2011-03-31

الفضاء الثوري العربي ويوتوبية جدلية النزعة الإنسانية ج1






سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية
منبر الحرية بالتعاون مع معهد كيتو \ واشنطن
29-3-2011

علينا إعادت الفضاء الفكري ليصبح اللغة المفضلة للدراسات الثقافية والسياسية، وإن أدى ذلك إلى جعل الاستعارة تحتل مكان الصدارة. فبقدر ما تركز النظريات السياسية على المجتمع، فإن اللغة كلية الوجود، تركز كعلاقة خارجية لها على الفضاء. وكما توحي إنتفاضات الوطن العربي والأحداث التابعة لها، فإن الانعطافة الفضائية من الممكن أن تكون ذات طابع مفهومي مجرد لدى بعض الدوائر الأكاديمية، إلا انها أيضاً، تعتبر عنصراً حاسماً في انبعاث التنافسات حول إنتاج الفضاء المحلي والإقليمي. 

وهي مهيأة لان تكون أكثر الموضوعات الأكاديمية جاذبية.إذ علينا إعادة الإكتشاف الواسع المدى، للمفهوم الفضائي في الصيرورة الثورية المعاصرة، كي يقدم أساساً عقلياً وفلسفياً بدرجة كبيرة، لإعادة تأطير السياسة بوصفها في جوهرها فضائية الطابع. فالفضاء هو أنطولوجيا السياسة، وأياً كانت اللغة الفلسفية الغالبة فإن تلك التنظيرات ذات الطابع الفضائي المستلهمة، هي لحظة فضائية بقدر ما هي لحظة تاريخية.

وإذا كان الإهتمام ما زال أكبر في مجال السياسة، منه بالنسبة لمفهوم الفضاء. حيث إنه، كي نفهم واقع العالم العربي الذي نعيش فيه الآن، فإن علينا أن نتعامل مباشرة مع الدعائم النظرية المتنوعة، وتوجيه الميول الفلسفية والنوازع السياسية، نحو اكتشاف الفضاء في إطار عملية التنظير السياسي. فإضفاء الطابع الفضائي على السياسة يستمد من النظريات السياسية والاجتماعية التي تتحول لأن تكون فضائية. 

فالفضائيات ابتداء من الواقع الجغرافي العلمي، ووصولاً إلى رؤية محددة بصورة أكثر دقة للبدائل السياسية، تعتبر بمثابة التفصيل الأكثر توليفة بين كل من الفضاء والسياسة. فإضفاء الطابع الفضائي على العملية الثورية اليوتوبية ينطوي بالضرورة على تفضيل أحد الأشكال الفضائية على الآخر، أي ينطوي على قرار من نوع إما / أو. وإذا كانت الجغرافيات الثورية الجديدة واقعية بشكل عام، فإن اختيار أحد الأشكال الفضائية هو بحد ذاته، اختيار قوي بين بدائل. وبتعبير مختلف، هو يشكـل مجـازاً دقيقـاً يمكن القول فيه إن " الفضائيات الشيطانية للثورة " قد تعمق بدلاً من أن تخفف المآسي التي وعدت تلك النزعة اليوتوبية بأن تزيلها.

فالواقع الثوري كان تعبراً عن حالة استثنائية من التوجس، دعمته طبقة حاكمة عربية متسلطة من حيث لا تدري، وإن لم تكن ترغب بذلك، حيث ظنت تلك الحكومات أنها ترى أمامها طريقاً يخلو من أية تحديات ذات قيمة على مستوى شعوبها. وتلك هي اليوتوبيا التي يصبح فيها خياراتهم هي المستقبل الوحيد الممكن على وجه التحديد. والعقبات من كل الأنواع تتفتت بفعل التآكل الذي يحدث، لدرجة المصير الحتمي أصبح قائم تحت شعار " ليس هناك من أي بديل". 

وتلك الرؤية أو الحقبة انتهت بمؤشرات وافرة، تدل على هشاشة تلك اليوتوبيا، فإنفجار الثورات العربية تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية، ونجاح بعضها خارج كـادر التدخلات الخارجية، كان بمثابة بيان بأنه حتى داخل النظام نفسه هناك البدائل الممكنة.

