‏إظهار الرسائل ذات التسميات العولمة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العولمة. إظهار كافة الرسائل

2022-12-17

كريستيانو رونالدو وكرة القدم والحوكمة المستدامة

 


د.سلام الربضي \ مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

 لقد تخطّى واقعنا المعاصر المعايير الكلاسيكية التي تتّسم بها أطر العمل السياسي والاقتصادي والثقافي، وذلك نتيجة طبيعة المعضلات العالمية البالغة التعقيد، والتي لم يعد ممكناً إيجاد الحلول لها من خلال مفاهيم وآليات الحوكمة المستدامة التقليدية. وبناء على هذا الواقع يمكن طرح الإشكالية التالية: هل يمكن على صعيد الحوكمة المستدامة إيجاد نسق ثقافي جديد يساعد على خلق آليات ضغط وتأثير تكون قارة على المساعدة في مواجهة التحديات العالمية المعاصرة ؟

من الواضح أن القضايا العالمية بأبعادها الإنسانية والسياسية والاقتصادية باتت بحاجة لوجود نسق ثقافي جديد، الذي يجب أن يرتكز على القواعد التالية:

1-      تغيير طريقة فهم سلطة وسيادة الدولة.

2-      العمل على إيجاد تأثير سياسي ملموس.

3-      خلق ضغط اقتصادي حقيقي ومباشر.

4-      إيجاد سلطة فعلية للأفراد الفاعلين.


وعليه، هذا النسق الجديد الذي يرتكز على محورية الفرد، يجب أن  يكون أداة تحفيز تساعد على أدراك أن الالتزام الأخلاقي ضرورة ملحة للغاية، حيث أصبحت الصورة والسمعة الأخلاقية أحد أهم الأصول الثابته وأكثرها حساسية على مستوى رأس المال البشري والاجتماعي. وبالتالي هذا يستوجب من القوى السياسية والاقتصادية إعادة تقيّم سياساتها بما يتلائم مع الحوكمة المستدامة الأكثر إنسانية. ولتوضيح مدى قدرة الأفراد على إحداث نوع من التغيير الذي يمكن الاستفاده منه على مستوى الحوكمة المستدامة، يمكن الإشارة إلى التأثير العالمي للاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو، والذي يُعتبر نموذج يؤكد على إمكانية الأفراد المؤثرين وضع كثير من القوى في موضع المساءلة والمحاسبة. وهنالك الكثير من الأمثلة التي تؤكد ذلك، ومنها:


1-      في بطولة أوروبا لكرة القدم عام 2020 ، أزال رونالدو في مؤتمر صحافي مشروب كوكا كولا (الراعي الرسمي للبطولة) من أمامه للتشجيع على شرب الماء للحفاظ على الصحة. مما أدى إلى انخفاض قيمة أسهم الشركة وتعرضها لخسائر بلغت نحو 4 مليارات دولار.

2-      تعرضت أسهم نادي مانشستر يونايتد في البورصة إلى خسائر مالية نتيجة التصريحات الناقدة بشدة لأدارة النادي من قبل كريستيانو رونالدو في تشرين الثاني 2022، ناهيك عن اهتزاز صورة وسمعة النادي مما أدى إلى تصريح مالكين النادي عن وضع فكرة بيع النادي ضمن أولوياتهم.

3-      ارتفاع قيمة أسهم نادي مانشستر يونايتد في البورصة بما يقارب 212 مليون جنية استرليني بمجرد الأعلان عن التعاقد مع كريستيانو رونالدو في آب 2021

4-      لقد اختيرت جزيرة ماديرا مسقط رأس كريستانو رونالد باعتبارها "أفضل جزيرة في أوروبا" بين عامي 2013 _2021 (باستثناء عام 2015) ، بالإضافة إلى "أفضل جزيرة كوجهة سياحية في العالم" في الفترة 2015 _2021. وذلك نتيجة التأثير الإيجابي لشهرة الاعب البرتغالي على السياحة. حيث ويتضح أن الفترة الزمنية التي حصلت فيها ماديرا على هذه الجوائز تتزامن مع زيادة كبيرة في عدد متابعي CR7 على شبكات سائل التواصل الاجتماعي.

