‏إظهار الرسائل ذات التسميات جائحة كوفيد-19. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات جائحة كوفيد-19. إظهار كافة الرسائل

2022-01-23

نسق الإشكاليات الأخلاقية في السياسة العالمية

 


د.سلام الربضي \ مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

الميادين.نت 10 كانون الأول 2021 \ بيروت

تزداد التعقيدات والتساؤلات حول الجدليات الفلسفية المرتبطة بمنظومة القيم المعيارية التي يجب تبنيها في السياسة العالمية، وذلك إنطلاقاً من زخم نسق تداعيات الاعتراف بالمبادئ الأخلاقية على مستوى الاتجاهات التي تتمحور حول :

 1-     ايديولوجية التنمية المستدامة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

2-     تداعيات ظاهرة الإرهاب وصراع الحضارات.

3-     معضلات الذكاء الاصطناعي.

4-     تجليات الأمن السيبراني.

5-     مستجدات الهندسة الوراثية والثورة البيوتقنية.

6-     تنامي النزعة الحمائية التجارية والقومية الاقتصادية.

7-     تحديات المسألة البيئية وتغير المناخ.

8-     علامات الاستفهام المرتبطة بجائحة "كوفيد_19" على كافة المستويات.

 منطقياً، هذه الاتجاهات تأتي في إطار تأكيد الحاجة على أهمية احتواء العلاقات الدولية على العنصر المعياري. ولكن، للأسف الشديد ما زالت محاولة دراسة معايير السلوك الأخلاقية التي يجب على الدول أن تتبناها قضية لا قيمة لها في الوقت الراهن. إذ أن الدراسات الأكاديمية في العلاقات الدولية المتخصصة بالفلسفة وعلم الأخلاق لا تزال حالياً (إلى حد ما) نادرة ومخيبة للآمال أو تخضع لأنماط فكرية تقليدية مستمدة من السرد الثيوقراطي(الديني) أو السرد الأدبي الفلسفي. 

كما أن معايير السلوك السياسي في ظل التحولات الاقتصادية والثقافية الحديثة لم تعد ترتكز على الأطر والمبادئ القانونية والفلسفية، بل ترتكز على مبدأ "إن كل شيء مسموح به، ما لم يكن ممنوعاً بشكل واضح ومباشر. حيث أصبحت لغة السوق، تتسرب إلى كل مفاهيم ومعايير الفكر السياسي، وتشكل تحدي أساسي للقيم الثقافية والإنسانية. وهكذا، يتضح مدى ابتعاد منظومة القيم عن جوهر المعايير الأخلاقية. وهذا الواقع يطرح معضلة مدى إمكانية تأسيس علم أخلاق قادر على استنباط منظومة قيم(سياسية واقتصادية وتكنولوجية) جديدة، وفيما إذا كانت تلك المنظومة ستبقى مرهونه بالتساؤلات التالية:

-   ما هي المعايير التي تُنتج القيم وما إذا كانت أخلاقية أم لا؟  وما هي الجهات المناط بها تقرير ذلك: العُرف المجتمعي أم القانون أم السياسة أم العلم أم الواقع الثقافي؟

-         ماهي الأنماط العقلانية التي يمكن الاعتماد عليها من أجل تحديد مبدأ أخلاقي يمكن للجميع الالتزام به؟ وما هي المعايير العقلانية التي تحكم العلاقة بين الواقع السياسي والفكر الأخلاقي؟

-         ما هي مضامين المعرفة العلمية التي يمكن الاعتماد عليها من أجل تحديد المبادئ الأخلاقية؟

-         هل يجب الاكتفاء بمدونات السلوك الحالية أم يجب تأسيس ميثاق أخلاقي عالمي جديد؟

 ما زال من المبكر جداً تقديم إجابات واضحة لهذه التساؤلات في ظل الواقع الفكري الحالي. كما أن تلك التساؤلات المرتبطة بما يمكن تسميته "علم ما فوق الأخلاق"، ربما تسقطنا في فخ دوامة علم المنطق(الإبستومولوجيا Epistemology) إذ أنَّ الإجابة عن تلك الأسئلة أصعب بكثير ممّا قد يتخيله المرء. إذا أنها ستنقلنا إلى أبعد مدىً يُمكن الوصول له على مستوى تحديد طبيعة المعرفة وفهم ماهيتها، ناهيك عن كيفية استخدام العقل والحواس في البحث النقدي في الأفكار السياسية وموضوعاتها وفرضيّاتها ونتائجها وقوانينها، بغية إبراز منطقها وقيمتها الموضوعيّة. وبالتالي تلك التساؤلات، خاصة بالفكر السياسي لعالم ما بعد الإنسانية وما يحتوي من فلسفة علمية نقدية جديدة، وليس للفكر الكلاسيكي المرتهن لعالم الثيولوجيات(Theology) .

