2010-11-21

الاقتصاد العالمي في الربع الأخير من القرن العشرين





سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية



منذ بداية السبعينات تغيرت الأوضاع العالمية وبدأت الأزمات العالمية تتوالى، منها أزمة الغذاء في 1970، وأزمة الطاقة في 1973، وأزمة المديونية في 1982، فضلا عن أزمة التنمية وأزمة الاشتراكية منذ السبعينات. واذا كان العالم قد عرف في معظم أجزائه مشاكل عدة منذ السبعينات، فقد عمدت الدول الصناعية إلى إعادة النظر في هياكلها الاقتصادية والمؤسسية لاستعادة حيويتها منذ نهاية السبعينات، أما الكتلة الاشتراكية فقد أغفلت مواجهة مشاكلها حتى تفاقمت بشكل كبير.

ولقد تفاعلت تطورات اقتصادية وتكنولوجية بالغة الاهمية، ساعدت على إفراز العديد من مظاهر الخلل وعدم الاتساق بين مؤسسات ونظم بالية، وبين حقائق جديدة. ومن أهم هذه التطورات الثورة التكنولوجية، وما أدت إلية من تغير في المعطيات الاقتصادية للعالم المعاصر، وقد واكبت هذه التطورات التكنولوجية، تغيرات أخرى لا تقل عنها أهمية في المؤسسات والسياسات العامة، والتي كان لها بدورها أثار بعيدة المدى.

أولاً : أزمات الاقتصاد الدولي 1970 – 1999

هناك دائماً سياسات في كل وقت لمواجهة المشكلات، والفارق بين ربع القرن الأول بعد نهاية الحرب الثانية وربع القرن التالي، هو أن السياسات الاقتصادية السائدة كانت أكثر نجاحاً في مواجهة هذه المشكلات خلال الفترة الأولى ومن هنا جاء النجاح. في حين أنها كانت أكثر عجزاً وقصوراً في الفترة التالية، ومن هنا تكون الأزمات.

فعندما نتكلم عن الأزمات، فإننا نعني بشكل عام عجز الحلول والسياسات الاقتصادية وقصورها عن مواجهة تلك المشكلات. كما أن وجود المشاكل والتحديات الاقتصادية فهو قدر الإنسانية ولا مفر منه، حيث لا يعرف الإنسان ولن يعرف حياة اجتماعية من دون مشاكل. والجديد منذ نهاية الستينيات هو أن المشاكل الاقتصادية بدت مستعصية على السياسات القائمة، وظهرت بوادر فشل هذه السياسات وتفاقم المشاكل وعجز السياسات، ومن هنا الحديث عن عصر الأزمات.

ومن هذه الأزمات والتي توالت الواحدة بعد الأخرى حيناً أو تداخلت فيما بين بعضها أحياناً أخرى :

أ-  أزمة نظام النقد الدولي :

مع نهاية الحرب العالمية الثانية انشغل العالم بوضع قواعد جديدة لنظام النقد الدولي على ضوء التجارب الماضية. وفي الوقت نفسه كان الحنين لنظام ما قبل الحرب العالمية الأولى كبيراً، وبالتالي لم يكن من الغريب، أن يتجه واضعوا اتفاقية بريتون إلى الأخذ بنظام ثبات أسعار الصرف. وأن السبب في أزمة النقد الدولي، ترجع إلى أن النظام الذي تم اتباعه في ثبات أسعار الصرف كان قائم على عدم إخضاع الدول توازنها الداخلي للظروف الخارجية، وبالتالي لقاعدة الذهب بعكس ما كانت عليه الحال قبل الحرب العالمية الأولى. مما أدى إلى مواجهة النظام النقدي عقبات لم تعرفها قاعدة الذهب، ناهيك عن جمود أسعار الصرف الناتج عن النمو الكبير في حركات رؤوس الأموال، مما جعل القيمون على النقد يؤكدوا على التشدد في تغيرات أسعار الصرف تجنباً للمضاربة.

ونتيجة زيادة المعاملات الدولية، كان لا بد من توفير كميات كبيرة من السيولة الدولية وكان هناك عدة طرق للوصول لذلك :

1– عن طريق الذهب :

لكن إنتاج الذهب لم يكن كافياً لمواجهة احتياجات العالم من السيولة الدولية، كما إن فكرة رفع ثمن الذهب ومن ثم جمع السيولة الدولية لن تلقى القبول. إذ لأسباب سياسية ترفض بعض الدول منح الدول المنتجة للذهب مكاسباً مجانية كجنوب أفريقيا والاتحاد السوفياتي. كما أن منطق النظام القائم على ثبات أسعار الصرف بالنسبة للذهب كان يتعارض مع ترك ثمن الذهب يرتفع.

