2010-07-31

التهرب الضريبي بالمفهوم الاقتصادي





سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية

موقع جو فايننس الاقتصادي

http://jofinance.com/index.php?option=com_content&task=view&id=5003&Itemid=313

19\ 8 \ 2010.


التهرب الضريبي يترك آثاراً سيئة على موازنة الدولة نتيجة قدرة الشركات على ابتكار المهارات التي يصعب إلى حد ما وضع حد نهائي لها ومنها التسعيرة الإسمية والتسعيرة التحويلية، فالشركات عبر الوطنية، المنتشرة في كافة أنحاء العالم، تظم شركات وفروع تابعة لها، وبما أن الشركات تتعامل فيما بينها بالسلع الوسيطة وبالخدمات وبحقوق البراءة والاختراع أيضاً، فنتيجة لذلك فإن الشركة الأم والفروع التابعة لها قادرة على أن تحسب لنفسها تكاليف يكاد مستواها يكون اعتباطياً، ولهذا السبب تكون نفقات المشروعات الناشطة دولياً في أعلى مستوى لها في تلك البلدان التي تكون فيها المعدلات الضريبية في مستوى أعلى.

بالنسبة إلى الواحات الضريبية أو البلدان ذات المعدلات الضريبية المنخفضة نسبياً فالأمر عكس ذلك، فالشركات والفروع التابعة تحقق أرباحاً هائلة على نحو غير اعتيادي وهنا تكمن الصعوبة التي تواجه خبراء المالية والضرائب في الدول، حيث هم غير قادرين على مواجهة هذه الأساليب، فمن أين لهم إثبات ارتفاع الأسعار التي تحتسبها المؤسسات ذات الفروع التابعة في تجارتها البينية على نحو يجافي الواقع؟ خاصة في حال عدم وجود أسعار مقارنة في السوق لمثل هذه التجارة البينية إلا بالكاد؟

تبقى الطريقة الوحيدة هي ارتكاب تلك الشركات أو المؤسسات لمغالطات مفضوحة على نحو صارخ, ولكن حيّز المناورة يبقى واسع أمام تلك الشركات. وعلى صعيد الواحات الضريبة فقد انخفضت عائدات الدول جراء تلك السياسة بما يفوق 70%، فما هي الخسائر الحقيقية لخزائن الدول فيما لو تمت معرفة حجم التلاعب بالتسعيرة الإسمية أو حجم الخسائر الناتجة عن الاستئجار الثنائي التخفيض أو استغلال كل تشريعين ضريبيين في آن واحد؟

الاقتصاد العابر للحدود يستنزف أموال الدولة، ويبدو ذلك واضحاً على مستوى واردات الدولة من الضرائب، وهذا ينطبق على مستوى الإنفاق. ولا بدّ عند التكلّم عن التهرب الضريبي من الأخذ بعين الاعتبار التهرب الضريبي بالمفهوم الاقتصادي وليس بالمفهوم القانوني ويقصد بذلك التهرب الذي يترتب عليه فقدان وخسارة الدولة لجزء هام من إيراداتها نتيجة للكمّ الهائل من الإمتيازات والإعفاءات الضريبية بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا التهرّب يشكّل انتهاكاً لأحكام القانون من عدمه.

فالتنافس الاقتصادي أفرز تطوراً جديداً في الدول المتقدمة، وهو يدعو إلى الاستغراب فعلاً، إذ أمست الحكومات تقدم الرشوة للشركات من أجل الاستثمار فيها أو البقاء فيها. كقيام طوني بلير رئيس الوزراء السابق في المملكة المتحدة بجهود لمنع إغلاق مصنع سيارات "Rover" وقدم دعم للشركة بشكل مساعدة قيمتها150مليون جنية استراليني بحجة إنقاذ 10000وظيفة. ومع هذا فقد انسحبت شركة "BMW" من المملكة المتحدة. فمن الأبعاد الخطيرة في هذه العملية انتقال التنافس من بين الدول إلى داخل الدولة نفسها. ففي الصين، تفرض كل حكومة من حكومات الأقاليم ضرائب على السلع غير المصنّعة فيها، وتقدم حوافز للشركات التي تعمل في أقاليمها. كذلك ألمانيا في قرية "nord friedrichs koog" لا تفرض ضريبة على الأراضي والمساكن ولا على الشركات مما شجع الكثير من الشركات على الهروب من مناطق أخرى في ألمانيا إلى تلك القرية, وجعل كثير من القرى تحذو حذوها.