واليوتوبيا لا تتجاوز الاختيار لكنها تعانق دوامه، فالمخاطر المصاحبة لاقتراح نزعة يوتوبية حذرة، مخاطر جمة في الوقت الراهن. وتبني اللحظة الثورية يعني في الوقت نفسه، إلا مفر من السلطوية قرار إما / أو . لكن الخطر هو أن تمتد السلطوية إلى ما بعد اللحظة، أن تتكاثر وتصبح عادة مستقرة، أن تتمأسس وهذا الوصف يمكن أن ينطبق على التاريخ المأساوي لتاريخنا منذ عصر الخلافة ، وهذه المتاهات بالتحديد ما تتطلب مفهوم الدفاع عن الثورة الدائمة. إذ أن تفتيت القضايا تجعل من تفتيت الاختلاف عليها، علامة على التمايز الثقافي. 

هذا هو زمن إعادة الاتصال السياسي، والرؤى المتعددة للبدائل، وهو زمن اليوتوبيا المتجددة، حتى وإن كانت حذرة ونقدية. يوتوبيا تنطوي ليس فقط على تفاؤل الإرادة، بل تنطوي أيضا،ً على تفاؤل العقل، وهو أمر أصبح الحاجة الملحة للعصر.

وأحد أكثر المناطق خصوبة في النظرية الثورية اليوم، تتعلق بمسألة المقياس الفضائي. وعموماً، فالمقياس يعامل بصفة عامة على أنه ثابت بدرجة أو أخرى. لكنه من الناحية العملية معطى أيضاً. والمقياس لا ينظر إليه عموماً على أنه مسألة فلسفية أو نظرية مهمة، وإنما يعتبر في أحسن الأحوال، سؤالاً منهجياً، يتصل باختيار المقياس الذي يمكن للمرء من خلاله، أن ينظر إلى مشكلة ما، وأن يجري بحثاً ما. فالمناقشات حول الخصوصية والثورة، وحول مصير دولنا العربية، توحى بغير ذلك.

فالمسألة لا تتحدد ببساطة في إعادة بناء الترتيب الفضائي، بل تتحدد في أن المقاييس التي يتم من خلالها تجميع تلك العمليات في وحدات فضائية مستقلة ومتامسكة ومتمايزة، إقليمية، قومية، هي نفسها تتطلب أن يعاد بناؤها. وعلى ذلك، فالنظرية العربية المعاصرة ترى أن الشبكة التراتبية للمقاييس الفضائية، هي نتيجة للعمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي في الوقت ذاته، فاعل يؤطر ويشكل تلك العمليات المختلفة، وصنع المقاييس الفضائية من المفترض إن يضمن هذه الاختلافات.

فالمقياس هو الوسيلة التي تستطيع المجتمعات بواساطتها أن تنتج وتنظم الاختلاف الفضائي. فإنتاج المقياس إذن ليس مجرد شيء تاريخي قابل للتحول، بل هو أمر غاية في الأهمية بالنسبة للسياسة. وهو البنية التحتية التي تنظم الاختلاف، محولة إياه إلى إختلاف فضائي، ثم تجعله يرتد ثانية كجزء طبيعي وثابت من المشهد الأصلي. وعلى ذلك، فإنتاج المقياس هو وسيلة لتشكيل واحتواء الخيارات، ووسيلة لتقوية صراعات معينة في آن واحد.

فعملية وضع المناقشات حول المستقبلات المحتملة في إطار مقياسي، عملية ضرورية للملائمة المتزايدة للقيم في عالم العرب اليوم . في ظل عالم يعاني من اختلاف جذري شديد على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الشعوب وبين الأماكن .

ومسألة الخصوصيات في مواجهة الثورات، أصبحت ذات أهمية سياسية في الوقت الراهن، بالنسبة للفصل في المزاعم القائمة بين مختلف الهويات المضطهدة والمهمشة والمستغلة، والأهم من ذلك، بالنسبة لأي مشروع مقترح لأنظمة بديلة. فإضفاء الطابع اليوتوبي على الثورات العربية المعاصرة، هو طابع سحري، يعبر عن المستقبل بلغة عالمية متخفية تحت قناع اختلاف الوقائع، ويكشف عن المدى الذي تكمن فيه مشكلة الخصوصية، في قلب أية رؤية للمستقبل المصنوع، أو المرغوب فيه. 