2 – الاتفاق على قيام سلطة دولية بإصدار نقود دولية.
3 – استخدام إحدى العملات الوطنية كنقود دولية.

ونتيجة للظروف التي لم تكن مؤاتية لإصدار نقود دولية، وعلى الرغم من أن كينز كان قد طرح هذا الموضوع في مشروعه، فلم يكن هناك مناص من استخدام إحدى العملات الوطنية كنقود دولية إلى جانب الذهب في تسوية المدفوعات الدولية، وكان الدولار انذاك هو أكثر العملات تهيئاً للقيام بهذا الدور. ونتج عن ذلك الوضع، أن حققت الولايات المتحدة وتمتعت بمكاسب احتكارية باعتبارها السلطة التي تصدر الدولار. حيث أن الدول لكي تحصل على الدولار لا بد  بالمقابل أن تتنازل عن أصول مختلفة، في حين أن الولايات المتحدة لا تتكلف شيئاً في سبيل إصدار هذه الدولارات باستثناء تكاليف الطبع والإدارة فقط.

ومع مرور الوقت، أصبح هناك تعارض ما بين الدولار كعملة نقدية دولية وتداعيات ذلك من حيث اعتبارات المسؤولية الدولية، وبين احتياجات السياسة الداخلية الأمريكية. مما يؤدي إلى الارتباك، وخاصة مع تغليب المصالح الوطنية الأمريكية، الذي يؤثر على الاستقرار الدولي. ومن الافعال التي تعكس هذا الواقع،  هو قرارات الولايات المتحدة ما بين 1968 و1971 التي إدت إلى منع تحويل الدولار إلى ذهب.

كما أن تطور الاقتصاد العالمي وظهور ألمانيا واليابان على الساحة الدولية الاقتصادية، طرح تساؤلات حول قيمة الدولار التي لم تعد معبرة عن حقيقة الاوضاع، مما أدى في عام 1972 إلى تشكيل اللجنة الوزارية لإصلاح النظام النقدي في جنيف. وبالرغم من الاستقرار النسبي نتيجة اتفاقية سميثونيان 1972، ولكن ما لبثت الأزمة أن تعود من جديد بفعل المضاربات، فاضطرت الولايات المتحدة بتخفيض الدولار عام 1973 وأدى ذلك للعودة إلى تقويم العملات.

ومع بروز أزمة البترول ونتيجة الضغوطات تم في عام 1976 في جامايكا تعديل اتفاقية صندوق النقد الدولي، لتصبح الدول حرة في اختيار نظام الصرف وهو الحل الوسط انذاك بين الطروحات الأمريكية والفرنسية. وأصبح النظام النقدي هجين غير معروف الهوية. فهو نظام قائم على الدولار، وهو نظام يعتمد أساساً على تعويم العملات، وهو نظام لا يضع ضوابط على الدولار الورقي بعد تحرره من القابلية للتحويل إلى ذهب .

ب- أزمة النفط والفوائض المالية :

وهي التي ترتبت على أزمة النفط 1973 أو ما عرف بتسميته بالصدمة النفطية الأولى، حيث وصل سعر برميل النفط أكثر من 20 دولار. ومن أهم مظاهر هذا التأثير، ارتفاع أسعار النفط وبالتالي ارتفاع تكلفة الطاقة وفاتورة واردات الدول الصناعية من ناحية، وزيادة الفوائض المالية لدى الدول المصدرة للنفط من ناحية أخرى، ولكن مع مرور الزمن استطاعت الدول الصناعية إعادة التوازن لاقتصادها في حين أن العجز الشديد المقابل للفائض في الدول المصدرة للنفط فقد انتقل للدول النامية، مما جعلها تضطر إلى الالتجاء إلى القروض الخارجية من بنوك الدول الصناعية. ونتج عن ذلك ظهور ما يسمى بي  قضية تدوير هذه الفوائض الناتجة عن الأزمة النفطية، أولاً إلى الدول الصناعية ومن ثم إلى الدول النامية. وبالتالي ظهور قضية المديونية للدول النامية التي أصبحت فيما بعد إحدى أهم القضايا في العلاقات الدولية.