هذا ما يحدث حالياً في الإمارات العربية بين إمارة دبي وإمارة أبو ظبي من منافسة شديدة على جذب الاستثمارات إلى داخل كل إمارة. كذلك أنفقت حكومة ولاية أركنساس الأمريكية ما يزيد على10 ملايين دولار في إنشاء بنية تحتية جديدة لإغراء شركة "Frito ـ lay" للمجيء إلى مدينة جونز بورد في الولاية على الرغم من وجود مناطق في تلك الولاية غارقة في المياه الصحية المبتذلة وتحتاج إلى بنية تحتية تكلفتها لا تتعدى750 ألف دولار. وأعفيت شركة "Wal martـ Spiegel" وشركة المخازن المتحدة في ولاية أوهايو من ضريبة العقارات، وضريبة العقارات في أمريكا هي التي تمول المدارس الخاصة.

التنافس بين الدول لتخفيض الضرائب، تستفيد منه الشركات، ولا تقتصر القضية عند هذه الحدود، كذلك الدول تتنافس على تقديم أسخى التبرعات والمساعدات لجذب الاستثمار والرساميل، فإذا أقدمت دولة مثل مصر على تقديم الأراضي مجاناً أو بأسعار رمزية بالإضافة إلى كل ما هو ضروري من خدمات كإنشاء الطرق والشوارع وإيصال الطاقة الكهربائية والماء بلا ثمن، فإن ذلك كله يعتبر حداً أدنى على المستوى الدولي. وإذا أرادت شركة من الشركات إنشاء مصنع للإنتاج فإن بوسع الساهرين على احتساب التكاليف أن يتوقعوا حصول الشركة على إعانات ومساعدات بمختلف الصيغ والأسماء، فعندما توافق شركة"Samsung"على استثمار مليار دولار في مصنع لها جديد منتج للأجهزة الالكترونية في شمال انجلترا لقاء حصولها على 100 مليون جنيه استرليني من وزارة الخزانة البريطانية تكون قد تساهلت وقبلت بسعر مناسب جداً. فما هو المطلوب إذا أرادت شركة المرسيدس تشييد مصنع لها؟ وفي ولاية "Alabama"، وهي ولاية فقيرة نسبياً في الولايات المتحدة، تحملت شركة المرسيدس ما نسبته 55% فقط من مجموع نفقات بناء مصنع جديد.

إن ما حدث في ألمانيا الشرقية بعد انهيار جدار برلين وتحقيق الوحدة لتشجيع الاستثمارات، يظهر إلى أي درجة كانت الحكومات الألمانية سخية من أجل تحقيق ذروة الاستقطابات الاستثمارية. كما إن تلك السياسات المتبعة في دعم الاستثمارات تستدعي مجموعة من الملاحظات، إذ من الممكن بعد كل تلك المساعدات أن لا يحقق المشروع أهدافه، وأن تتحمل الدول أعباء إضافية جديدة نتيجة فشل بعض هذه المشاريع _خاصة على المستوى المالي_ أصبح أمراً لا مفر منه.