 وفي هذا السياق، إذا كانت المعايير الأخلاقية هي عباره عن إشكاليات مبهمة ذات طابع فلسفي وتمثل قضايا عويصة، ولكن مع ذلك ينبغي الاعتراف بمدى أهميتها الجوهرية. حيث تبقى عنصر أساسي في فهم وتقييم السياسات والعلاقات بين الدول والمجتمعات والأفراد. وعليه، هنالك حاجة ماسة لوجود نسق نقدي سياسي وثقافي يرتكز على دراسة الفكر الأخلاقي(الذي لا غنى عنه في السياسة العالمية) من أجل إيجاد مقاربات منطقية لكثير من التحديات والصعوبات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والبيئية(الحالية والمستقبلية)، بما في ذلك: 

1-  وضع قواعد أخلاقية لتقييم التطورات العلمية.

2-   مواجهة التداعيات السياسية والثقافية شديدة التعقيد المصاحبة لثورة الذكاء الاصطناعي.

3-  اكتشاف العلاقة الجدلية بين الإنسان والبيئة.

4-  تحديد المعايير التي تحكم العلاقة بين العلم والسياسة والمعرفة.

 في المحصلة، وبغض النظر من ذلك النسق القائم على المقاربات النقدية ذات المنبت الفلسفي التي لا يمكن الجواب عليها بسهولة، يجب التأكيد على أنها تبقى ضرورة ملحة لفهم وتأطير الإشكاليات الحديثة في عالم العلاقات الدولية المضطرب. فالقضايا المعاصرة تعبر عن نسق فكري جديد، والمطلوب إيجاد فلسفة أخلاقية من منظور إنساني بحت غير المنظور التقليدي  القائم على العقلانية في العلاقات الدولية. إذ ليس بالضرورة على سبيل المثال أن تؤدي أدبيات العقلانية المرتكزة على الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، إلى تحقيق السلام والاستقرار العالمي، بل قد تقود إلى زيادة انتشار الأسلحة النووية والتلوث البيئي والإرهاب..الخ.

 منطقياً، ستبقى المسألة الأخلاقية مصدر جدل فلسفي، سياسي، قانوني، اقتصادي، ثقافي، على مستوى المفاهيم والأساليب والأدوات والتنفيذ. وبالتالي، ربما تكون منهجية المقاربة الفلسفية الأخلاقية قادرة على ردم الهوة الموجودة بين مختلف العلوم بالإضافة الى إيجاد رؤى متعددة الأبعاد تمكننا من تكوين النظريات وتحديد المفاهيم والمصطلحات، والتي أصبحت اليوم ثروة بحد ذاتها في عصر بات يقوم على المعرفة. وفي هذا الإطار ومن أجل فهم وتأويل ومقاربة نسق المتغيرات والتحديات العالمية، هنالك حاجة إلى: 

1-     عدم الاعتماد على الأدوات التنظيرية الكلاسيكية لفهم وتأطير التحولات المتجددة.

2-     التعامل مع المعرفة على أنَّها سيرورة ديناميكيَّة بلا نهاية أو حدود أو محرمات.

3-     اعطاء اهتمام أكبر بما هو ثقافي في مقابل ما هو اقتصادي وسياسي محض.

4-     صياغة نسق جديد في تحليل وتفسير العلاقات الدولية وتعقيداتها الأخلاقية.

 على نور ما تقدم، وانطلاقاً من الإقرار بواقع غياب القيم المعيارية وانتشار التيارات الفكرية القائمة على طروحات نهاية الأخلاق أو موتها، يمكن القول إن الفكر السياسي (في عصر ما بعد الحقيقة وعصر ما بعد الإنسانية) لم يعد قادر على شرح نفسه أو تحديد وجهته. وبالتالي هذا حتماً يتطلب طرح كثير من علامات الاستفهام السياسية حول الأولويات المرتبطة بي : 

-         إشكالية التضاد والتصادم الوشيك بين التكنولوجيا والإنسانية التي لا محالة قادمة، خاصة على مستوى كل التطورات المرتبطة يالذكاء الاصطناعي. 