5-      الحسابات الشخصية لكرستاينو رونالدو هي أكثر الحسابات تأثيراً ومتابعة على مواقع التواصل الاجتماعي من حسابات المؤسسات والحكومات أو القيادات السياسية أو حسابات الشركات والمنظمات الخاصة. فمثلاً، مع نهاية تشرين الثاني من العام 2022، تخطى عدد متابعي كريستيانو رونالدو عن نصف مليار نسمة على منصة الانستغرام فقط.


انطلاقاً من ذلك، ووفقاً لإستراتيجية واضحة المعالم، يمكن أن تتعاون الدول والأمم المتحدة وكافة المؤسسات والمنظمات المعنية بالحوكمة المستدامة مع كريستيانو رونالدو، وجميع الأفراد الأخرين المؤثرين، وذلك عن طريق استغلال تاثيرهم ونفوذهم على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل الوصول إلى المزيد من الحوكمة المستدامة الأكثر فعالية. بما في ذلك تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 (SDGs) التي تشمل تحقيق السلام والعدل وبناء المؤسسات القوية، مكافحة التغير المناخي والقضاء على الفقر، الحد من أوجه عدم المساواة،...الخ.


وفي هذا السياق، يبدو أن أكثر ما تخشاه قوى الفساد والاحتكار حالياً هو مواجهة ذلك النسق من المعايير الجديدة التي تتجاوز رتابة وعدم فعالية المعايير السياسية التقليدية. فإذا كانت القوى السياسية غير قادرة أو عاجزة بقصد في مواجهة نفوذ تلك القوى، يمكن للأفراد، كمستهلكين وكمستثمرين وكمواطنين، فعل ذلك وعلى نحو عملي وأكثر إيجابية، مقارنة بما تستطيع السلطات السياسية فعله أو ربما عدم رغبتها في فعله. ولأن شبكات التواصل الاجتماعي باتت تشكل إحد أهم مميزات العصر الحالي على صعيد التأثير والضغط العابر للحدود، فهذا يؤكد على أهمية الاستفاده من دور الأفراد المؤثرين على مستوى إمكانية تحقيق الحوكمة المستدامة بكافة تجلياتها. إذ أن تأثير هؤلاء الأفراد سيكون حتماً في المستقبل جزءاً مهماً من المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي العالمي.


وبالتالي، وفي إطار التحولات الجذرية الحاصلة على مستوى  المعايير وأكثر الأساليب السياسية تأثيراً، وفي مقدمتها سيطرة أيدلوجية الأعلام والشهرة، يجب عدم الاكتفاء باستخدام المصادر التقليدية للحصول على النفوذ والتأثير. فهنالك المصادر الناعمة -إذا جاز التعبير- التي بات لها قدرة كبيرة على التوجيه والتأثير. وربما تكون هنا كرة القدم من أكثر المجالات الناعمة قدرة على صناعة التأثير على المستوى العالمي.


على نور ما تقدم، وانطلاقاً مما تحمله كرة القدم من إرث ثقافي شديد التعقيد على صعيد اتساع الترابط بين كرة القدم والقضايا السياسية والثقافية المعيارية وارتفاع وتيرة وحدة التحديات الجيوسياسية بين الدول، لا بد من طرح كثير من علامات الاستفهام حول إن كان هنالك ما يمكن تسميته ”الرياضة البحتة” البعيدة عن أي هيمنة أيدولوجية، بما في ذلك محاولة ترويج أجندة ثقافية وسياسية بل ومحاولة فرضها على كافة المجتمعات. وهذا فعلاً ما يمكن استنتاجه بكل سهولة من خلال تتبع جنيع  الإشكاليات الثقافية والسياسية التي رافقت استضافة قطر لكأس العالم في تشرين الثاني| نوفمبر 2022 .


الخلاصة أن التنافس الجيوسياسي القائم حول كرة القدم سيظل قائماً لاعتبارات كثيرة وثيقة الصلة ببنية النظام العالمي الراهن، ومحاولة الغرب عموماً إثبات مكانته. وبالتالي، وفي خضم صيرورة الشكوك الديمغرافية والاقتصادية والثقافية التي باتت تحيط بكثير من معالم النظام العالمي التي لن تقف عند التخوم السياسية وحسب، بل ستصل حتماً إلى عالم الرياضة، وعلى وجه التحديد في كرة القدم. وهنا لا بد من التساؤل:

  ما مدى إمكانية حصول حوكمة مستدامة على الصعيد الرياضي العالمي وتحييده عن التاثيرات السياسية؟

