2022-01-23

نسق الإشكاليات الأخلاقية في السياسة العالمية

 


د.سلام الربضي \ مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

الميادين.نت 10 كانون الأول 2021 \ بيروت

تزداد التعقيدات والتساؤلات حول الجدليات الفلسفية المرتبطة بمنظومة القيم المعيارية التي يجب تبنيها في السياسة العالمية، وذلك إنطلاقاً من زخم نسق تداعيات الاعتراف بالمبادئ الأخلاقية على مستوى الاتجاهات التي تتمحور حول :

 1-     ايديولوجية التنمية المستدامة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

2-     تداعيات ظاهرة الإرهاب وصراع الحضارات.

3-     معضلات الذكاء الاصطناعي.

4-     تجليات الأمن السيبراني.

5-     مستجدات الهندسة الوراثية والثورة البيوتقنية.

6-     تنامي النزعة الحمائية التجارية والقومية الاقتصادية.

7-     تحديات المسألة البيئية وتغير المناخ.

8-     علامات الاستفهام المرتبطة بجائحة "كوفيد_19" على كافة المستويات.

 منطقياً، هذه الاتجاهات تأتي في إطار تأكيد الحاجة على أهمية احتواء العلاقات الدولية على العنصر المعياري. ولكن، للأسف الشديد ما زالت محاولة دراسة معايير السلوك الأخلاقية التي يجب على الدول أن تتبناها قضية لا قيمة لها في الوقت الراهن. إذ أن الدراسات الأكاديمية في العلاقات الدولية المتخصصة بالفلسفة وعلم الأخلاق لا تزال حالياً (إلى حد ما) نادرة ومخيبة للآمال أو تخضع لأنماط فكرية تقليدية مستمدة من السرد الثيوقراطي(الديني) أو السرد الأدبي الفلسفي. 

كما أن معايير السلوك السياسي في ظل التحولات الاقتصادية والثقافية الحديثة لم تعد ترتكز على الأطر والمبادئ القانونية والفلسفية، بل ترتكز على مبدأ "إن كل شيء مسموح به، ما لم يكن ممنوعاً بشكل واضح ومباشر. حيث أصبحت لغة السوق، تتسرب إلى كل مفاهيم ومعايير الفكر السياسي، وتشكل تحدي أساسي للقيم الثقافية والإنسانية. وهكذا، يتضح مدى ابتعاد منظومة القيم عن جوهر المعايير الأخلاقية. وهذا الواقع يطرح معضلة مدى إمكانية تأسيس علم أخلاق قادر على استنباط منظومة قيم(سياسية واقتصادية وتكنولوجية) جديدة، وفيما إذا كانت تلك المنظومة ستبقى مرهونه بالتساؤلات التالية:

-   ما هي المعايير التي تُنتج القيم وما إذا كانت أخلاقية أم لا؟  وما هي الجهات المناط بها تقرير ذلك: العُرف المجتمعي أم القانون أم السياسة أم العلم أم الواقع الثقافي؟

-         ماهي الأنماط العقلانية التي يمكن الاعتماد عليها من أجل تحديد مبدأ أخلاقي يمكن للجميع الالتزام به؟ وما هي المعايير العقلانية التي تحكم العلاقة بين الواقع السياسي والفكر الأخلاقي؟

-         ما هي مضامين المعرفة العلمية التي يمكن الاعتماد عليها من أجل تحديد المبادئ الأخلاقية؟

-         هل يجب الاكتفاء بمدونات السلوك الحالية أم يجب تأسيس ميثاق أخلاقي عالمي جديد؟

 ما زال من المبكر جداً تقديم إجابات واضحة لهذه التساؤلات في ظل الواقع الفكري الحالي. كما أن تلك التساؤلات المرتبطة بما يمكن تسميته "علم ما فوق الأخلاق"، ربما تسقطنا في فخ دوامة علم المنطق(الإبستومولوجيا Epistemology) إذ أنَّ الإجابة عن تلك الأسئلة أصعب بكثير ممّا قد يتخيله المرء. إذا أنها ستنقلنا إلى أبعد مدىً يُمكن الوصول له على مستوى تحديد طبيعة المعرفة وفهم ماهيتها، ناهيك عن كيفية استخدام العقل والحواس في البحث النقدي في الأفكار السياسية وموضوعاتها وفرضيّاتها ونتائجها وقوانينها، بغية إبراز منطقها وقيمتها الموضوعيّة. وبالتالي تلك التساؤلات، خاصة بالفكر السياسي لعالم ما بعد الإنسانية وما يحتوي من فلسفة علمية نقدية جديدة، وليس للفكر الكلاسيكي المرتهن لعالم الثيولوجيات(Theology) .