-         جدلية المعايير الأخلاقية التي يمكن من خلالها تحديد الأولويات خاصة في ظل الصراع الحاصل بين جموح التطور التكنولوجي وأنسنة العلاقات الدولية.

 بكل تأكيد تحديد هذه الأولويات يتطلب بالدرجة الأولى مناقشة حيثيات اختلاف المعايير باختلاف طبيعة المجتمع والثقافة والفاعلين، ناهيك عن حيثيات بقاء علم الأخلاق ميداناً للصراع بين العلم والفلسفة. وربما أولى تلك الأولويات تكمن في أهمية التزام العلماء(أي العلم) حدود الحقائق المادية، وترك مهمة إرساء القيم المعنوية وتحليلها للفلاسفة والمفكرين(أي الفلسفة والفكر).


2021-09-28

الحوكمة المستدامة ومكانة الدولة: إشكالية التناقض في تطوّر الاقتصاد والسياسة

 



د. سلام الربضي

من الواضح أنَّ الكثير من التطورات المتعلقة بجائحة "كوفيد - 19" أدى إلى تغيير المعطيات والحقائق الاقتصادية والسياسية المرتبطة بجدليات مكانة الدولة والحوكمة المستدامة ودور الأفراد، وهي القضايا التي تتمحور في مجملها حول جدلية التناقض الأساسي بين عالمية الاقتصاد من ناحية، وقومية السياسة من ناحية أخرى، والتي يمكن التعبير عنها بالتساؤل الإشكالي التالي: 

ما مدى إمكانية الحفاظ على مكانة الدولة ووظائفها؟ وما مدى إمكانية تحقيق الحوكمة المستدامة؟

من حيث المبدأ، يمكن القول إنَّ من أكثر المعضلات التي تحول دون الوصول إلى الحوكمة المستدامة، ما زالت مرتبطة بدرجة كبيرة بإشكالية التناقض في تطور الاقتصاد والسياسة، فالاقتصاد تقنياً (إلى حد ما) يتجه دائماً نحو العالمية. أما السياسة، فهي لا تزال تمارس (في الدرجة الأولى) محلياً أو قومياً. 

وهنا، منطقياً، تنفصل العلاقة بين السلطة والمسؤولية والمساءلة، بحيث نجد أنَّ هناك سلطة اقتصادية عالمية مقابل مسؤولية سياسية وطنية محلية يتركَّز فيها استخدام السلطة. هذا التناقض حتماً يعوق بدوره إمكانية الدولة وفعاليتها في القيام بوظائفها، ويحول دون ترسيخ مبادئ الحوكمة المستدامة على كل المستويات. 

وبالتالي، من أجل التوفيق بين تناقضات السياسة والاقتصاد، فإنَّ نقطة التوازن بينهما يجب أن تكون قائمة على ما يُعرف بالحوكمة المستدامة، والتي ترتكز على مبدأ الترابط بين المفاهيم السياسة والاقتصادية من جهة، ومبادئ الشفافية والمساءلة من جهة أخرى.

وانطلاقاً من ذلك، يستطيع الفرد (كمواطن ومستهلك) أن يرجّح كفة الميزان لمصلحة تحقيق التوازن المفقود على صعيد الحوكمة المستدامة، إذ إنَّ كلاً من القوى السياسية والاقتصادية تحاول استمالة الأفراد إلى جانبها، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، فالفرد هو من جهة ناخب سياسي، ومن جهة أخرى مستهلك اقتصادي. 

في المجال الاقتصادي، وعلى الرغم من غياب المساواة وعدم عدالة التوزيع، فإنَّ الفرد المستهلك لا يزال يمسك بزمام المبادرة على المستوى الاقتصادي، انطلاقاً من كونه أساس القوى التجارية وهدفها ومرجعها. إضافةً إلى ذلك، الفرد المواطن هو أساس السلطة السياسية، وفقاً لمبادئ العملية الديمقراطية والتصويت الانتخابي، إذ ما زال له تأثير كبير على صعيد تحديد التوجهات السياسية. 

