سلام الربضي \ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية
البعد الثقافي أصبح في صلب التحولات
العالمية، وإستدعاؤه في التحليل ضروري لفهم هذه الديناميات الجديدة التي يتحول بها
العالم. وإذا كانت العلاقات الدولية قائمة على المصالح وستبقى كذلك في كثير من
المجالات. لكن لا بد من دراسة المثل وهويات الدول وليس فقد المصالح، فالهوية تعبر
عن الواقع الاجتماعي( من هم الفاعلون)، أما المصالح فتعبر عن الرغبة وعن ماذا
نريد, وبالتالي فالهوية تسبق المصالح، حيث الشخص لا يمكن أن يحدد ما هي رغباته
وأهدافه ومصالحه من دون معرفته هويته ( من هو) أولاً. إذ إن التحديات العالمية
الجديدة، تتطلب أجوبة جديدة، أي علينا أن نعرف ما إذا كان العالم الجديد الذي ترسم
ملامحه، يفترض منا إعادة تقويم جذرية للعقود الاجتماعية التي تشكل عماد مجتمعاتنا
المحلية والعالمية.
تلك التحولات الشاملة
تستوجب جهداً إضافياً على الصعيد النظري، فهل نحن في حاجة لنسق فكري جديد؟
من الواضح أن الإنساق الفكرية
المغلقة، على طراز مقولة أن " الماركسية" هي الحل أو أن
"الرأسمالية" هي الحل، وأيضاً من يقول بأن " الإسلام" هو الحل، هذه الإنساق المغلقة، لم تعد أبواب عالمنا المعاصر
مفتوحة لها. كما إن الثنائيات الزائفة التي سادت القرن العشرين، أما الرأسمالية أو
الماركسية، أما القطاع العام أو القطاع الخاص، أما العلمانية وأما الدين، أيضاً
كلها سقطت إمام دينامية الواقع الحالي. فلقد انتقلنا، ولا مجال للشك، إلى مرحلة الإنساق
الفكرية المفتوحة، وجديدها الأهم هو، أنه سيحصل تركيب بين عناصر متضادة، ما كان
يمكن الظن يوماً، إنه يمكن أن تتركب منها أطروحة واحدة.
هذه الأطروحة التي تجنح نحو القول بأن
تفكيك الإنساق المغلقة يستبقه تشكيل"منظومات", تجتمع فيها عناصر متضادة
لم يكن يحسب يوماً لها أن تجتمع. ألا تستحق التجربة الصينية التوقف عندها ؟ إذ إن
واقع الصين الراهن، وكيف تتجاوز وتتعايش الرأسمالية في أكثر أشكالها تجلياً
ووضوحاً في النظام الاقتصادي مع نظام سياسي شيوعي، لم يكن يدور في ذهن أحد، أن
يقود هذا النظام عملية تنمية رأسمالية. وهناك نموذج آخر ليس ببعيد عن عالمنا
العربي، ألا وهو تركيا، فالإسلام التركي حيث تتجاور الفكرة العلمانية مع الفكرة الإسلامية.
في مشهد سياسي لا تشهد فيه إضطراباً، أو تنازعاً أو تضاداً أو تجافياً ما بين
الفكرين. ونحن في إنتظار عامل الزمن، الذي سوف يحكم على تلك الإنساق المفتوحة التي
سيكون لها التأثير الكبير، على الصعيد النظري المفسر لقضايا العالم، كما بالنسبة
لتجديد موازين القوى في العلاقات الدولية.
لقد إعاد القرن العشرين النظر في ثوابتنا اليقينية، في
ما يتعلق بالمجتمع والتاريخ والإنسان والقيم. وإذا كانت العلمانية حاولت أن تكون
البديل عن إخلاقيات الديانـات الكبرى ( العلم، التقدم، التحرر، الإنسانوية) ، لكن
على ما يبدو، فإن تطور العلم والتكنولوجيا، وهو العامل الحاسم وغير المتوقع، والذي
لا يمكن كبح جماحة في التغيير، يهدد مستقبلنا ويؤدي بنا إلى إنسانية لا نعرف
ماهيتها؟ فهناك كثير من النظريات التي تحاول ملء الفراغ الفكري لعالمنا المعاصر،
منها نظرية نهاية التاريخ، نظرية صراع الحضارات، نظرية ما بعد الحداثة، ولكن قد
يكون أخطرها نظرية يحلو للبعض أن يطلق عليها تسمية "ما بعد الإنسانية".