 وفي هذا السياق، إذا كانت المعايير الأخلاقية هي عباره عن إشكاليات مبهمة ذات طابع فلسفي وتمثل قضايا عويصة، ولكن مع ذلك ينبغي الاعتراف بمدى أهميتها الجوهرية. حيث تبقى عنصر أساسي في فهم وتقييم السياسات والعلاقات بين الدول والمجتمعات والأفراد. وعليه، هنالك حاجة ماسة لوجود نسق نقدي سياسي وثقافي يرتكز على دراسة الفكر الأخلاقي(الذي لا غنى عنه في السياسة العالمية) من أجل إيجاد مقاربات منطقية لكثير من التحديات والصعوبات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والبيئية(الحالية والمستقبلية)، بما في ذلك: 

1-  وضع قواعد أخلاقية لتقييم التطورات العلمية.

2-   مواجهة التداعيات السياسية والثقافية شديدة التعقيد المصاحبة لثورة الذكاء الاصطناعي.

3-  اكتشاف العلاقة الجدلية بين الإنسان والبيئة.

4-  تحديد المعايير التي تحكم العلاقة بين العلم والسياسة والمعرفة.

 في المحصلة، وبغض النظر من ذلك النسق القائم على المقاربات النقدية ذات المنبت الفلسفي التي لا يمكن الجواب عليها بسهولة، يجب التأكيد على أنها تبقى ضرورة ملحة لفهم وتأطير الإشكاليات الحديثة في عالم العلاقات الدولية المضطرب. فالقضايا المعاصرة تعبر عن نسق فكري جديد، والمطلوب إيجاد فلسفة أخلاقية من منظور إنساني بحت غير المنظور التقليدي  القائم على العقلانية في العلاقات الدولية. إذ ليس بالضرورة على سبيل المثال أن تؤدي أدبيات العقلانية المرتكزة على الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، إلى تحقيق السلام والاستقرار العالمي، بل قد تقود إلى زيادة انتشار الأسلحة النووية والتلوث البيئي والإرهاب..الخ.

 منطقياً، ستبقى المسألة الأخلاقية مصدر جدل فلسفي، سياسي، قانوني، اقتصادي، ثقافي، على مستوى المفاهيم والأساليب والأدوات والتنفيذ. وبالتالي، ربما تكون منهجية المقاربة الفلسفية الأخلاقية قادرة على ردم الهوة الموجودة بين مختلف العلوم بالإضافة الى إيجاد رؤى متعددة الأبعاد تمكننا من تكوين النظريات وتحديد المفاهيم والمصطلحات، والتي أصبحت اليوم ثروة بحد ذاتها في عصر بات يقوم على المعرفة. وفي هذا الإطار ومن أجل فهم وتأويل ومقاربة نسق المتغيرات والتحديات العالمية، هنالك حاجة إلى: 

1-     عدم الاعتماد على الأدوات التنظيرية الكلاسيكية لفهم وتأطير التحولات المتجددة.

2-     التعامل مع المعرفة على أنَّها سيرورة ديناميكيَّة بلا نهاية أو حدود أو محرمات.

3-     اعطاء اهتمام أكبر بما هو ثقافي في مقابل ما هو اقتصادي وسياسي محض.

4-     صياغة نسق جديد في تحليل وتفسير العلاقات الدولية وتعقيداتها الأخلاقية.

 على نور ما تقدم، وانطلاقاً من الإقرار بواقع غياب القيم المعيارية وانتشار التيارات الفكرية القائمة على طروحات نهاية الأخلاق أو موتها، يمكن القول إن الفكر السياسي (في عصر ما بعد الحقيقة وعصر ما بعد الإنسانية) لم يعد قادر على شرح نفسه أو تحديد وجهته. وبالتالي هذا حتماً يتطلب طرح كثير من علامات الاستفهام السياسية حول الأولويات المرتبطة بي : 

-         إشكالية التضاد والتصادم الوشيك بين التكنولوجيا والإنسانية التي لا محالة قادمة، خاصة على مستوى كل التطورات المرتبطة يالذكاء الاصطناعي. 

-         جدلية المعايير الأخلاقية التي يمكن من خلالها تحديد الأولويات خاصة في ظل الصراع الحاصل بين جموح التطور التكنولوجي وأنسنة العلاقات الدولية.

 بكل تأكيد تحديد هذه الأولويات يتطلب بالدرجة الأولى مناقشة حيثيات اختلاف المعايير باختلاف طبيعة المجتمع والثقافة والفاعلين، ناهيك عن حيثيات بقاء علم الأخلاق ميداناً للصراع بين العلم والفلسفة. وربما أولى تلك الأولويات تكمن في أهمية التزام العلماء(أي العلم) حدود الحقائق المادية، وترك مهمة إرساء القيم المعنوية وتحليلها للفلاسفة والمفكرين(أي الفلسفة والفكر).


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com