من المنطقي مراجعة هذه السياسات وما يترتب عليها من هدر في الأموال العامة فحجم المنح والمساعدات وما تقدمه المصارف من قروض وضمانات لتلك المشروعات ينطوي على قدر من المخاطر والمجازفات، ويؤدي إلى استنزاف أموال الدولة، ويقع على كاهل دافعي الضرائب من المواطنين الذين يتحملون ثمن تلك المجازفات والمخاطر. ومن ذلك أيضاً توزيع وزارء البحث العلمي الأموال التي يعملون على إدراتها على تلك الشركات الكبرى والغريب في الأمر أن تلك الأبحاث التي تقوم بها تلك الشركات قد تستثمر نتائجها في مكان آخر بقصد الحصول على المزيد من الأرباح .


2010-07-29

المنافسة المحتدمة والإغراق الضريبي









سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية

صحيفة العالم \ بغداد

www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=14841

14\8\2010.
 

تحاول الكثير من الدول تبني سياسات تتوافق مع الأولويات الاستثمارية للرساميل العالمية، ولذلك لا يمكنها القيام بأي عمل قد يدفع أصحاب الرساميل لتحويل أموالهم إلى بلدان أخرى تقدم معدلات فائدة أعلى وعائدات أفضل. ولقد نتج عن ذلك مصاعب تواجهها الدول لدى وضعها السياسة الضرائبية لتحصيل الضرائب. وفي الوقت الذي تقدم فيه كثير من الدول تنازلات هامة للأجانب من أجل استقطاب الرساميل، ارتفع عدد الدول التي تقدم نفسها كمحمية ضريبية للمستثمرين، وارتفعت نسبة عمليات التهرّب الضريبي التي باتت أسهل في السنوات الأخيرة. وأمام ذلك لم يعد أمام الدول من خيار سوى تخفيض المعدل الضريبي بغية تحاشي هذا الهروب.

ونتيجة المنافسة المحتدمة بين الدول لاجتذاب الشركات والاستثمارات من خلال التنازلات الضريبية وخاصة على مستوى المؤسسات المالية لم يعد هناك فروقات كبيرة في السياسات العامة حيال رأس المال سواء كانت الحكومات يسارية أم يمينية. إذ ليس آخرها ما أقدمت عليه الصين من تعديل للدستور لتواصل تحولها الرأسمالي حيث تم إعطاء الشركات والأفراد حقوق ملكية متساوية مع الحقوق التي يتمتع بها القطاع العام الصيني الذي يسيطر عليه الحزب الشيوعي. ولقد تزايد عدد تزايد عدد الجنات الضريبية بأنواعها المختلفة، المتخصّصة والعامّة فمن الكاريبي إلى ليشنشتاين هناك ما يفوق 100 واحة ضريبية متناثرة في أرجاء المعمورة تدير منها المصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار أموال زبائنها الأثرياء وتخلصها من قبضة وطنها الأم حيث تتميّز تلك المناطق بمعدل ضريبي منخفض جداً أو قد لا تفرض الضريبة بتاتاً على ودائع الأجانب.

من هذه الواحات جزيرة"Cayman"الكاريبة. ويوجد فيها أكثر من500 مصرف من المصارف العملاقة، وهناك لوكسمبورغ وليشنشتاين وجبل طارق التي تحتضن أكثر من100 ألف ثري، بالإضافة إلى وجود شركات عملاقة وظائفها تقديم كل التسهيلات والإرشادات التي يحتاج إليها المتهربون من دفع الضرائب.واستطاعت الشركات توريط كل دول العالم تقريباً بسباق التنافس الضريبي وكانت الولايات المتحدة أول من افتتح المزاد في عام 1986 حينما تم خفض الضرائب على عوائد الشركات المساهمة من46% إلى34%، وكان هذا أول مستوى عالمي للتخفيض.

والدول تتنافس فيما بينها لجذب الشركات من خلال تخفيف الأعباء الضرائبية عنها، ومن هذه الدول التي تتنافس في هذا الإطار الدول المنتمية حديثاً للاتحاد الأوروبي :أستونيا ,بولندا, تشيك, سلوفاكيا, لاتفيا, ليتوانيا, هنغاريا.وتعمل من أجل دعم جاذبيتها أمام المستثمرين المحليين والأجانب على تخفيض الضرائب على الشركات إلى مستويات تصارع تلك الموجودة في إيرلندا.

