سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية
صحيفة المتوسط اونلاين
31-10-2010
بات مصطلح " العولمة " أو " الكوننة" ، من المفردات الأكثر شيوعاً في أواخر التسعينات ، لكنه بداً بالظهور منذ أواسط الستينات بفضل مؤلفين شهيرين هما : مارشال مال لوهان وكنتن فيور ، بالإضافة إلى الكاتب زيغنينو بريجنسي. ويبدو أن صياغة تعريف للعولمة مسألة شاقة وذلك بسبب تعدد التعريفات لهذا المفهوم ، حيث يتأثر الباحثين غالباً بموقفهم المسبق من العولمة ، فمنهم من يؤيد ، ومنهم من يرفض العولمة. وعلى الرغم من كل أثار العولمة التي تظهر في الأفق إلا أن موضوعها لا يزال صعب التحديد، ويصعب وضعه في إطار منهجي محدد ، فالعولمة عملية تاريخية تحاول أطراف مختلفة أن تدفع بها إلى طرق مختلفة وإن كانت ترمي في النهاية إلى هدف واحد .
والعولمة في مفهومها العام كما تدل الصياغة اللغوية ، تشير إلى عملية مستمرة من التحول والتغيير ، فعندما نقول عولمة النظام الاقتصادي أو عولمة النظم السياسية ، أو عولمة الثقافة ، فإن ذلك يعني تحول كل منها من الإطار القومي ليندمج ويتكامل مع النظم الأخرى في إطار عالمي . والعولمة كمفهوم متطور، ينظر لها على انها اتجاه متنام يصبح معه العالم دائرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية واحدة ، تتلاشى في داخلها الحدود بين الدول.
والعولمة يدافع عنها البعض ويهاجمها البعض الآخر، حيث يرى منهم أنها : تبشر بوعود مشرقة للجميع وهناك من يعتبرها الوجه الآخر للهيمنة الامبريالية على العالم ، تحت الزعامة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية. وهي حركة جهنيمية تنطلق بسرعة وتخطف في طريقها الآمال والآحلام. ولقد استخدم مفهوم العولمة للتعبير عن اقتصاد السوق، بعد فشل تجربة الأنظمة الاشتراكية واعتبار اقتصاد السوق هو المنتصر النهائي، مما جعل البعض يتكلم عن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا والجغرافيا السياسية.
وهناك وجهة نظر تقول بأن العولمة هي عملية الدخول بسبب تطور الثورة المعلوماتية والتقنية والاقتصادية معاً، في طور التطور الحضاري ، يصبح فيه مصير الإنسانية موحداً أو نازعاً للتوحد. إذ يرى جيمس روزناو أحد علماء السياسة الأمريكية، بأن العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحاليل الاقتصادية والسياسية والثقافية والأيديولوجية .
لا شك أن المفهوم الفكري للعولمة لم يتبلور ويستقر بعد ، وهذا راجع إلى أسباب متبانية عدة منها الخضوع إلى منهج ذاتي في التحليل، ورغبة في تزكية مسلمات أيديولوجية معينة وإغفال أو غض النظر عن معطيات ووقائع جديدة أهمها العملية التطورية العالمية ، ويقصد بذلك التقدم العلمي والتقني العاصف والسريع .
وعلى الرغم من أن عملية العولمة قد ضربت جذورها في الأعماق ، إلا أنها لا تزال غير واضحة المعالم ، لا من حيث تحديد مفهوم الظاهرة أو من حيث اختيارها على أرض الواقع . وتاريخياً تعتبر العولمة ليست ظاهرة جديدة ، بل أن بداياتها الأولى ترجع إلى نهاية القرن السادس عشر، مع بدء عملية الاستعمار الغربي لآسيا وأفريقيا والأمريكيتين. ثم اقترنت بتطور النظام التجاري الحديث في أوروبا، الآمر الذي أدى إلى ولادة نظام عالمي متشابك ومعقد عرف بالعالمية ثم العولمة بعد ذلك.
يتضح من ذلك أن ظاهرة العولمة ليست وليدة هذا العصر الحاضر، وانما هي ظاهرة ذات أصول تاريخية وربما تيارات تاريخية يمكن أن تدرس بشكل واضح ملموس . وأذا كانت العولمة ظاهرة ذات أصول تاريخية، فهذا يحتم علينا أن نلجأ إلى تحقيب التاريخ بأعتباره المنهج الذي يمكننا من وضع هذه الظاهرة في سياقها التاريخي . وفي هذا الإطار، يمكن الاشاره إلى عدد من ألاحداث الرئيسية التي مهدت للعولمة ونذكرها على سبيل الذكر وليس الحصر:
عام 1866 أول خدمة دولية للتلغراف عبر المحيطات .عام 1884 إدخال نظام التنسيق على مستوى العالم للساعات وفقاً لتوقيت غرينش.عام 1891 أول نظام للاتصال التلفوني بين لندن وباريس .عام 1920 أول إذاعة بالراديو من محطة :"K.D.K,A " الأمريكية .عام 1929 أول نظام لانتقال الأموال عبر الحدود الدولية دون ضرائب في لوكسمبورغ .عام 1930 ربط بين 242 محطة عبر ست قارات في آن واحد .عام 1949 إدخال نظام العطلات المترابطة ، الذي شجع السياحة العالمية على نطاق واسع .عام 1957 عصر القذائف البلاستيكية العابرة للقارات.عام 1957 إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي .عام 1962 بدء أول اتصالات دولية بالآقمار الصناعية .عام 1969 أول طائرة نفاثة واسعة الحجم من طراز بوينغ 727 .عام 1971 إنشاء أول نظام إلكتروني لأسعار صرف الأوراق المالية .عام 1972 أول مؤتمر دولي للتنمية البشرية .عام 1974 الحكومة الأمريكية تزيل القيود على أسعار صرف العملات الأجنبية .عام 1976 بدأ أول بث مباشر بالأقمار الصناعية (الستالايت) .عام 1977 إتمام ربط كامل للأنسجة البصرية حول العالم الأمر الذي سهل عملية استخدام الوسائط المتعددة والمحمولة وغيرها .عام 1994 اتفاقية منظمة التجارة العالمية بدلاً من GATT.
يمكن القول أن للعولمة تاريخاً قديماً وليست فقط نتاج العقود الماضية، التي ازدهر فيها مفهوم العولمة وذاع وانتشر، وأصبح أحد المفاهيم الرئيسية لتحليل الكثير من الظواهر المتعددة ، ولعل مما جعل العولمة تبرز آثارها في هذه المرحلة التاريخية، هو تعمق آثار الثورة العلمية والثقافية من جانب، والتطورات الكبرى التي حصلت في عالم الاتصال والتكنولوجيا من جانب آخر .إذ إن تسارع تكنولوجيا الاتصال أدى إلى تطور واتساع مفهوم العولمة التي أصبحت الآن السمة المميزة للتاريخ المعاصر وغدت كما لو كانت تياراً متدفقاً يسري في أوصال هذا العالم .