إلى إي مدى يمكن أن يتحمل الأفراد المؤثرون المسؤولية الأخلاقية ويتبنوا أفكار الحوكمة المستدامة، بدلاً من الاندماج في منظومة استثمارية وتسويقية عالمية لا غاية لها سوى تحقيق الأرباح المالية ونشر ثقافة الاستهلاك وتشيء الأشياء؟




2021-05-02

"كوفيد-19" وإشكالية العلاقة بين الاقتصاد العالمي وسوق العمل

 


د. سلام الربضي


وفقاً لتقارير منظمة العمل الدولية،  تسبب وباء "كوفيد-19" في أضرار بالغة على قطاع العمل، حيث هنالك خسارة ما يزيد عن 250 مليون وظيفة، ناهيك عن تأثير الجائحة السلبي على صعيد إبطاء أو عكس اتجاه ارتفاع الأجور في جميع أنحاء العالم، مما أثّر على أصحاب الأجور المنخفضة،  بالإضافة إلى تفاقم عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء وازدياد معدل الفقر[1]. وبالتالي، يجب الاعتراف بحقيقة أن التطورات الاقتصادية الراهنة وسيرورة نمو التجارة الحرة، ما زالت تنمو بعيداً عن سوق العمل، وتترك تأثيراً سلبيياً على مستوى المساواة والعدالة الاجتماعية. وفي هذا الإطار، علينا أدراك حقيقة أن الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر على مستوى العلاقة بين التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، هي إشكالية  الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهذا يستوجب طرح التساؤل:


هل نحن نعيش في عصر الاقتصاد من أجل الاقتصاد وليس من أجل المجتمع؟


تبقى الحقائق المبنية على المصلحة العامة هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة. وعليه، بعيدًا عن التنظير ووفقًا للإحصاءات والبيانات الخاصة بالفجوة الاقتصادية وإذا أخذنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر من المواطنين هم عمال أو موظفون يعملون بأجر، يمكننا القول أن الاقتصاد لم يعد يعمل لصالح المجتمعات. حيث بات من الواضح، أن الفجوة بين أصحاب الثروات من ناحية ورواتب العمال من ناحية أخرى، تزيد الشكوك حول سلامة المجتمع. لذلك، إذا كانت حرية التجارة ورأس المال وتحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية القائمة على إلغاء القيود الكمية وجعل العالم منطقة تجارة حرة، هي التي تؤمن النمو والرفاهية، هنا يجب الاستفسار:


هل ستؤدي هذه السياسات والأهداف إلى تعميق أزمة سوق العمل؟ أم أنها ستكون نقطة تغيير وتحول إيجابي؟

 

لقد بات من المنطقي القول، أن هذه الأهداف بالدرجة الأولى زادت من حدة المنافسة بين الدول (سواء الصناعية أو النامية) والتي أدت إلى نتائج كارثية على مستوى ارتفاع معدلات خفض الأجور وتآكل قيمتها الشرائية، حيث أن كل الجهود المبذولة للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة، لم تحقق النتائج المرجوة. فكلما ازدادت وتيرة النمو التجاري، تزداد المصاعب على مستوى سوق العمل، حيث هناك تقليص وترشيد يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. وفي هذا السياق، لا بد من ملاحظة إنه لم يكن هنالك عولمة حقيقية فيما يتعلق بسوق العمل.


وانطلاقاً من ذلك، لم تؤدي كثير من السياسات المتبعة إلى زيادة الرفاهية، بل فاقمت من وتيرة جمود الوضع الاجتماعي والفجوة بين الأغنياء والفقراء. فعلى سبيل المثال، ينعكس الانخفاض في الأجور في أسعار السلع أيجابياً بالدرجة الأولى وبشكل مباشر على المستهلك الغني الذي لم يفقد شيئاً من دخله نتيجة خفض تكلفة الإنتاج. في المقابل، فإن الطبقات الدنيا هي التي تفقد جزء كبير من دخلها وتتأثر سلباً أكثر. وعليه، ووفقاً لتداعيات"كوفيد- 19" الاقتصادية، لا يمكن تجاهل البحث في معضلة:


من يتحمل الأعباء الاقتصادية أكثر: رأس المال أم العمال؟


بناءً على بديهيات السياسات الاقتصادية الحالية، يتضح أن الحكومات تزيد من الأعباء الضريبية على قطاع العمل، كما أن الإعفاءات والتسهيلات الضريبية التي تقدمها الحكومات للشركات عبر الوطنية، يؤدي إلى انخفاض إيرادات الدولة المالية التي سوف تعوضها عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى، أو عن طريق تقليص الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. وبالتالي يتضح أنه، إذا كانت المعادلة الاقتصادية والمالية السابقة، تعكس بشكل أكبر الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، والتي تركز على مبدأ: الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقر، ولكن الآن في ظل الحقائق والتطورات الجديدة، لم تعد هذه المعادلة كافية لتوضيح التغيرات، فهنالك صيغة أو معادلة جديدة ترتكز على مبدأ:


الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا بوتيرة أسرع؟


حيث أنه ليس من المستغرب على الإطلاق، معرفة أن هناك سرعة عالية في توفير الأموال من أجل إيجاد حل لأي أزمة مالية أو اقتصادية عالمية، مقارنة بحقيقة أن هناك حذراً شديداً (بل وبخلاً) عندما يتعلق الأمر بالتمويل الإنساني والبرامج المتعلقة بانتشال المجتمعات الأقل حظًا (المحرومة والمهمشة) من الفقر والعوز. فعلى سبيل المثال، هنالك حاجة فقط إلى عشرات المليارات سنوياً للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم بأسره( وقد أقرت الأمم المتحدة عدة برامج مختلفة لتحقيق هذا الهدف)، لكن هذه البرامج لا تزال على الورق فقط بسبب عدم توفر الأموال اللازمة.

 

إذ يجب إن ترتكز جميع الحلول الاقتصادية والسياسية  المرتبطة بتحديات بجائحة "كوفيد-19"، بالدرجة القصوى على إمكانية حماية ودعم كل السياسات المتعلقة بصون مصالح طبقة العمال والفقراء. إذ لا بد أن تكون القضية المركزية قائمة على الانتقاد المنطقي المتمثل بالوجود الفعلي والارتجاعي للفقر واللامساواة. وهذه الحقائق المأساوية وبعيداً عن الأبعاد الأيديولوجية في دراسة وتقييم الاقتصاد العالمي، تضعنا أمام التساؤل الاستراتيجي التالي:


هل المشكلة تكمن في الأولويات والخيارات الاستراتيجية للدول؟ أم تكمن في الإمكانيات الفعلية المتاحة للدول؟


خلاصة القول، إن إمكانية تحقيق نهضة فعلية تخفف من وطأة الفقر والعجز المادي تعتمد على نوع الفكر الاقتصادي الواجب اتباعه، فنحن بحاجة إلى رؤى جديدة تستجيب لاحتياجات وقدرات المجتمعات. وبالتالي، هذا يستوجب توجية النقد الفكري لكيفية التفاعل والتعامل مع مع الليبرالية الاقتصادية الحديثة، ذلك لأنه لم يعد من المنطقي والمقبول التعامل مع هذا الواقع على أسس أيديولوجية فقط (سواء كانت مع أو ضد) ، دون وجود برامج ومشاريع اقتصادية عملية، حيث بات من الضروري مواجهة جدلية أو إشكالية:


لماذا يوجد الكثير من الأفكار حول كيفية توزيع الدخل وليس حول كيفية توليد الدخل؟



[1]     See,"Covid-19" and the world of work:Updated estimates and analysis",Seventh edition, International Labour Organization Monitor(ILO), Geneva, January 2021. Look: https://www. ilo.org/wcmsp5/groups/public/@dgreports/@dcomm/documents/briefingnote/wcms_767028.pdf  Accessed on 04-25-2021.


2020-10-03

الحوكمة العالمية وجائحة كوفيد19: جدلية الأولويات والإمكانيات

 



د. سلام الربضي \ مؤلف وباحث في العلاقات الدولية


بناءً على تقييم السياسات والاستراتيجيات التي تم تبنيها لمواجهة التداعيات الاقتصادية والمالية لجائحة كوفيد 19 العالمية ، بالإضافة إلى زيادة الضغوط نتيجة التحديات الصعبة التي تعاني منها جميع دول العالم على مستوى العجز في الميزانيات الحكومية، يمكن القول أن كل الجهود المبذولة من قبل السياسيين والاقتصاديين لإيجاد فرص وبدائل جديدة لم تحقق النتائج المرجوة. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الجدلية الأساسية في العالم الحديث على مستوى العلاقة بين التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي تتمحور حول إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وانطلاقاً من ذلك يمكن طرح التساؤل التالي:


هل نحن في عصر الاقتصاد من أجل الاقتصاد وليس من أجل المجتمع؟


بعيداً عن التنظير ووفقاً للإحصاءات والبيانات المتعلقة بالفجوة الاقتصادية (إذا أخذنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر من المواطنين هم عمال أو موظفون يعملون بأجر) ، يجب الاعتراف بحقيقة أن الاقتصاد ينمو بعيداً جداً عن أسواق العمل، بل وله تأثير سلبي على هذا القطاع أكثر من القطاعات الأخرى. وكذلك إذا ما زالت الحقائق المبنية على المصلحة العامة هي المعيار الأساسي لتقييم السياسات الاقتصادية الناجحة، فهنا يمكن الاستنتاج إن الاقتصاد العالمي لم يعد يعمل لصالح المجتمعات والشعوب، حيث بات من الواضح أن الفجوة بين رواد الأعمال وأصحاب الثروات من ناحية ورواتب العمال من ناحية أخرى، سوف تزيد الشكوك حول الأمن البشري والتوازن المجتمعي بين الطبقات الاقتصادية.


وبناء علي ذلك، إذا كانت التجارة الحرة وحركة رأس المال هما السبب الرئيسي لزيادة النمو الاقتصادي وتعزيز دولة الرفاهية، وإذا كانت أهداف منظمة التجارة العالمية (WTO) ستتحقق في المستقبل على مستوى إزالة القيود الكمية وتوحيد جميع الرسوم الجمركية وجعل العالم منطقة تجارة حرة ، بالتالي يجب طرح علامات استفهام جدية حول فيما إذا كانت هذه السياسات والأهداف في ظل أزمة كوفيد-19 سوف تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؟ أم ستكون نقطة تغيير وتحول إيجابي؟


لقد أصبح من الواضح أن المنافسة بين الدول (سواء كانت صناعية أو نامية) لخفض الأجور أو الرواتب ستؤدي إلى نتائج كارثية، وهذا لن يزيد من رفاهية المجتمعات بل سيزيد من جمود الوضع الاجتماعي المتأزم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الأجور المنخفضة تنعكس على أسعار السلع وأن الاستفادة منها ستكون لصالح المستهلك ذي الدخل المرتفع (الذي لم يخسر شيئاً من دخله نتيجة خفض تكلفة الإنتاج). من ناحية أخرى  فإن الطبقات المتوسطة والفقيرة هي الأكثر تضرراً حيث تفقد جزءاً من دخلها وبالتالي تتأثر أكثر من غيرها من طبقات المجتمع. وانطلاقاً من هذا الواقع يجب علينا عدم تجاهل الجدلية التالية:

من الذي سوف يتحمل الأعباء الاقتصادية نتيجة الأزمات المصاحبة لوباء كوفيد 19: رأس المال أم العمال؟


في السابق، عكست المعادلة الاقتصادية عن كثب الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، وهذه المعادلة كانت تقوم على النحو التالي: الغني يزداد ثراءً والفقير يزداد فقراً، ولكن حالياً ووفقاً للواقع الحياتي الملموس لم تعد هذه المعادلة كافية لتوضيح الصورة ، حيث أصبح من الواضح أن هنالك صيغة جديدة قد ظهرت وهي ترتكز على المبدأ التالي: الغني يصبح أكثر ثراءاً والفقراء يزدادون فقراً ولكن في معدل أسرع.


على نور ما تقدم، وانطلاقاً من القراءة المتأنية للمنطق الاقتصادي المسيطر واستناداً إلى النسق المالي الذي تتبعه الحكومات، حيث يجري العمل على زيادة العبء الضريبي على قطاع العمل والعاملين، ناهيك عن زيادة الإعفاءات والتسهيلات الضريبية التي تقدمها الحكومات إلى الشركات عبر الوطنية، فإن هذه الأنساق الاقتصادية والمالية ستؤدي حكماً إلى تدهور وانخفاض إيرادات الموازنات العامة للدول، والتي تحاول تعويض هذا الانخفاض عن طريق زيادة الاعباء الضريبية على الطبقات الأخرى (أي الفقراء) ، أو عن طريق تقليص الخدمات الاجتماعية (خاصة الرعاية الصحية والتعليمية).