فلقد دخلنا مرحلة تطور ثوري لعلوم الحياة خصوصاً " البيوتكنولوجيا"، مما
سينتج تحولات جذرية في حياة الإنسان، تتيح في الأساس إمكانية تغيير الطبيعة الإنسانية.
لندخل بذلك مرحلة تاريخية يكون لها تأثيرات إجتماعية، أخلاقية، سياسية، اقتصادية
جذرية. وفي المستقبل القريب، علينا أن نواجه خيارات أخلاقية في مجال الهندسة
الوراثية.
فالسؤال الذي يطرح هو: إلى أي حد يمكن إستعمال
التكنولوجيا لتحسين الخصائص الوراثية؟
وإذا كانت تلك الأبحاث قائمة على إمكانية تغيير الطبيعة
الإنسانية، فتساؤلات كثيرة تطرح حول العديد من المفاهيم الأساسية: كالمساواة بين
البشر، والقدرة على الاختيار الأخلاقي، وتغيير إدراكنا وفهمنا للشخصية والهوية الإنسانية،
والتأثير في وتيرة التطور الفكري والمادي، وفي السياسة العالمية بصفة عامة؟؟؟ وقد
يكون أخطر ما في جعبة تلك الثورة " البيوتقنية" هو، أنها تزيد من الهوة
الموجودة بين المجتمعات والأفراد، الأغنياء والفقراء. حيث بإمكان الأغنياء توظيف
ثرواتهم للتحكم في الجينات، وإعادة الهندسة الوراثية لهم ولأولادهم. وبالتالي، فإن
التحولات " البيوتقنية" قد تزيد من حدة اللامساواة بين الأغنياء
والفقراء، بحيث تضاف إلى الهوة الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والرقمية، هوة
بيولوجية، ستكرس للامساواة على مستوى تكويننا البيولوجي.
إذاً مستقبلاً، نحن أمام عالم " ما بعد الإنسانية"
سيكون أكثر تراتبية ومليئاً بالصراعات الاجتماعية. ولا مكان في داخله لأي مفهوم
حول " الإنسانية المشتركة"، إذ سيتم تركيب جينات بشرية مع جينات أخرى،
بشكل يجعلنا لا نعلم ما معنى الكائن الإنساني. هذا الواقع المستجد الذي يعبر عن
ملامح مجتمعنا العالمي، وتحديداً من منظور
فن التساؤل حول الواقع النظري المفسر لقضايا العالم، لا يمكن أن يقتصر النقاش فيه حول
ملامح هذا النسق الجديد، بل إن التحدي الجديد في زمن العولمة يكمن في :
كيف وما هي السبل لمواجهة هذا النسق الجديد؟
وهل تحمل النظريات التقليدية ومنها الواقعية
في طياتها الإجابة؟
وإذا كان الطموح، هو نشوء نسق كوني من القيم، يحكم سلوك
الشعوب والمؤسسات: فهل ستكون مسألة القيم وتحولاتها في صدارة الأسئلة
الفكرية الراهنة والمستقبلية؟ وهل إنتقل التركيز والاهتمام في تحديد
العلاقات الدولية، من العوامل الاقتصادية والتكنولوجية إلى العوامل الثقافية، كقوة
مؤثرة ودافعة في الشؤون الدولية؟
وإذا كانت المسافة الزمنية لملامح هذا النسق الجديد لم
تتجاوز 25 عاماً، وهي مدة، وفقاً للمنهج التاريخي، لا يمكن أن تعطي دلالات ثابتة
يمكن البناء عليها، فهل نكون سقطنا في فخ إشكالية،
الاستعجال في ملء الفراغ النظري المفسر للعالم؟؟؟؟؟؟؟