لقد توسعت رقعة المجابهة الضريبية في أوروبا وبات يشكل التسرّع في خفض الضرائب عن الأعمال التجارية في الدول الأوروبية الكبيرة انقلاباً حقيقياً في أنظمتها الضريبية. ولقد وصل معدّل الضريبة المفروضة على أعمال الشركات في الاتحاد الأوروبي مع بداية عام2008 إلى26% والمتوقّع أن يواصل هذا المعدّل القياسي تراجعه تراجع معدل الضريبة في بريطانيا من 30% إلى 28% في العام 2007 وفي ألمانيا انخفضت من 39% إلى 30% وفي فرنسا وصلت إلى ما يقارب 28%. وهناك حرب ضرائبية خاسرة لمصلحة الدول الأوروبية الشرقية. ففي بولندا خفضت الحكومة الضرائب من27% إلى19% واعتمدت سلوفاكيا ضريبة مسطّحة تصل إلى 19% بدلأً من 25%. أما هنغاريا فقد خفضت الضرائب من 18% إلى 16%.

لا شك أن هذه الضرائب المتدنّية تجذب الشركات. لذا سارعت شركة بيجو الفرنسية وسيمينز الألمانية إلى نقل بعض نشاطاتها إلى سلوفاكيا، وتبقى إيرلندا المغناطيس الضرائبي الذي جذب وأغرى شركات التقنية والمعلومات العملاقة مثل مايكروسوفت وأنتل وديل مما ساعد الاقتصاد الإيرلندي على النمو ثلاث مرات أكثر مقارنةً بوتيرة النمو المسجّلة في منطقة اليورو للعام2007.

قوانين التوظيف ومهارات القوة العاملة ومستوى المعيشة تلعب دوراً حاسماً في المنافسة بين الدول، فعلى سبيل المثال تجذب بولندا الاستثمارات نظراً لتدنّي تكلفة العمل لديها التي تساوي 3,80 يورو في الساعة مقارنةً بـ 27,9 يورو في الساعة في ألمانيا الغربيّة، وتستطيع الدول بكل سهولة تعويض خسارتها في الدخل الضريبي عن طريق زيادة أو فرض ضرائب جديدة. ولكن السؤال:
 على أية قطاعات سوف تفرض الضرائب؟
 ومَن يتحمّل هذه الأعباء الضّريبية؟

أن الضرائب على الشركات هبطت في ألمانيا بمعدل %50 خلال العشرين سنة الماضية بالرغم من ارتفاع أرباح الشركات بمعدل%90. فمثلاً تدفع شركة روبرت ميردوخ للأخبار ضرائب بمقدار%6 عبر العالم، هذا مع العلم بأنها حتى العام 1998 لم تكن تدفع شيئاً في المملكة المتحدة على الرغم من تحقيقها أرباحاً في بريطانيا تتجاوز المليار جنيه استرليني سنوياً. وفي ألمانيا أقرت الحكومة مشروع إصلاح الضريبة على الشركات الذي خفض أساس الضريبة على الشركات من %37,8، إلى29,8%, وهو أول تخفيض كبير من نوعه هدفه دعم موقع ألمانيا الاقتصادي والمالي في العالم ولتشجيع الشركات أكانت وطنية أم أجنبية لاستمرار عملها في ألمانيا بالإضافة إلى زيادة النمو الاقتصادي.

يترتب على اتجاه الدول لإلغاء أو خفض الضرائب من أجل جذب الاستثمارات وزيادة قدراتها الاقتصادية التنافسية آثار عكسية، إذ إن زهاء ثلث التجارة الدولية يجري فعلياً داخل نطاق الشركات عبر الوطنية. ويثير هذا الوضع مجموعة من القضايا على المستوى الضرائبي ومنها التسعيرة الإسمية داخل الشركة ومواثيق المحاسبة، وإجراءات الإعلان عن الضرائب والربح. وكل هذه القضايا لها أثر على إيرادات الدول.