وقد تكرر نفس المشهد مع الصدمة النفطية الثانية عام 1979 حيث استطاعت الدول الصناعية من خلال إمكانياتها الاقتصادية من تجاوز هذه الأزمة، بينما ازدادت الدول النامية في التخبط بمديونيتها.كما إن ارتفاع أسعار النفط جاء ليعبر ليس عن التغيرات في الاقتصاد العيني (الموارد = البترول) وإنما فقط في نمط توزيع الدخل العالمي. حيث لم تعرف الموارد الاقتصادية أي تغيير يذكر ولم يتغير شيء على التكنولوجيا أو في الأذواق. بل كل ما حدث، يعبر عن إعادة توزيع الدخل العالمي  لمصلحة الدول المصدرة للنفط .

ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا التوزيع ارتفاع في الادخار، ووفقاً لنظرية كينز فيجب أن يتساوى حسابياً ما بين زيادة الادخار وبالتالي زيادة الاستثمار، وهذا ما لم يحدث خلال الصدمات النفطية فانعكس سلباً على الوضع الاقتصادي العالمي، وبالأخص على اقتصاديات الدول النامية. وبعد الصدمة النفطية الثانية وفي عام 1983 حدثت صدمة نفطية عكسية، نتيجة زيادة مخزون الدول الصناعية، والمغامرات السياسية لبعض الدول المنتجة للنفط (العراق وإيران).

في كل تلك الظروف يحق التساؤل حول عدم قيام الدول المصدرة للنفط من تقديم أسعار تفضيلية وتشجيعية للدول النامية؟ هذا السؤال يطرح دائماً مع ازدياد أسعار النفط وما تأثير هذا الفائض في ميزانيات الدول العربية النفطية ؟

ج- أزمة التنمية :

على الرغم من أن الدول النامية استطاعت خلال الفترة القصيرة ما بعد حصولها على استقلالها السياسي، من أن تحقق بدايات مشجعة، ولكن منذ السبعينات وخاصة في الثمانينات بدأت هذه الدول تواجه المشاكل الأكثر حدة، ومن هذه المشاكل أو الأزمات ما عرف بأزمة الغذاء في بداية السبعينيات نتيجة تحول معظم الدول النامية إلى دول مستوردة للغذاء. وقد تم إعادة الاذهان إلى "نظرية مالتسي" حول عدم التوازن بين النمو السكاني وتوافر الموارد الغذائية.

كذلك فإن مفاهيم التنمية نفسها قد عرفت اجتهادات متعددة واختلافات جوهرية، فمن سياسة التدخل الاقتصادي الحكومي، واتباع سياسات إحلال الواردات والانكفاء على الداخل، وتقليل الاعتماد على الخارج أي نظريات التبعية.

ولقد اعتمدت الدول في جنوب شرق آسيا على الآخذ بسياسات اقتصادية مختلفة تماماً ، قائمة على اقتصاد السوق واسواق التصدير مع الاستمرار في إعطاء دور كبير للدولة في توجيه الاستثمارات، حيث استطاعت تحقيق معدلات نمو عالية وأصبحت تعرف بالدول الصناعية الجديدة، والنمور الآسيوية وعلى الرغم من ما حققته هذه الدول إلا أنها تعرضت في عام 1997 لأزمات مالية.

ونتيجة ما واجهته الدول النامية من مشاكل متعددة بدأت سياسات جديدة تظهر يتبناها صندوق النقد الدولي وإلى حد كبير البنك الدولي. وكان إطار هذا الاصلاح الاقتصادي يدور حول ضرورة ضبط التوازن النقدي والمالي للدول النامية. عن طريق تخفيض العجز في الموازنات العامة ومحاولات السيطرة على التضخم، واستخدام أسعار الفائدة المناسبة وتحديد أسعار الصرف على نحو أكثر واقعية.

وفي هذه الأثناء طرح دور الدولة الاقتصادي وظهرت التيارات المحافظة التي تنادي بحصر دور الدولة. وقد ازداد هذا الاتجاه مع وصول تاتشر وريغان للسلطة في بريطانيا وأمريكا، وما لبثت أن انعكست هذه الافكار على صندوق النقد الدولي وعلى الدول النامية، وأصبحت هذه الدول مطالبة بالخصخصة، وخلق المناخ الاستثماري المناسب، والتحول إلى اقتصاد السوق، وبالتالي معاملة الدول النامية بنفس الطريقة المتبعة في الدول الاقتصادية الصناعية، مما يطرح التساؤل عن موضوعية هذا الاسلوب؟

د- أزمة الأيديولوجية الاشتراكية.