فكلنا يستطيع أن يحلم بمستقبلات شديدة الاختلافات فيما بيننا، ومعظمنا يفعل ذلك لكن :
كيف نتمكن من جعل ذلك حقيقة واقعة؟
كيف يتطلب قدراً كبيراً من العمل على التوفيق بين الخصوصيات؟

أن يوتوبيات الشكل الفضائي، نجدها في ترتيبات فضائية معينة تسمح وتسهل أنواعاً معينة من التغير الاجتماعي، حيث يطلق اللعب الخيالي بالصورة الفضائية، إمكانات لا حصر لها من مختلف اليوتوبيات. ولكن الجمود النسبي للصورة الفضائية الثورية العربية له نواقصه الذاتية، وتتضمن بالضرورة عنصر تقييد. فما تحقق فعلاً من هذا النوع من اليوتبيات أعلن أخفاقه عموماً على مذبح العمليات المعاصرة. ولكن مثل هذا النوع من النزعة اليوتوبية، قد أخفق أيضاً، من حيث إن تحققه في الواقع، ينطوي على ضرورة التغلب على الجغرافيات القائمة، والنزعة المحلية الراسخة والاختلافات الفضائية الصلبة.

فالتناقض بين العملية السياسية وبين الشكل الفضائي يمكن حله، وفقاً لليوتوبية الجدلية، فالفكرة المتألقة حول إنتاج الفضاء تبقى في نهاية المطاف مفتوحة. إذ أن إضفاء الطابع الفضائي ينطوي على إنغلاق مفروض بالقوة، على اختيار من نوع إما / أو ، لبعض ترتيبات الفضاء دون البعض الآخر، وهذه الحركة قد تكون فعلاً تسلطياً في الصميم. كما أن محاولة إضفاء طابع فضائي على يوتوبية العملية الثورية من خلال تبني الاختلاف يبدو بلا نهاية، وغير محدد التكوين. وقد يفشل أيضاً، في الاشتباك مع الاختيار الذي لا مفر منه، بين الانغلاقات والبدائل التي تصاحب تكوين البديل، أي المجالات الحيوية.

2011-03-25

حرب غزة وتطور الفكر والممارسة لدى المقاومة








 
 

دراسة حول 

حرب غزة وتطور الفكر والممارسة لدى المقاومة

للاستاذ سلام الربضي \ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية .

موقع اسلام تایمز الاخباري
13-3-2011


ممارسة التفكير المنهجي تبدو صعبة عند دراسة القضايا المتعلقة بإسرائيل. فإذا كانت الحرب، استكمالاً للسياسة، ولكن بش كل عنيف، فإن حروب إسرائيل تظل، هي الأصل وممارسة السياسة هي الاستثناء. وهي حقيقة تاريخية تشهد عليها الحروب السبع،التي خاضتها إسرائيل ضد العرب.



ومن خلال مقاربة محاكاة إسرائيل لرؤية المقاومة في فلسطين ولبنان، فإن أي سؤال عن المقاومة، لا يجب أن يثار بمنطق الاتهامية والانفعالية، بل بمنطق المساءلة والتفكير والتدبير. فقد أثبتت المقاومة في لبنان وفي فلسطين بعد حرب غزة، أنها قد انتقلت في طبيعة عملها المسلح في الساحة الفلسطينية، من العفوية وطريقة العمل المزاجي وعدم الارتباط، باستراتيجية سياسية واضحة، إلى صاحبة رؤية ومنطق عمل إستراتيجي سواء على الصعيد العسكري أو السياسي.

كما إن درجة الاستعداد عند المقاومة، للقتال عالية جداً، ولا بد أن يأتي يوم وتدرس فيه بجدية، وليس بالابتذال القائم حول ثقافة الموت المزعومة. تلك الروح التي حملت الناس في لبنان 2006 على الصمود في وجه أطنان القنابل ثم سجلت مأثرة رد الاجتياح الأرضي. وهي نفسها ما يحرك هؤلاء الشبان في فلسطين المؤكدين على حقهم في المقاومة على الرغم من أن الظروف ليست لصالحهم في أي حساب موضوعي .