في هذا السياق ، من خلال تتبع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لوباء كوفيد 19 ، يمكن القول أن هناك خللاً أخلاقياً واقتصادياً على مستوى الحوكمة العالمية، عندما نعلم أن هناك سرعة فائقة في توفير رؤوس الأموال من أجل إيجاد حلول للأزمات المالية والاقتصادية العالمية، بالمقارنة مع ذلك نجد هنالك حذر وبخل شديد عندما يتعلق الأمر بتمويل البرامج الإنسانية ذات التكلفة المنخفضة نسبياً. فعلى سبيل المثال، هنالك حاجة فقط إلى عشرات المليارات سنوياً للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم بأسره (وقد وافقت الأمم المتحدة على العديد من البرامج المختلفة لتحقيق هذا الهدف) ولكن معظم هذه البرامج لا تزال حبر على الورق وذلك بحجة عدم توفر الأموال اللازمة. ومما لا شك فيه، هذا أيضاً ما يمكن استنتاجه سابقاً، على مستوى دعم المشاريع والبرامج العالمية المتعلقة بمكافحة الأوبئة والأمراض المعدية، وكذلك هذه الحقيقة تنطبق في وقتنا المعاصر على مستوى الصعوبات التي تواجه الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية من أجل تأمين الأموال اللازمة لدعم الأبحاث العلمية والصحية المتعلقة بمواجهة جائحة فيروس كوفيد 19، بعيداً عن الاستراتيجيات السياسية ومصالح الدول وسياسات الاستغلال الاقتصادي.


في المحصلة وبناء على كيفية تعامل الدول والمؤسسات العالمية مع معضلات جائحة كوفيد -19، فإن هذه الحقائق المأساوية (بعيدًا عن الأبعاد الأيديولوجية في دراسة وتقييم الاقتصاد العالمي) تضعنا أمام طرح التساؤل الجدلي المنطقي التالي: هل المشكلة تكمن في الأولويات والخيارات الاستراتيجية للدول؟ أم أنها في الحقيقة مشكلة القدرات الفعلية المتاحة للدول؟






2020-09-14

جائحة كوفيد 19 ومعضلة تعبئة الفراغ الفكري في العلاقات الدولية

 



 

د. سلام الربضي: مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

 

على نور أزمة جائحة كوفيد 19 يبدو واقع التحديات في العلاقات الدولية خارج الحياة الأكاديمية مختلفاً تماماً، حيث يكمن التحدي الرئيسي في صياغة رؤية جديدة يمكن أن تُدافع عن تكامل المشهد العالمي ضد هجمات فكرة الفراغ الفكري الذي يحدث الآن. وفي هذا السياق وعند التعامل مع قضايا متعددة الأبعاد وشديدة التعقيد، تكتسب مسألة المنهجية أهمية استثنائية وجوهرية، فعلى عكس اللغط الفكري والسياسي وكل الأطروحات السائدة حالياً حول انهيار الآحادية القطبية نتيجة لتداعيات أزمة جانحة كوفيد 19، يمكننا القول أن الواقع العالمي لما قبل الجانحة كان يعبر بالفعل عن مرحلة إنتقالية تميزت بها معظم الملفات السياسة والفكرية المطروحة، وبكل تأكيد كان زاخراً  أيضاً بكثير من التطورات، حيث عملياً تم الانتقال من الثنائية القطبية إلى الأحادية النسبية، ومن مفهوم مجتمع الأمن الكلاسيكي إلى مفهوم مجتمع الخطر النسبي. وهذه القضايا بمجملها شكلت أنساقا عالمية جديدة جعلت من المنطقي البحث في الإشكاليات التي تتعلق بكيفية رؤية النظام العالمي ومحاولة استشراف مستقبله وهوية الفاعلين الأساسيين فيه.


فعندما يتم التمعن في قراءة الواقع العالمي قبل أزمة الجائحة يمكن القول أنه قد حدث تحول كبير لمفهوم الأمن العالمي، بحيث لم تعد النظرة الكلاسيكية المرتكزة على تحقيق أمن الدولة (الأمن السياسي بالمعنى الضيق) هي التي تحكم الواقع، بل أصبح مفهوم الأمن الإنساني يشمل جميع الأبعاد البيئية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، بما في ذلك الأبعاد الصحية وتداعيات التقدم التكنولوجي..الخ.  كما أنه نتيجة لتزايد نفوذ الشركات عبر الوطنية والمنظمات غير الحكومية والأفراد، ناهيك عن بروز قضايا الإرهاب والمسألة البيئية وإشكاليات الثورة البيوتقنية والذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية، بات من المستحيل منطقياً واستراتيجياً الحديث عن نظام عالمي يتحكم فيه قطب واحد.