لا بد من طرح تساؤل حول أزمات الاشتراكية وفشلها، فهل ذلك راجع إلى القصر في النظرية أم عيب في التطبيق؟

فالماركسية وإن تضمنت تحليلاً لتناقضات النظام الرأسمالي، وأيماناً بحتمية زوال هذا النظام، فإنها لم تقل الكثير عن كيفية إقامة النظام الجديد، بعد القضاء على الرأسمالية، باستثناء الاتفاق على إلغاء الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج. ومن الغرابة في هذا الإطار القول أن الماركسية التي خسرت المنافسة الاقتصادية قد بنيت نظرياً على أساس أهمية العامل الاقتصادي في تطور المجتمعات؟

وعند محاولة تقييم تجربة الاتحاد السوفيتي يبقى التساؤل مشروعاً حول ما يرجع إلى طبيعة النظام الماركسي؟ وما يعتبر من ظروف النشأة الروسية الأولى؟ وهو واحد من تلك الاسئلة التي يمكن أن تبقى مطروحة دون أن تجد إجابة قاطعة ونهائية؟

ثانياً : الثورة التكنولوجية الحديثة

من أهم مظاهر الثورة التكنولوجية الجديدة، أنه لا توجد هناك لحظة فاصلة نستطيع القول عندها أن ثورة جديدة قد بدأت. فالتطور بطبيعته تدريجي ومستمر ومتراكم، ومن الضرورة التنبيه إلى إن التاريخ مستمر لا انقطاع فيه. وفي هذا الإطار يمكن طرح التساؤلات التالية :

1- هل هناك علاقة بين التكنولوجيا والثورات الاقتصادية الكبرى؟
2- ما هو تأثير ثورة المعلومات والاتصالات؟
3- ما هو الفرق بين الاقتصاد النقدي والاقتصاد الحقيقي؟
4-هل الثورة المالية ناتجة عن هذا التقدم التكنولوجي؟
5- كيف يمكن مقاربة العلاقات الدولية في ظل الاقتصاد العالمي؟
6- هل هي نهاية الجغرافيا ؟

أن الحضارة الإنسانية لا ترجع إلى أكثر من 1% من تاريخ الإنسان على الارض، وإذا كانت عملية اكتشاف الزراعة ثورة اقتصادية كبرى غيرت في طبيعة الحضارة فإن التغيرات اللاحقة وحتى قيام الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر ظلت طفيفة وهامشية. ولقد كانت الثورة الصناعية بمثابة أخطر انقلاب اقتصادي بعد الثورة الزراعية الأولى. وإذا كان الاقتصاد الصناعي يقوم على اقتصاد السوق والقدرة على القيام بالحساب الاقتصادي، فإن توفير الشروط والأوضاع المناسبة لإجراء هذا الحساب الاقتصادي يعتبر أمر ضروري.

وهناك عدد من الشروط الواجب توافرها سواء على صعيد استقرار النظام القانوني أو النقدي، كذلك فإن الحقوق الشخصية من التزامات مالية وأوراق تجارية وأصول مالية، أضحت هي أساس الثروة في عصر الصناعة. ومن هذا المنطلق، فإن ظهور الدولة المعاصرة كان ضروري لتوفير هذه الشروط. ولقد لعبت الدولة دوراً رئيسياً في التطور الرأسمالي، بحيث لا يمكن أن يقوم نظام رأسمالي بدون وجود الدولة، وهذا يعتبر بمثابة رد على كثير من النظريات الحديثة التي ترى بأن الرأسمالية والعولمة أو ما يسمى بالنيوليبرالية الحديثة قد قضت وسلبت الدولة كل إمكانياتها وأسباب وجودها.

فنحن الآن نعاصر مرحلة جديدة هي مرحلة الانتقال من العلاقات الاقتصادية الدولية إلى الاقتصاد العالمي. وإذا لم يكن بعد الاقتصاد العالمي أصبح حقيقة كاملة فهو على الأقل حقيقة كامنة تمثل مستقبل العلاقات الدولية. والعالمية لا تسري فقط على النواحي التكنولوجية بل تفرض نفسها أيضاً على مختلف النشاطات الصناعية. وأصبحنا يوم بعد يوم نزيد من توحيد المواصفات والمقاييس العالمية الفنية وتنميطها. وكذلك أن الأذواق تسير في نفس الاتجاه، حيث أننا نلمح مولد المواطن العالمي. ولقد بتنا نعيش في عالم أكثر تداخلاً في علاقاته الاقتصادية، بحيث لم يعد من الممكن لدولة ما أن تنعزل عما يجري فيه مهما علت مكانتها.