فمقارنة، ما بين اجتياح إسرائيل لمخيم جنين 2002 وبين حرب غزة 2009 ، فارق كبير في مستوى العمل السياسي والعسكري، وهذا يحسب ويسجل لصالح المقاومة. ولقد أصبحنا نشهد مفردات سياسيّة جديدة في المنطقة، كمحور الشرّ والتطرّف والذي يضمّ دولاً عربيّة، كسوريا ومنظمات وأحزاب المقاومة. مقابل محور الاعتدال، الذي يضمّ دولاً عربيّة بالإضافة إلى إسرائيل. فإن كان الموقف من حرب تموز2006 يضع قوى الاعتدال في مواجهة الانقسام القائم في المنطقة على أساس الصراع مع الجمهورية الإيرانية والمعطى المذهبي الشيعي الصاعد، فماذا عن غزة؟ وماذا عن حماس، وهي ليست سوى أحد فروع حركة الإخوان المسلمين السنية ؟؟؟

جلد الذات هو الذي يدفع إلى الهروب من رؤية الآخر، وربما يكون الشعور بالعجز، هو أساس ذلك. فالخوف من حماس وربما من الأصولية الإسلامية، هما اللذان يفرضان على البعض الميل لرفض مقاومتها وكل المقاومة. ولكن يجب أن نرى هدف الآخر، وأن نعرف ما يريده وما يعمل على تحقيقه، فهذا الموقف من المقاومة يخدم ويصب في مصلحة سياسية الدولة العبرية .

المعركة ليست مع حماس ولا يجب أن تكون، رغم كل التناقضات المطروحة خلال ممارستها الحكم. بل المعركة ضد الاحتلال، الذي يعمل على أفراغ فلسطين من شعبها هذا هو الأساس. ومن هنا نتلمس الأهداف، فهذا المنطق من قبل الأفراد أو الحكومات، في التعامل مع أحداث غزة، هو سطحي إلى حد أنه، برر وخدم الأهداف الإسرائيلية . فهناك رهان إستراتيجي على حرب قادمة. يجب على إسرائيل القيام بها لإعادة الهيبة العسكريّة المفقودة بعد حرب تموز 2006 وحرب غزة 2009 ، ومن أجل اعادة فرض السّيطرة على المنطقة بكافة الوسائل.

من الضّروري التمييز بين ما تريده إسرائيل وما تقدر عليه، ليس كل ما تريده إسرائيل تستطيع تنفيذه في الوقت والمكان والطريقة التي تريدها. إذ يبقى التساؤل الاستراتيجي عن أيّة حرب قادمة سيكون السؤال:


هل هي ضدّ لبنان ؟ هل هي حرب ضدّ سوريا؟ 

هل هي حرب ضدّ الفلسطينيّين في غزّة؟

أم أنها حرب على إيران؟ وهل سيملك العرب زمام المبادرة؟ 

وإلى أن يأتي أوانها فهل سوف يبقون منقسمين بين عرب الاعتدال وعرب التطرّف؟

فالمشكلة تكمن فيما أن مجتمعاتنا بما فيها المجتمع الفلسطيني ما زالت تسعى إلى القضاء على إسرائيل . وأما أننا قد قبلنا بأن مستقبل مجتمعاتنا كافة يخدمه صلح مع المجتمع الإسرائيلي القائم كحقيقة . فالمسألة في ظل هذا الواقع قد تكون هي في فض الأمور العالقة والبعض منها خطير.

المسألة قائمة على الإشكالية الآتية: هل الصراع العربي الإسرائيلي قائم على أساس حرب وجود أم حرب حدود؟

قد يكون المفكر اليهودي الفرنسي جاك أتالي قد ذهب أبعد من ذلك بقوله:


"أن دولة إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام هشة وضعيفة ومهددة مثل ما هو شأنها اليوم، على الرغم من تفوقها العسكري والتقني الكاسح، ووهن خصومها وضعفهم، فكل المشاهد المتخيلة تؤدي إلى النتيجة نفسها. وهي نضوب وتآكل الحلم الإسرائيلي، فإذا كان الاحتمال الوارد هو خيار الحرب، فالمواجهة القادمة لن تكون حرباً تقليدية بين جيشين عاديين يحسمها التفوق العسكري. وإنما ستكون، حرباً واشتباكاً شعبياً يومياً، سيصل كل حي وشارع داخل إسرائيل نفسها، وفي الأراضي الفلسطينية حيث المستوطنات الإسرائيلية". 


یمکنکم قراءة الدراسة کاملة أو سحبها من خلال الربط التالي :


حرب غزة وتطور الفكر والممارسة لدى المقاومة 



2011-03-13

سلطة وكالات التصنيف العالمية






سلام الربضي \ باحث أردني في العلاقات الدولية

إن النظام المالي هو قسم من أقسام الاقتصاد العالمي. وهو الذي تعرّض إلى أعظم مدى ممكن من التدويل. ويعتبر هذا الميدان من أكثر ميادين الخلاف نتيجة هذا التحول الكبير من جهة، وبروز تيارات فكرية ترى أنه قد تم الانتقال من النظام العالمي الذي تقوده الحكومات إلى النظام العالمي الذي تقوده الأسواق.  

