأوروبي (منذُ بداية أزمة الهجرة عام 2015) بات يواجة مخاطر حقيقية، مع اتساع الفجوة الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل أوروبا، ناهيك عن فقدان الأحزاب السياسية التقليدية لفعاليتها في مقابل زيادة نفوذ الأحزاب اليمينية والحركات المناهضة للاتحاد الأوروبي وجميع سياسات التعددية الثقافية وتشجيع الهجرة (The Eurosceptics)، حيث أصبحوا أكثر نفوذاً على مستوى الحكومات والبرلمانات الوطنية أو مؤسسات وبرلمان الاتحاد الأوروبي. ومن أحد أحدث الأمثلة في هذا السياق هو نجاح حزب اليمين"Chega" في البرتغال من الحصول على 12% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في بداية 2021. وبالتالي، هذه المخاطر تثير تساؤلات حول ما إذا كانت ستؤدي إلى زيادة الانقسام أم أنها مجرد اضطرابات مرحلية لن تؤثر على عملية التكامل الأوروبي. وحتماً الإجابة على تلك التساؤلات ستبقى مرهونه بالإشكاليات التالية:

-     إشكالية المواجهة المباشرة بين مؤيدي ومعارضي سياسات الهجرة: فهل ستؤدي إلى تغيير العديد من المعادلات الاستراتيجية والتوازنات السياسية داخل أوروبا في المستقبل[8]؟

-  إشكالية فقدان الاستراتيجية الثقافية: هل أوروبا في حاجة ماسة إلى تطوير استراتيجيات للتخفيف من المخاوف الثقافية من أجل مواجهة حروب الأفكار التي تدور حالياً في القارة؟ وهل يملك القادة السياسيون والنخب البيروقراطية رؤية ثقافية وسياسية قادرة على التعامل مع الحركات الشعبية المناهضة لسياسات الاتحاد الأوروبي المرتبطة بالهجرة؟

 

على نور كل ما تقدم، لكي تكون أوروبا مستعدة قدر الإمكان لمواجهة تلك التحديات، يحتاج القادة الأوروبيين إلى التفكير على نطاق واسع في أسوأ ما يمكن أن يحدث. وبناء عليه، يمكن لهذه الجدليات والإشكاليات المطروحة أن تكون بمثابة إنذار مبكر حول التغيرات الجيوسياسية العميقة الجارية حالياً أو التي من المتوقع حدوثها مستقبلياً. إذ أنه مع اجتماع التحديات الديمغرافية مع افتقار القادة السياسيين ذوي الرؤية الاستراتيجية، يجعل الأوروبيين غير قادرين على مقاومة هذ التغيرات الشاملة. والأخطر من ذلك، أن هذا التغيرات لم تعد قائمة على ما يفعله السكان الأوروبيون الأصليون أو ما يطمحون إليه، بل التغيرات قائمة على ما يحدث لهم، وما يحدث هو أزمة الهوية، أو بالأحرى هو أزمة عدم وجودها[9].

وبناءً على ذلك يمكن القول إن دراسة القضايا الديموغرافية هي المدخل الرئيسي الذي يمكن من خلاله إدراك الواقع الحالي لأوروبا ومصيرها في المستقبل. حيث أن فهم التحديات الديموغرافية وتأثيراتها المترابطة بات محوراً مهماً للغاية يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية، ويفتح الباب على مصراعيه للتساؤلات المرتبطة بطبيعة العلاقة بين الديمغرافيا والاقتصاد والثقافة والبيئة والأمن والسياسة[10].

وهذا الواقع حتماً يتطلب ابتكار رؤية أوروبية جديدة تكون قادرة على مواجهة كل هذه الجدليات والإشكاليات، حيث يبدو أن العديد من الأفكار والسياسات الحالية لم تعد تواكب تلك التطورات. وفي هذا السياق، يبدو أيضاً إن التساؤلات المرتبطة بجدليات وإشكاليات قدرة الأوروبيين على إيجاد حلول لكل هذه التحديات ستبقى غير مكتملة بدون التساؤلات المرتبطة بجدليات وإشكاليات الإرادة الأوروبية؟



[1]        Kenneth Gronbach,Others,"Upside: Profiting from the Profound Demographic Shifts Ahead", Amacon, U.S,2017,pp.229-256.


[2] Report,"Security Outlook 2030: Three Alternative Scenarios",World Economic Forum, Switzerland, 2019. Also, Report,"State of World Population 2018-The Power of Choice: Reproductive Rights and the Demographic Transition",United Nations, NY ,2018, p.7. Also, Report: Carolin Nerlich, "The 2018 Ageing Report: Population Ageing Poses Tough Fiscal Challenges", European Central Bank (ECB), Germany, 2018.


[3] Thomas Gomart, Marc Hecker ,"European Elections 2019: Structuring the Debate", French Institute of International Relations,France, February 2019,pp.23-26.


[4] Joan Wallach Scott,"Knowledge, Power and Academic Freedom",Columbia University ,U.S,2019, pp.1-124.


[5] Thomas Gomart, Marc Hecker ,"European Elections 2019: Structuring the Debate", French Institute International Relations, France, February 2019,pp.23-26.


[6] Christopher Deliso,"Migration,Terrorism,and Future of a Divided Europe:A Continent Transformed", Praeger,U.S,2017,pp.67-92.


[7] CQ Researcher," Global Issues: Selections from CQ Researcher ",CQ Press, U.K , 2017,pp.261-284.


[8]        Alina Polyakova,"The Dark Side of European Integration: Social Foundations and Cultural Determinants of the Rise of Radical Right Movements in Contemporary Europe", Ibidem Press,U.S,2015,pp.(Conclusion).


[9]        Douglas Murray,"The Strange Death of Europe: Immigration, Identity, Islam", Bloomsbury Continuum, London, 2017,pp.284-338.


[10]   Paul Morland,"The Human Tide: How Population Shaped the Modern World",Public Affairs,NewYork,2019,pp.255-282. Also, Ohn Baylis,Steve Smith,Patricia Owens,"The Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations",Oxford University Press,U.S, 2017,pp.480-528.


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com