2010-07-11

ما يرى وما لا يرى في أزمة الحكومات والمجتمعات العربية











سلام الربضي















صحيفة العالم \ بغداد

19-7-2010



http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=13135


وفقاً لجدلية المجتمع والسلطة هناك صعوبات منهجية تواجه كل مَن يريد تناول إشكالية السياسات التدخلية للحكومات العربية فهل لنا أن نتساءل :

أين هو الحد الفاصل في المجال العربي بين ثقافة ومصالح الحكومات وبين ثقافة ومصالح المجتمعات؟ 

ما هو المعيار للتمييز بين ما هو عام وما هو خاص والذي على ضوئه يمكن تقييم السياسات التدخلية للحكومات العربية؟

فلا بد من لفت الإنتباه إلى أنه واقعياًً وعملاً بالنصيحة الديكارتية يجب تفتيت الإشكالية وهذه طريقة تساعد على إزالة الإلتباس والتشويش عن هذه الإشكالية، التي هي بطبيعتها ضبابية وقد تدفعنا إلى مفاضلات وهمية لا جدوى منها. فكل الأبحاث والدراسات التي تركز على الفوارق الشكلية أو الوظيفية بين كل تلك الثنائيات لا تجدي نفعاً، قبل طرح القضية الأساسية وهي هل هنالك فوارق جوهرية بين ما يرى من سياسات تدخلية للحكومات العربية وبين ما لا يرى من بنية المجتمعات العربية من حيث الإطار والمناخ الثقافي الذي يحدد ويرسم طبيعة تلك السياسات ؟

بعيداً عن التنظير ولتوضيح هذه المقاربة ما علينا سوى دراسة نموذج مبسط للغاية ولكنه يعكس عمق الأزمة وكيفية مواجهتها، فما يرى هو كيفية تعامل كل من الحكومة والشعب في الجزائر ومصر مع ظاهرة مباراة كرة قدم جمعت بينهما ؟ ولكن ما لا يرى وبكل تأكيد هو أن العامل الثقافي هو المحرك الاساس والمشترك لتلك الواقعة، والذي يعكس ضعف ووهن الفكر العربي. فبنية المجتمعات العربية تعاني من ظاهرة الانفصامية حيث يحتوي الفكر العربي على ثنائيات مزدوجة ومتضادة وهناك حالات تقابل حدي في داخله واستطراداً هل هناك _ وعلى الأقل لإيجاد علاقة سبب بنتيجة أو ارتباط بين متغيرات في هذا الفكر العربي _ من نظرية غير نظرية البعد الثقافي يمكن اعتمادها لتفسير هذه الظاهرة وهي الأزمة التي اخذت أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية ؟

واقعنا العربي يؤكد بصورة صارخة أن أزمة الحكومات والمجتمعات العربية بإمتدادها وعمقها إنما هي أزمة مقومات أساسية وأزمة علاقات اجتماعية، على صعيد كل مجتمع وعلى صعيد المجموع، الكل في أزمة، والأزمة في الكل، أنها أزمة عميقة وشاملة، ممتدة إلى جمع مستويات الحياة إنها أزمة بنيوية عامة. فما يرى هو تقييم ونقد للسياسات التدخلية الحكومية والتركيز على لعبة السلطة والمعارضة ولكن ما لا يرى في تلك السياسات والتي تعكس واقع المجتمع هو أنها قد تكون أخطر وأبعد من أن تكون فقط مسألة سياسية أو اجتماعية أو مسألة تنمية اقتصادية، إنما أولاً وقبل كل شيء هي حركة ذاتية تنبع من انتماء عقيدي ثقافي يفرض مقتضياته دوماً. فمعظم المواضيع المطروحة في أدبيات الفكر العربي أكانت سياسية (السلطة الديمقراطية، المساواة، الحرية، القانون) أو في الاجتماع (العادات، التقاليد، السلطة الأبوية، وضع المرأة، البنية الاجتماعية) أو في الاقتصاد من (التنمية، العدالة الاجتماعية، الحرية الاقتصادية) أو من ثقافية (الأصالة، المعاصرة، الهوية، الآخر) أو في العقل العربي وبنيتة، ترتبط بشكل أو بأخر بالإشكالية الأم وهي لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