فمن هم سادة الأسواق المالية :

إنهم مديرو الصناديق المختلفة، المستثمرون، أفراداً ومؤسسات، الشركات، المؤسسات المالية المحلية والعالمية، الحكومات التي تلعب دور المقرض وأحياناً المنقذ، المصارف، صناديق التقاعد، صناديق التعاضد، مؤسسات الإيداع الجماعي، شركات التامين، شركات الإقلاع السريع، خبراء المضاربة، ومن هؤلاء أيضاً وكالات تقييم الاستثمارات.

ففي مدينة نيويورك وفي الشارع رقم 99 تقيم إحدى هذه الوكالات وتدعى"Moodys Investor Service"وهي تعتبر من أكبر المؤسسات العملاقة تأثيراً في أسواق المال، ويعمل لديها وبرواتب مغرية 300 محلل، وعلى أعلى بوابة الوكالة هناك لافتة تقول :

" القرض هو عصب الحياة بالنسبة إلى نظام التجارة الحر، فمشاركته في زيادة ثروة الأمم فاقت مشاركة مجمل مناجم الذهب في العالم كله بأكثر من ألف مرة ".

وفي تلك الوكالة لا يجوز للزائر مهما كانت منزلته، الدخول إلى مكاتب العاملين، حيث المقابلات والمفاوضات تتم داخل صالات الاجتماعات الفخمة . وتقوم هذه الوكالة بتقييم الأمم وتصنيفها وفقاً للملائمات المالية في جميع دول العالم دون استثناء. وتكمن الخطورة في هذا التقييم من جانب استخدامه من قبل المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار والمصارف، فتجنباً للمخاطر ستطالب تلك المؤسسات بفائدة ذات مستوى أعلى على سندات الدين الحكومي في حال كان تصنيف الوكالة سيئ. والشركات التجارية العملاقة تأخذ بعين الاعتبار هذا التقييم عند الاستثمار في أية دولة.

وفي حال وجهت إحدى الدول دعوة للوكالة لزيارتها للاطلاع على الوضع المالي فإن الوكالة تشترط أن يسافر اثنان من عامليها فقط منعاً للرشوة. كما أن الوكالة تجبر موظفيها الماليين على تقديم كشوف شهرية باستثماراتهم الخاصة منعاً من استغلال المحللين للمعلومات التي بحوزتهم والتي لم تنشر بعد.

وهذه الوكالات لا تعطي أهمية إلى أية ضغوطات حكومية، إنها تراعي فقط مصلحة المستثمرين، ولا شأن لها بالسياسة. 

ولكن هل يمكن فصل النتائج المعلنة لتلك الوكالات عن أي طابع سياسي؟ 

فالشركات تستطيع من خلال الضغط على الحكومات والتأثير في سياستها التوقف عن شراء سندات الحكومة أو الاستثمار في أسواق تلك الدول جراء تقييم تلك الوكلات. ناهيك عن دور هذه الوكلات عبر الوطنية المؤثر جداً في قطاع تصنيف وتحليل الدول والشركات على الصعيد المالي والاقتصادي.

ومن هذه الوكالات مثلاً شركة FutureBrand الرائدة في مجال التخطيط الاستراتيجي لتطوير الأسماء التجارية، ومنها تصنيف الدول على اعتبارها علامة تجارية وهذه الشركة هي المؤسسة المتخصصة عالمياً في مجال الاستشارات للعلامات التجارية، وتمتلك فروعاً  في أكثر من 20 مدينة في مختلف أنحاء العالم، ووسعت نشاطها ليشمل التقارير المتخصصة في تقييم القطاع العقاري في العالم. وهذه الشركة لها تأثير سياسي واقتصادي نتيجة الدراسات والتضنيفات التي تصدر عنها وتعتبر بمثابة مؤشر لوضع تلك الدول.

فهي تصنف الدول على أساس الوجهة الأولى للسفر وتصنفها أيضاً على اعتبارها علامة تجارية. وهذه التصنيفات تعتبر بمثابة مؤشر لوضع الدول الاقتصادي وآفاقه التسويقية، كذلك يوجد وكالات تصنف الشركات عبر الوطنية نفسها إذ تصنف هذه الوكلات الشركات على كافة المستويات مما ينتج تأثيراً على واقع الشركة في مختلف المجالات. ومن أهم هذه الشركات مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد اند بورز. وهنالك الكثير من تلك الوكالات والتي تقوم بعمليات تقييم وتصنيف لقدرة الكثير من القطاعات كتصنيف الجامعات أو المصارف ....الخ.