ووفقاً لتلك المقاربات ومن خلال محاكاة التطورات المعاصرة للسياسة العالمية، نجد أن العلاقات الدولية أصبحت تواجه معضلات شديدة التعقيد على كافة الأصعدة والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:

- معضلة الفراغ الفكري والأخلاقي.

- معضلة مكانة الدولة ومعايير القوة.

- معضلة البعد الثقافي واستدعاؤه لفهم الإنساق العالمية.


وهذه المعضلات وما صاحبها من تحولات عميقة في بنية المجتمع العالمي كانت سابقة لجانحة وباء كوفيد 19، بحيث جاءت الجانحة نتيجة لها ولتؤكدها وليس لنسفها كما يزعم الكثير من السياسيين والباحثين والمفكرين، والتي كان يتم التعبيرُ عنها من خلال طرح الإشكاليات التالية:


1-    هل يمكن تحليل العلاقات الدولية المستجدة من خلال معيار القوة المادية فقط؟

2-    هل هنالك حاجة إلى نسق فلسفي جديد لتفسير الواقع الجديد للعلاقات الدولية؟

3-    ما هي سبل مواجهة متطلبات أخلاقية تتضمن مفهوماً جديداً للأمن البشري؟


على نور ما تقدم يمكننا القول، لقد إعاد القرن 21 منذُ ما قبل جانحة عام 2020، النظر في الثوابت اليقينية في كل ما يتعلق بالإنسان والمجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة والعلم والأخلاق، حيث كان هنالك الكثير من النظريات التي حاولت ملء الفراغ الفكري، ومن أهمها نظرية نهاية التاريخ ونظرية صراع الحضارات ونظرية ما بعد الحداثة، وقد يكون من أخطرها على الأطلاق نظرية يطلق عليها تسمية "ما بعد الإنسانية". فمنذُ عام 2000 مع أكتشاف الخريطية الجينية دخلت الإنسانية مرحلة تطور ثوري في العلوم البيولوجية، والتي سينتج عنها تحولات جذرية قد تتيح إمكانية تغيير الطبيعة الإنسانية، وبكل تأكيد سيرافقها تأثيرات أخلاقية وسياسية واقتصادية مصيرية.


وبالتالي يتضح بما لا يقبل الشك، بأنه كان هنالك قبل جانحة كوفيد 19 تساؤلات حقيقية أكثر خطورة فيما يتعلق بمواجهة خيارات سياسية وأخلاقية مستقبلية، لن تكون تداعيات أزمة الجائحة الحالية سوى نقطه في محيطها، إذ سيتم تركيب جينات بشرية مع جينات أخرى حيوانية وربما نباتية، بشكل يجعلنا لا نعلم ما معنى الإنسانية، وبالتالي سيكون العالم مليئاً بالصراعات ولن يكون في داخله حيز لأي مفهوم حول إنسانيتنا المشتركة. وهذا النسق بدوره يفتح الباب على مصراعيه أمام معضلة العلاقة بين الإنسانية والتطور العلمي ومدى  تأثيرها على السياسة العالمية وعلى وتيرة التطور الفكري في العلاقات الدولية.


وبناء على هذه الرؤية، يمكننا القول أن وباء كوفيد 19 لم يأتي لنا بأي جديد على المستوى الفكري سوى تأكيد أهمية نشوء نسق كوني من القيم يحكم سلوك الشعوب والدول والمؤسسات والمنظمات العالمية، إذ ستكون مسألة القيم وتحولاتها في صدارة الأسئلة الفكرية المستقبلية في العلاقات الدولية، وسوف يتم الانتقال من التركيز على العوامل الاقتصادية والسياسية فقط،  إلى الاتجاه نحو العوامل الثقافية باعتبارها القوة المؤثرة والدافعة في مقاربة القضايا العالمية(سواء على صعيد تفسيرها أو إيجاد الحلول لها).