وما لا يرى أيضاً في السياسات التدخلية الحكومية تكمن في مأساوية السؤال لماذا يتطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل ودون كبير جدوى؟ فالدول العربية انطلقت قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن وبعضها قبل روسيا التي بدأت قبل سبعين عام, ومنها ما هو قبل اليابان التي بدأت منذ مائة سنة، ومع ذلك فهذه الأمم وصلت كلها بينما لم يصل أي بلد عربي.

لذلك من الأولويات أيجاد مقاربة فكرية لواقعنا وتوجيه النقد الفكري للإيديولوجية والتخلي عن النظر إلى أزمة العرب الراهنة من الزوايا التقليدية التي تسود مجتمعاتنا العربية والقائمة على تحميل السياسات التدخلية الحكومية كل مصائبنا وشوائبنا .

هذه المراجعة تطال جميع الإيديولوجيات الفئوية إلى الإيديولوجيات الدينية مروراً بالإيديولوجيات الوطنية والقومية والماركسية أو الإشتراكية، وبداية الحل تكون بإعطاء هذه المراجعة أولوية على غيرها نظراً لأهمية الوعي في عملية تحديد الواقع والأهداف والسلوك. ويجب الاستعانة بالفكر الفلسفي الحر، فالفلسفة تمنح قدرة على تغيير الواقع العربي المتردي وهي فلسفة الإنسان كصيرورة تحكم نفسها وفقاً لمقتضيات العقل والحرية . فهي من جهة فلسفة تاريخية ومن جهة أخرى فلسفة سياسية ولا عجب بذلك، ففي قلب سؤال التاريخ ينبض سؤال السياسة. والفكر الفلسفي هو الفكر الأقدر على معالجة الأسئلة المصيرية من الهوية والتاريخ والدولة والسلطة ، وهو قادر على تكوين رؤية شاملة للإنسان والحياة العربية.

هذه الرؤية تحتاج إلى اجتهاد واضح وجريء وعصري وخيارات إستراتيجية واقعية وعدم الاكتفاء بالتحولات اللفظية والتكتيكية المرحلية والتي غالباً ما تنتهي لحظة الوصول إلى السلطة. كما أن التحولات المفاجئة التي أوجدتها الثورات المعرفية/ العلمية/ الإنسانية/ البيئية/ أحدثت إنقطاعاً مع التصورات القديمة عن السياسة والدولة والمجتمع والذات والآخر والإرث الحضاري. وما يزيد الإشكالية تعقيداً وإلتباساً ويجعل الفكر حائراً لماذا إلى اليوم ما يزال الفكر العربي متمسكاً ولا يرى سوى أطروحة ربط موضوع التقدم والسياسات العامة بالقضية الإيمانية، حيث يتم تبرير التخلف والانحلال السياسي بعدم فهم الإسلام واعتبار التحرك الاجتماعي الإنساني مجرد قنطرة إلى الآخرة؟

فلا يجوز الاستمرار بالرهان اليوم على استعادة الماضي الذهبي، والاقتناع بأن الماضي ممكن استعادته ويحب أن يستعاد يوماً. وتقييم السلطة وممارستها لا يمكن البحث عنها في عالم فوق الإنسان، فكل التفسيرات أكانت لاهوتية أم ميتافيزيقية قد فشلت في الوصول إلى نتيجة في موضوع البحث عن مصادر السلطة. فلماذا هذا التشبث من قبل الفكر العربي في البحث عن مصدرها في الغيب، عن طريق الإيمان والنقل أو في المبادئ الأخيرة للوجود عن طريق النظر الميتافيزيقي؟ فالبحث الصحيح عن مصادر السلطة وممارستها لا يقتضي أي نوع من الإيمان ولا يقتضي القفز فوق عالم الإنسان. ففي دنيا الإنسان لا وجود لسلطة واحدة عليا وشاملة تنبثق منها السلطات المختلفة أو تخضع لها خضوعاً كاملاً، ووحدانية السلطة في المجتمع تصور ينسجم مع فلسفة السيطرة، لا مع فلسفة السلطة.