وإذا كانت الإشكالية الأهم في العولمة قائمة على نظرية صاموئيل هنتجتون حول الصدام الحضاري أو أطروحة فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ. فقد يكون التساؤل الأقرب إلى طبيعة ظاهرة العولمة هو التساؤل عما إذا كنا بصدد نهاية الجغرافيا وليس نهاية التاريخ؟

أن خطورة الجغرافيا تكمن ليس فقط في أنها حدوداً سياسية بل هي مواقع مكانية وموارد طبيعية. وفي ظل الابتكارات التكنولوجية والاكتشافات العلمية يطرح التساؤل حول أهمية الجغرافيا بالنسبة للموارد الطبيعية في ظل زيادة انخفاض القيمة النسبية لإسهامات هذه الموارد في تحديد قيمة الإنتاج بالمقارنة مع الجهود الإنسانية في مجالات البحث والتسويق والابتكار؟

ولقد أصبح النظام الاقتصادي العالمي الجديد، يوفر سيطرة على الموارد من دون الحاجة إلى الاستيلاء المادي المباشر. سواء كان ذلك عن طريق براءات الاختراع، أو التأثير في الأسواق المالية أو شبكات التسويق، أسعار الصرف، الاسهم ... إلخ.

ثالثاً : تطور المؤسسات والسياسات

أن السياسات الاقتصادية لم تلبث أن خضعت لتغيرات وتوجهات جديدة، وقد أدى ذلك  إلى تعديلات في شكل المؤسسات القائمة وأسلوب عملها. فضلاً، عما استدعاه من إنشاء مؤسسات جديدة، كما أن التطور الاقتصادي والترابط المتزايد بين الاقتصادات المختلفة، قد ساعدا على ظهور قضايا جديدة مثل ما أطلق عليه العولمة GLOBALIZATION  وبداية الاهتمام بعدد من القضايا التي وجدت لأول مرة اهتماماً عالمياً لم يتوافر لها سابقاً، كقضايا البيئة، كما أن قضايا التنمية الاقتصادية أخذت طابعاً جديداً عرف بالتنمية البشرية .

1- المؤسسات

ولقد حدث تطور ملحوظ بالجانب المؤسسي  للنظام الاقتصادي على النحو التالي :

أ- تطور صندوق النقد :

سرعان ما ظهرت في التطبيق مشاكل عدة فرضت نفسها على طبيعة عمل الصندوق كمشكلة مدى توافر السيولة الدولية. كما أن بقاء أسعار الصرف ثابتة معناه من الناحية العملية، أن تتخلى الدول عن استقلال سياستها النقدية في الداخل وتخضعها لاعتبارات التوازن الخارجي. ومع وضوح أزمة التنمية وخاصة مع ازدياد أعباء المديونية الخارجية على الدول النامية، اتجه صندوق النقد الدولي مع البنك الدولي إلى الاهتمام بقضايا التنمية والإصلاح الاقتصادي، خاصة مع تحول عدد من دول الكتلة الاشتراكية سابقاً إلى نظام السوق.  

وأهم تطور أصاب الصندوق الدولي هو ما عرف بإنشاء حقوق السحب الخاصة، وهي أقرب إلى النقود منها إلى الديون العادية. وهي تقوم بجمع وظائف النقود في المدفوعات الدولية، وتحدد قيمة حقوق السحب الخاصة، وفقاً لعدد من العملات الأساسية في المعاملات الدولية. كما هناك تطور في عمل الصندوق على صعيد قضايا الإصلاح الاقتصادي حيث اتجه الصندوق إلى قضايا دول العالم الثالث خاصة مع بروز أزمة المديونية.

والصندوق يقدم قروض مقابل الالتزام بعدد من السياسات عرفت باسم المشروطية، المرتبطة بما يسمى سياسات التثبيت المالي أو النقدي. وفيما بعد تم نقد عمل الصندوق، من حيث اعطائه واعتماده على  وصفة وحيدة دون مراعاة الاوضاع الخاصة لكل دولة.