وفي هذا السياق ووفقاً لمنهجية النقد الذاتي والمنطق التاريخي يمكننا طرح التساؤل حول فيما إذا سقطنا في فخ إشكالية الاستعجال في  تعبئة الفراغ النظري الذي يفسر القضايا العالمية، فإذا كان الإطار الزمني لكل هذه الأنساق العالمية الجديدة لم يتجاوز 20 عاماً وتلك الفترة الزمنية لا يمكن ان تعطينا منهجياً، دلالات ثابتة. وبالتالي كيف الحال مع كل تلك الطروحات والأقاويل الحالية المرتبطة بتداعيات الأزمة الصحية العالمية 2020 والتي لم يتجاوز عمرها بضعة شهور فقط؟؟؟


2019-05-01

الاقتصاد العالمي والخيارات الاستراتيجية للدول





سلام الربضي:  باحث ومؤلف في العلاقات الدولية \ اسبانيا



أن كل الجهود التي يبذلها السياسيون والاقتصاديون للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في كافة القطاعات لم تحقق النتائج المرجوة. فكلما ازدادت وتيرة المتاجرة في البضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، تزداد المصاعب حيث هناك تقليص وترشيد يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. إذ لا بد من الإشارة إلى الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر حول علاقة التنمية المستدامة بالنمو الاقتصادي وهي:


 إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء فهل نحن في عصر الاقتصاد من أجل الاقتصاد وليس من أجل المجتمع؟


الوقائع القائمة على مصلحة المواطنين، ستبقى هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة. وبناء على ذلك، من البديهي أن تؤدي الهوّة بين دخول أصحاب المشاريع ومُلاّك الثروة من ناحية ودخول العمال من ناحية أخرى إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته. فإذا كانت التجارة الحرة وانتقال رؤوس الأموال والبضائع والخدمات عبر الحدود، هي التي تحقق النمو والرفاه، وفي حال تم تحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية بألغاء القيود الكمية وتوحيد كافة الضرائب الجمركية وجعل العالم منطقة تجارة حرة بحلول العام :2020


 فهل هذه السياسات والأهداف سوف تؤدي إلى تعميق أزمة سوق العمل ؟ أم أنها ستكون بمثابة نقطة التغيّر والتحوّل الإيجابي؟  


 إن احتدام المنافسة بين الدول سواء كانت صناعية أم نامية على خفض الأجور لن يؤدي إلا إلى نتائج وخيمة ولن يزيد من رفاهية المجتمعات، بل سيزيد من تحجّر الوضع الاجتماعي المؤلم. فالتخفيض في الأجور ينعكس على أسعار السلع ويستفيد منه بشكل مباشر المستهلك صاحب الدخل المرتفع، الذي لم يخسر شيئاً يذكر من دخله، في مقابل تخفيض تكلفة الإنتاج. في حين، أن الطبقات المتوسطة والفقيرة، هي التي تخسر جزءاً من دخلها، وتكون أكثر تضرراً.


 وانطلاقاً من ذلك، لا يمكننا تجاهل جدلية أو معضلة مَن الذي يستوجب عليه تحمل الأعباء: رأس المال أم العمال؟


 فالحكومات ترمي الأعباء الضريبية على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر والإعفاءات والتسهيلات والمنح الضرائبية المقدمة للشركات، ينتج عنها انخفاض في إيرادات الدولة المالية، والتي تعوّضه عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى. أو عن طريق تقليص الخدمات والرعاية الاجتماعية والصحية. فالمعادلة التي كانت أكثر تعبيراً عن اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء : الأغنياء يزدادون غنى بينما الفقراء يزدادون فقراً، في ظل الوقائع الحالية القائمة، لم تعد تكفي لتوضيح الصورة، حيث من الواضح ظهور صيغة جديدة تقوم على مبدأ : 


الأغنياء يصبحون أغنى، والفقراء أفقر، وبمعدل أسرع ؟


إذ تفاجئنا السرعة الفائقة، في توفير المبالغ الخيالية لحل الأزمات المالية والاقتصادية العالمية وتمويل الحروب والنزاعات مقابل التقاعص الشديد الذي يعرف عادة عند تمويل البرامج الإنسانية التي أقرتها الأمم المتحدة للقضاء على الفقر وتحقيق التنمية المستدامة، والتي ما زالت حبراً على ورق. فهذه الحقائق المآساوية، وبعيداً عن الأبعاد الايديولوجية في مقاربة عالم الاقتصاد تضعنا أمام التساؤل الجدلي المنطقي التالي:  هل الإشكالية تكمن في الأولويات والخيارات الاستراتيجية ؟ أم هي مسألة الإمكانيات الفعلية المتاحة للدول؟؟؟



For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com