فما هي تلك السلطة الجديدة سلطة الوكالات العالمية لتقييم الاستثمار والشركات ؟ ومن أين تستمد تلك المؤسسات سلطاتها؟ وهل بالإمكان اعتبار تلك المؤسسات أداةً تسهّل تحرك الشركات عبر الوطنية؟ وما هي طبيعتها هل هي مؤسسات عامة أم خاصة؟. وما هي طبيعة العلاقة بين سياسات تلك المؤسسات والسياسات العامة ؟ وهل هناك مخاطر سياسية لمثل هذه السياسات؟

من الأهمية النظر إلى تلك الوكالات من زاويتين: 

الأولى : تأثير نشاط  تلك الوكالات والمؤسسات على السياسات العامة.

الثانية : من زاوية التركيز على هذه المؤسسات كأدوات تقييم ومراقبة.

إن لهذه المؤسسات من خلال تقييمها تأثيراً على القروض والفوائد، كما يمكن لها أن تؤثر في الانتخابات الحكومية، ففي كندا وعندما انخفضت قيمة الدولار الكندي عام1995حاول رئيس الوزارء الكندي انذاك Jean Chretion   التصدي لهروب رؤوس الأموال من خلال موازنة جديدة تضمنت تخفيضاً في الإنفاق، وقبل أن تتم مناقشة تلك الموازنة في البرلمان أعلنت مؤسسة Moodys أن قدر التخفيض في الموازنة غير كافٍ وأن المؤسسة تدرس احتمال خفض تصنيفها للسندات الكندية، مما دفع رئيس المعارضة الكندية إلى اتهام رئيس الوزراء بانتهاج سياسة مالية فاشلة أعتماداً على تقرير الوكالة.

والسويد من تلك الدول التي عانت في هذا المضمار، ولقد حاولت الحكومة السويدية مواجهة هذه المشكلة، وعملت على تخفيض الضرائب على الدخول المرتفعة، على الرغم من خروج الكثير من المصانع ورؤوس الأموال للخارج مما تسبب بنقص إيرادات الدولة وارتفاع العجز وتخفيض التقديمات الاجتماعية، وقد اقترح رئيس الوزراء السويدي السابق جوران برسونGaoran Perrson اثناء الحملات الانتخابية آنذاك زيادة ما يحصل عليه العاطلون عن العمل والمرضى كما كان في السابق. وبعد فترة وجيزة من هذا الاقتراح أعلنت وكالة Moodys في تقرير عالمي يؤكد أن برامج الإصلاح المالي السويدي لا تزال غير كافية، ونتيجة لهذا التقرير انخفضت أسعار السندات السويدية آنذاك 30 نقطة والاسهم 100 نقطة، وأخذ سعر الكرونة السويدي بالانخفاض.

إن أفضل توصيف لهذا الواقع قد يكون بما ورد في صحيفة "New york time" في أحدى الأيام من تعليق بقولها "the man from Moodys rules the world" رجل موديز يدير العالم.

لقد باتت حرية حركة الرساميل كاملة وبصورة حاسمة بالنسبة للتقنيات وأكثر اتساعاً بالنسبة للسلع والخدمات، إنها ظاهرة ذات قدرة غير محددة . وعلى الرغم من انفصال الاقتصاد الإنتاجي عن الأسواق المالية وحدوث بعض الانهيارات _ ومنها ما حدث لبريطانيا في بداية التسعينات على يد المضارب المالي جورج سورس الذي جعل الجنيه البريطاني يفقد12% من قيمته خلال يومين فقط _ فقد أصبحت الدول تراقب المشهد وأصبح اللاعبون الكبار يملكون زمام المبادرة، وهم قادرون على جعل المصارف المركزية تتحول إلى مراقِبة للمشهد تحت طائلة فقدان كتلتها النقدية إذ إننا أمام تيار بعمق التيارات البحرية وزخمها.

وبفعل حرية انتقال الرساميل أصبحنا أمام حالة ميكانيكية ذات سيولة مذهلة حيث لم يعد هناك مَن يعتقد فعلاً بإمكانية اختراع نظام قادر على الثبات عند المضاربات سواء كانت مضاربات على العملات أو الأسهم، أو السلع.