ب – تطور البنك الدولي:

تم الانتقال من سياسة الاهتمام بالنمو الاقتصادي باعتباره المؤشر الرئيسي للنجاح فقط إلى الاهتمام بقضايا التوزيع، وبذلك أصبح النمو مع التوزيع هو أحد محددات مشروعات تمويل البنك الدولي. وفي الثمانينات اتجهت مشروعات البنك نحو برامج التكيف الهيكلي، القائمة على تمويل البنك لسياسات الدول المتجهة نحو إعادة هيكلة الاقتصاد، والانتقال إلى القطاع الخاص وتخصيص المشروعات.

أن سبب فشل سياسات التنمية في كثير من الدول يعود إلى فساد النظم السياسية السائدة. إذ أنه لا يوجد أمل حقيقي في أية تنمية متواصلة ما لم يحدث تغيرات جذرية في أساليب الحكم، لينتشر فيما بعد مصطلح وتعبير الحكم الصالح، ويقصد به كل أساليب استخدام السلطة سواء من الحكومات أو من إدارات محلية أو في إدارة المشروعات. ولقد تم إدراك إن الدولة ليست هي اللاعب الوحيد في الساحة وهناك مجالاً أمام القطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدني لتلعب دوراً رئيسياً . والمؤسسات الاقتصادية بقيت تعبر عن الإيديولوجيات السائدة في الدول الصناعية.

ج – إنشاء منظمة التجارة الدولية:

من خلال استعراض الفترات الزمنية والاحداث المتواصلة إلى أن تم إنشاء منظمة التجارة الدولية، من الأهمية بمكان، القول أنه يجب دائماً التركيز على المشاركة لأنها تعطي مردودية أكثر من الانعزال والنقد، على الرغم من ضعف الامكانيات. وهذا الواقع تعبر عنه تجربة الدول النامية في منظمة التجارة العالمية. ومع أن هنالك الكثير من السياسات داخل المنظمة التي لا تخدم مصالح الدول النامية، ومع ذلك يجب علينا النظر للنظام الاقتصادي أو للمنظمات، كمنظمة التجارة العالمية بنظرة كاملة، من خلال ما تفرضه من التزامات وما تعطيه من فرص، فيجب أن نرى الصورة أو ننظر للنظام بمجموعة. 

د – مؤسسات غير شكلية :

هناك ترتيبات غير مقننة، تلعب دوراً رئيسياً في تنظيم العلاقات الاقتصادية، سواء كانت هذه القوى تأخذ شكلاً تنظيمياً قانونياً، أم كان لها وجود واقعي، مثل الشركات عبر الوطنية. أو ظهور إلى جانب المؤسسات الدولية الاقتصادية بعض التجمعات، مثل مجموعة الدول العشر، ومؤتمرات القمة الاقتصادية للدول الصناعية . ومثل هذه التنظيمات الفوقية تلعب دوراً رئيسياً في تحديد العديد من المؤشرات في الحياة الاقتصادية. وإذا أردنا أخذ نموذج لهذا الواقع فإن نظام "اليورو دولار" أو "اليورو ماركت" يعبر عن ذلك الواقع .

2- القضايا والسياسات العالمية :

من القضايا المطروحة حالياً على الساحة الدولية والسياسات المطبقة :

أ – الليبرالية الجديدة.
ب – التنمية البشرية المتواصلة.
ج – حماية البيئة.
د – الحكم الصالح.
و – انكماش المعونات الدولية للتنمية.
ن- العولمة.
ز – الترتيبات الاقليمية .

من الواضح إن تلك القضايا تطرح إشكالية قوة الدولة، فإن الدولة لم تكن في يوم من الأيام أقوى مما عليه هي الآن، فيما تتمتع به من أدوات للتأثير في الحياة الاقتصادية، سواء عن طريق وسائل التأثير عبر السياسات الاقتصادية، أو من خلال دورها التنظيمي وتوفير الخدمات الرئيسية. إذ إن الانحسار الذي أصاب الدولة، هو في صعيد الانتاج في القطاع العام. فطرح بعض الجوانب المتعلقة بالدولة والاقتصاد أمراً مهماً مثل القطاع الخاص (الأفراد) والمجتمع المدني، كذلك إلى جانب الاقتصاد هناك السياسة والأخلاق.