فإذا كان ما يرى بالسياسات التدخلية للحكومات هو التخبط والفساد وأغتصاب للسلطة، ولكن ما لا يرى هو أن كل تلك السياسات تعكس وتعبر عن واقع مجتمعنا الماورائي الألهي محتكر الحقيقة. وإذا أراد العرب أن ينهضوا ويتقدموا يتوجب عليهم أولاً نسف الوجود العربي التقليدي، لسببين:

أولاً : لأنه وجود متناقض مريض.

ثانياً : وهو الأخطر، ادعاؤه بأنه مجتمع إلهي.

أنه مجتمع مثالي وكامل، وهذا يعني عدم إمكانية إجراء التحويل أو التغير فيه. فقواعده تشكل دستوراً لا يفرق بين الأمور الدنيوية والأمور الميتافيزيقية، وهذا أقرب ما يكون إلى أمر رمزي المقصود منه التأكيد على الهوية، وهذا نوع من هوية الموقف، وهوية الموقف لا تقل أهمية عن هوية الذات في المجتمعات غير الواثقة من ذاتها حضارياً في عالم تكون السيطرة والتفوقية للغير. فالإعلان مثلاً في دساتير الكثير من الدول والمجتمعات العربية بأن الإسلام دين الدولة هو من باب هوية الموقف ولا معنى له إلا إذا أخذ رمزياً. فالدين مجموعة أفكار وأحكام معيارية وتعبدات، وهو ينسب إلى الفرد فقط ولا يستطيع أحد أن يقوم بالتعبد سوى الإنسان الفرد، بينما الدول هيئات اعتبارية. فكيف يكون للدولة دين وهي شخصية معنوية؟

علينا إذاً التوسع في نهج الحداثة السياسية وبعض مقتضياتها ليشمل مواضيع مختلفة خصوصاً الفكر اللاهوتي وما يصدر عنه من ثقافة دينية، عندها يتعقلن وجودنا أكثر فأكثر وننطلق إلى بناء مستقبل أفضل متسلحين برؤية فكرية جديدة، رؤية تدعو إلى احترام كل آخر لا يشاطرني نفس الرأي، والذي يذكرني باستمرار أنني لا أملك كلية الحقيقة، ومن يدعي امتلاكها حكم على نفسه بالبقاء بعيداً عنها. وعلينا أن نتمنى أن يكون الحنين إلى عصر ذهبي هذه المرة هو المستقبل الآتي وليس الماضي الذي انقضى، فالأجوبة القديمة على الأسئلة الجديدة لم تعد كافية. والاتجاه التاريخي لمسيرة الوجود العربي لا يمكن أن يكون إلا باتجاه الحداثة، وسيتمكن هذا الوجود من أن يقف على قدميه بعد أن وقف طويلاً على رأسه هذا إذا صح تعريف الإيديولوجيا بأنها وعي مقلوب يقف على رأسه.

أخيرا قد يكون من المستحيل تغيير المجتمعات العربية طالما كل ما يرى هو البحث في سياسات حكوماتها وما لا يرى هو المرأة العربية في وضعها الراهن ذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي، وطالما إن المرأة العربية لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغيير. وإذا كنا جادين في مجابهة التحدي وفي بناء مجتمع جديد في أوطاننا علينا قبل كل شيء أن نرى ونعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته الكاملة فكيف نواجه التحديات التي تهددنا وأن نبني مجتمعاً جديداً في حين أن نصفنا مشلول؟


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com