كما أن حدوث الازمة المالية العالمية 2008 تؤكد طرح إشكالية مدى مصداقيه التصنيفات التي تطلقها هذه الوكالات ومدى انعكاسها على المصالح العامة ؟ فبعض التساؤلات مطروحة فيما يتعلق ببعض الوكالات والمؤسسات الدولية التي تحدّد جدارة الإقراض وتعمل على تنظيم الأسواق المالية بما فيها عمل البورصات المالية.

ومن الواضح أن ممارسات تحديد المعايير هي جزء جوهري من نظام السوق الحر وهي تقرر مصير الفاعلين الاقتصاديين بطريقة تمنح سلطة سياسية فعلية. وعلى الرغم من أهمية العمليات التي تقوم بها تلك المؤسسات والوكالات والتي تعتبر أهم جانب من جوانب العولمة والتدويل.

ولكن ألا يحق التساؤل عن ماهيّة هذه الوكالات على وجه الدقة:

هل هي منظمات تدّعي لنفسها وتمارس سلطة عامة حكومية، في حين أنها ليست خاصة بالكامل وليست عامة بالكامل؟ 

هل هي جزء من التغيير في النظام العالمي؟ 

هل هي أداة أو جزء من منظومة التحكّم الناشئة أم العكس؟ 

وهل يحق لنا الاعتقاد هنا بأنه يجب إعارة هذه المؤسسات والوكالات ـ أو هذه الحالة ـ الانتباه الأكبر من قبل الاقتصاديين والباحثين؟


2011-03-06

إشكاليات خطاب الشعوب العربية برغم ثورويتة الظاهرة وطوباويتة






سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية
منبر الحرية \ بالتعاون مع معهد كيتو 
الولايات المتحدة \ 5-3-2011