أن أداة السياسة الرئيسية هي الدولة، التي يتركز فيها استخدام السلطة. في حين أن المجال الطبيعي للاقتصاد هو السوق، حيث تعبر المصالح أو المنافع عن نفسها، فيما تظهره هذه السوق من خلال مؤشرات وخاصة الاسعار . وما بين السياسة والاخلاق والاقتصاد فإن نقطة التقاطع تكون قائمة على ما يعرف بالحكم الصالح القائم على ترابط مفهوم اقتصاد السوق وحقوق الإنسان والديمقراطية.

وعلى صعيد التنمية، الإشكالية تكمن بكيفية تشجيع الدول الرأسمالية أو بالآحرى تشجيع رأس المال إلى الانتقال إلى الدول النامية الأقل نمواً وليس للدول الأكثر نمواً؟

وعلى صعيد العولمة يجب النظر إلى تاريخ الاقتصاد العام، لفهم الاقتصاد المعاصر بشكل أوضح، باعتباره تاريخاً للمبادلة وقيام الأسواق وتوسيعها. والعولمة ليست وصفة أو حزمة معرفة، بقدر ما هي لحظة من لحظات التطور، ارتفع فيها معدل توسيع الأسواق والترابط في الاقتصادات، على مستوى رقعة متزايدة من العالم.

وإذا كان لكل عصر أبطاله، فعصر العولمة أبطالها ونجومها، الشركات عبر الوطنية، ورجال الإعلام ومراكز المال، ومراكز البحوث، وشركات التسويق، والمخابرات وربما المافيا، ولكن يجب علينا عدم نسيان أهمية وتزايد دور المنظمات غير الحكومية. كما أن الفرد أصبح هو الحكم والفيصل، حيث الجميع يحاول استمالته سواء بالإقناع أو الخداع. فالفرد هو من جهة ناخب وهو من جهة أخرى مستهلك، فعلى الصعيد الاقتصادي، ورغم من عدم عدالة التوزيع فإن المواطن العادي ما زال يمسك بزمام القوة الاقتصادية. كما أن هذا الفرد هو أساس السلطة السياسية، فرأيه في صناديق الاقتراع أو من خلال استطلاعات الرأي ما تزال تحكم التوجهات السياسية والاقتصادية وهنا أيضاً قد يكون المطلوب صوته الشكلي فقط.

والمشكلة تكمن بأن هذا الفرد الذي يمثل الحكم والفيصل، يواجه قوى المال والإعلام والمخابرات. وبالتالي القدرة على إخضاعه لمختلف أنواع التأثير. فمن المعضلات الحالية،  هو التناقض بين تطور الاقتصاد وتطور السياسة، فالاقتصاد يتجه نحو العالمية ولا يأبه بحدود السياسة والجغرافيا، أما السياسة،  فالتنظيم السياسي ما زال وطنياً وقومياً. وتكمن المشكلة الأساسية في تلاقي عالمية الاقتصاد من ناحية وقومية السياسة من ناحية أخرى،  وهو التناقض الأساسي لظاهرة العولمة. ومن هنا تنفصل العلاقة بين السلطة والمسؤولية، حيث هناك سلطة اقتصادية عالمية لا يكاد يفلت منها مكان على المعمورة، ومسؤولية سياسية وطنية أو حتى محلية، فالقرارات التي تؤثر بالاقتصاد العالمي تصدر من الكونغرس ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، والتي تحاسب من قبل الناخبين في الولايات المتحدة أو في أروقة السياسة في ألمانيا وفرنسا، على الرغم من تأثير هذه القرارات في اقتصاد العالم برمته.

والترتيبات الإقليمية المختلفة من ترتيبات واعية للتنسيق والتكامل فيما بينها. والتي قد تأخذ هذه الترتيبات شكلاً مؤسسياً وشكلياً في شكل معاهدات أو في شكل ترتيبات خاصة أكثر مرونة.

قد تكون أنجح هذه الترتيبات هي  السوق الأوروبية المشتركة، التي تحولت إلى الاتحاد الأوروبي وهناك الكثير من الترتيبات الإقليمية مثل منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا)، مجموعة الآسيان، المجموعة العربية، ويمكن اعتبار تجربة الاتحاد الأوروبي أنجح تجربة على هذا الصعيد. وعلى الدول العربية أن تأخذ تجربة الاتحاد الأوروبي كنموذجاً يمكن الاستفاده منه. طبعاً وفقاً لما يتلائم مع أمكانياتنا ومع طبيعة أنظمتنا ومجتمعاتنا السياسية .


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com