يجب طرح إشكالية المراهنة على الجماهير والشارع العربي طبعاً ليس من منطلق التقليل من أهمية هذه المظاهرات والتحركات، أو من نبل المشاعر التي تثيرها فهذا أضعف الإيمان. لكن ما يجب دراسته هو ضرورة كشف المسكوت عنه في الخطاب الجماهيري السائد، فمن خلال تفحص التجارب العربية  يمكن ملاحظة أن معظم الخطاب العربي الجماهيري تاريخياً كان مراوغ ويتواطأ مع علاقات السيطرة في الواقع السياسي . حيث كان يتم السكوت عن واقع المجتمع اليومي بإدعاء إعلاء شأن القضايا القومية والخارجية حيث لا تبدو الشعوب على شكل مجتمعات أو مواطنين أحراراً، وإنما مجرد أفراد وكتل عشوائية بينما يبدو الشارع مجرد ساحة وبديلاً للإطارات وللتوسطات السياسية، وللتمثيلات الشعبية وللبرلمانات وفي هذا وذاك تحل التحركات الشعبية محل المشاركة السياسية .
فخطاب الجماهير العربية برغم ثورويتة الظاهرة وطوباويتة، كان يسكت عن حال تغييب المجتمعات ويقصر عن الإجابة عن أسباب عجزها وضعف وعيها لذاتها ولدورها. فهذا الشارع لم يرغب في الذهاب إلى البحث في أسباب قصور التحركات الجماهيرية وأسباب تغييب المجتمعات العربية المستمر.لأن الذهاب للبحث في هكذا مواضع ملحة سيوصلنا إلى
السؤال الاستراتيجي : عن معنى غلبة علاقات السلطة على الدولة في النظام العربي، وإلى واقع إحلال وسائل القوة والسيطرة، محل علاقات المشاركة والتداول والتمثيل ؟
إذ في التفاصيل لا بد من الاعتراف بأن خطاب الجماهير كان يتعامل مع القضايا أكثر من تعامله مع البشر وحاجاتهم. فبقاء خطاب الجماهير أسير اللحظات التاريخية، يؤكد عدم نضج الواقع العربير ويدلل على واقع السياسة في بلادنا. وعلى الرغم من النكسات والهزائم والإخفاقات العربية السابقة، فإن مراكز صنع القرار ومراكز الأبحاث في البلدان العربية، كانت وما تزال  تفتقد لأي نوع من الأبحاث والمراجعات الناجمة عن ذلك، لاستنتاج الدروس والعبر منها. ففي إسرائيل ذات الخطر الاستراتيجي على العالم العربي والمستحضرة دائماً في المقارنات، توجد لديها عشرات مراكز البحث والدراسات ولجان تحقيق يشارك فيها مسؤولون وخبراء عسكريون وقانونيون، ومفكرون، تمد صناع القرار الإسرائيلي بالتوجهات والنصائح ولائحة الاحتمالات والخيارات، هكذا هي حال تقارير لجنة "أغرانات" بعد حرب 1973 ولجنة "كاهانا" 1982 وأخيراً لجنة "فينوغراد" بعد حرب تموز وكثير من اللجان الفرعية والمختلفة.
ولكن من الملفت للنظر والمستغرب، أن الكثير من العرب يستشهدون بهذه اللجان من دون أن يتساءلوا أين هي لجاننا وتحقيقاتنا ومراجعتنا ودراساتنا في هزائمنا أو حتى عند انتصاراتنا ؟؟؟؟؟
المسألة إذاً قد تكون في الخيارات والواقع السياسي وليس في أي شيء آخر. وبهذا الصدد، فإن كان أحد أوجه ميزان القوى ممثلاً لمصلحة السلطات العربية، فإن وجهه الآخر حالياً ليس كذلك، وعدم الاستفادة من ذلك الواقع، هو بمثابة ورطة إستراتيجية ستؤدي إلى إعادة إدامة الاختلال في ميزان القوى لصالح مبدأ السلطة على حساب مبادئ الدولة والتمثيل والمشاركة. وإلى الاتجاه نحو آفاق غير محسوبة وغير قابلة للضبط، يكون الخاسر الوحيد فيها في المحصلة شعوب الأمة العربية بأسرها وعلى كافة المستويات.
منتهى القول أن واقع الثورات العربية الحالية يعبر ويوضح  أن النظام العربي كان مريض وغير قادر على المتابعة والإبداع لا في فضائه الإقليمي ولا في باحته الداخلية. لهذا يصح توقع مآسي أكثر ترويعاً، إن لم يبادر هذا العالم العربي الرحب إلى تغييرات جوهرية في بنيانه، حيث أن إعادة التقويم تتطلب آلية شاملة تتناول تقويم الحالة السياسية والفكرية والاقتصادية والمعايير السياسية، وطرائق التفكير العربية.
أن هذه الإعادة مطلوبة بشكل عاجل، كل هذا في وقت قد تدفع فيه الشعوب العربية أكلافاً باهضة. فما تكشفه المواجهة من معطيات تؤكد ارتباط عموم الناس في المنطقة العربية بالحرية والمساواة، وذلك رغم سنوات الضباب والشك، فعملية النهوض العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت متعثرة إلى حد تم تحويلها إلى سيرورة خديعة وإخضاع، والصراع على السلطة كان فوق الحد القابل للتجاهل، في ظل واقع عالمي كانت تنتابه دائماً الازدواجية والاضطرابات في المفاهيم والإستراتيجيات. 
وتكشف تلك الثورات الحاصلة حالياً في المنطقة العربية عن تطور وعي الشارع السياسي والشعبي في العالم العربي، وتفاعلة مع  مفاهيم الحرية والديمقراطية. فلقد خسرت الشعوب العربية كثيراً في صراع الحكم والسلطة. والمعضلة، أن سبب هذه الخسارة لم يكن فقط بسبب ضعفهم أو بسبب رجحان ميزان القوى لصالح السلطة والأنظمة الرسمية، وليس بسبب عدم ملائمة الأوضاع الدولية والإقليمية لتطلعاتهم ومتطلباتهم المشروعة فحسب. وإنما بسبب فوضاهم وتخلف إدارتهم لأوضاعهم، وانقساماتهم وغياب إستراتيجية واضحة لهم تتأسس على الواقعية والعقلانية .
وجاءت الثورات والاحتجاجات المتسارعة وأن بوتيرة مختلفة في كل من : تونس،مصر ،ليبيا،البحرين، اليمن،الأردن،المغرب،الجزائر....الخ لتعطي بارقة أمل نحو المواجهة السليمة مع دوائر السلطة. وذلك العمل يتطلب من أجل ديمومتة على الشعوب العربية، اعتماد التخطيط والرؤية الواضحة. وقد تكون أولى النتائج المرجوه من هذه الثورات، هو تطوير الفكر والممارسة لدى تلك الشعوب قبل النخب والقيادات.

For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com