وبناءً على ذلك، على الأفراد (الذين ترتكز عليهم النظم السياسية والاقتصادية) تحمّل المسؤولية والانخراط في عملية خلق ذلك التأثير والضغط لمواجهة احتكارات وسيطرة النخب الرأسمالية والأمنية والسياسية والإعلامية، وحتى الأكاديمية، لكي يكونوا الدعامة الأساسية في تحقيق سياسات المساءلة والشفافية، والتي تركز عليها الحوكمة المستدامة. 

لا يجب أن تقتصر سياسات الحوكمة على الإصلاحات الهيكلية أو الاحتجاج في الشوارع أو الاعتراض في صناديق الاقتراع، بل لا بدَّ من دعم ديمومتها وصيرورتها عن طريق مساءلة قوى الاحتكار مباشرة، من خلال ثقافة الاستهلاك، إذ إنَّ إنفاق المال أو توفيره قد يؤدي إلى الغايات المرجوّة. وقد يكون هذا المنطق أو الاتجاه من العمل المباشر أفضل وأنجع من الأشكال التقليدية في التعبير السياسي والاقتصادي. 

في ظلِّ محاولة الأسواق العالمية التملّص من قواعد المحاسبة وقيودها، يظهر دور الفرد (المستهلك) كقوةٍ لا يستهان بها. منطقياً، لم يعد بالإمكان تجاهل أنَّ الأفراد في جميع أنحاء العالم يتّجهون حالياً نحو التسوّق السياسي أكثر من الاتجاه نحو التصويت الانتخابي، فالمشاركة في عملية المقاطعة الاستهلاكية والاتجاه نحو التسوّق السياسي هما مؤشر إيجابي يدلّ على أنَّ نشاط الفرد (كمواطن ومستهلك) بدأ يصبّ في الاتجاه الصحيح، إذ بات واضحاً أنَّ النفوذ المتزايد للقوى الاقتصادية وما يقابلها من إرادة سياسية غير حاسمة ينتج إدراكاً متزايداً بأنَّ التسوّق السياسي صيغة أكثر فعالية على صعيد إيجاد حوكمة فعلية وعملية. 

يبدو أنَّ ثقافة التسوق السياسي للأفراد بدأت تحلّ مكان المواطنة التقليدية، على اعتبار أنها الأداة التي تمكّن الأفراد من فرض المساءلة وتصحيح السياسات العامة بشكل أكثر جدية؛ ففي ظلِّ الجشع المالي وعدم الاكتراث السياسي وغياب المسؤولية عند الكثير من النخب التكنوقراطية وقوى السوق، يستطيع الأفراد تحمّل المسؤولية والمبادرة عن طريق اعتماد سياسات التسوّق السياسي كاستراتيجية أو صيغة جديدة للحوكمة. 

عملياً، وفي حين أنَّ العقد الاجتماعي الذي يربط بين الشعوب والحكومات يزداد هشاشة، يبدو أنَّ ضغط الأفراد ونفوذهم بات يحدث أثراً في مواجهة قوى الاحتكار والفساد، والتي لا تستطيع الحكومات أو بعض المؤسَّسات العالميّة أن تأتي بمثله، والتي ربما تكون من الأساس غير راغبة فيه.

2021-05-02

"كوفيد-19" وإشكالية العلاقة بين الاقتصاد العالمي وسوق العمل

 


د. سلام الربضي


وفقاً لتقارير منظمة العمل الدولية،  تسبب وباء "كوفيد-19" في أضرار بالغة على قطاع العمل، حيث هنالك خسارة ما يزيد عن 250 مليون وظيفة، ناهيك عن تأثير الجائحة السلبي على صعيد إبطاء أو عكس اتجاه ارتفاع الأجور في جميع أنحاء العالم، مما أثّر على أصحاب الأجور المنخفضة،  بالإضافة إلى تفاقم عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء وازدياد معدل الفقر[1]. وبالتالي، يجب الاعتراف بحقيقة أن التطورات الاقتصادية الراهنة وسيرورة نمو التجارة الحرة، ما زالت تنمو بعيداً عن سوق العمل، وتترك تأثيراً سلبيياً على مستوى المساواة والعدالة الاجتماعية. وفي هذا الإطار، علينا أدراك حقيقة أن الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر على مستوى العلاقة بين التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، هي إشكالية  الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهذا يستوجب طرح التساؤل:


هل نحن نعيش في عصر الاقتصاد من أجل الاقتصاد وليس من أجل المجتمع؟


تبقى الحقائق المبنية على المصلحة العامة هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة. وعليه، بعيدًا عن التنظير ووفقًا للإحصاءات والبيانات الخاصة بالفجوة الاقتصادية وإذا أخذنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر من المواطنين هم عمال أو موظفون يعملون بأجر، يمكننا القول أن الاقتصاد لم يعد يعمل لصالح المجتمعات. حيث بات من الواضح، أن الفجوة بين أصحاب الثروات من ناحية ورواتب العمال من ناحية أخرى، تزيد الشكوك حول سلامة المجتمع. لذلك، إذا كانت حرية التجارة ورأس المال وتحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية القائمة على إلغاء القيود الكمية وجعل العالم منطقة تجارة حرة، هي التي تؤمن النمو والرفاهية، هنا يجب الاستفسار:


هل ستؤدي هذه السياسات والأهداف إلى تعميق أزمة سوق العمل؟ أم أنها ستكون نقطة تغيير وتحول إيجابي؟

 

لقد بات من المنطقي القول، أن هذه الأهداف بالدرجة الأولى زادت من حدة المنافسة بين الدول (سواء الصناعية أو النامية) والتي أدت إلى نتائج كارثية على مستوى ارتفاع معدلات خفض الأجور وتآكل قيمتها الشرائية، حيث أن كل الجهود المبذولة للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة، لم تحقق النتائج المرجوة. فكلما ازدادت وتيرة النمو التجاري، تزداد المصاعب على مستوى سوق العمل، حيث هناك تقليص وترشيد يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. وفي هذا السياق، لا بد من ملاحظة إنه لم يكن هنالك عولمة حقيقية فيما يتعلق بسوق العمل.


وانطلاقاً من ذلك، لم تؤدي كثير من السياسات المتبعة إلى زيادة الرفاهية، بل فاقمت من وتيرة جمود الوضع الاجتماعي والفجوة بين الأغنياء والفقراء. فعلى سبيل المثال، ينعكس الانخفاض في الأجور في أسعار السلع أيجابياً بالدرجة الأولى وبشكل مباشر على المستهلك الغني الذي لم يفقد شيئاً من دخله نتيجة خفض تكلفة الإنتاج. في المقابل، فإن الطبقات الدنيا هي التي تفقد جزء كبير من دخلها وتتأثر سلباً أكثر. وعليه، ووفقاً لتداعيات"كوفيد- 19" الاقتصادية، لا يمكن تجاهل البحث في معضلة:


من يتحمل الأعباء الاقتصادية أكثر: رأس المال أم العمال؟


بناءً على بديهيات السياسات الاقتصادية الحالية، يتضح أن الحكومات تزيد من الأعباء الضريبية على قطاع العمل، كما أن الإعفاءات والتسهيلات الضريبية التي تقدمها الحكومات للشركات عبر الوطنية، يؤدي إلى انخفاض إيرادات الدولة المالية التي سوف تعوضها عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى، أو عن طريق تقليص الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. وبالتالي يتضح أنه، إذا كانت المعادلة الاقتصادية والمالية السابقة، تعكس بشكل أكبر الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، والتي تركز على مبدأ: الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقر، ولكن الآن في ظل الحقائق والتطورات الجديدة، لم تعد هذه المعادلة كافية لتوضيح التغيرات، فهنالك صيغة أو معادلة جديدة ترتكز على مبدأ:


الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا بوتيرة أسرع؟


حيث أنه ليس من المستغرب على الإطلاق، معرفة أن هناك سرعة عالية في توفير الأموال من أجل إيجاد حل لأي أزمة مالية أو اقتصادية عالمية، مقارنة بحقيقة أن هناك حذراً شديداً (بل وبخلاً) عندما يتعلق الأمر بالتمويل الإنساني والبرامج المتعلقة بانتشال المجتمعات الأقل حظًا (المحرومة والمهمشة) من الفقر والعوز. فعلى سبيل المثال، هنالك حاجة فقط إلى عشرات المليارات سنوياً للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم بأسره( وقد أقرت الأمم المتحدة عدة برامج مختلفة لتحقيق هذا الهدف)، لكن هذه البرامج لا تزال على الورق فقط بسبب عدم توفر الأموال اللازمة.

 

إذ يجب إن ترتكز جميع الحلول الاقتصادية والسياسية  المرتبطة بتحديات بجائحة "كوفيد-19"، بالدرجة القصوى على إمكانية حماية ودعم كل السياسات المتعلقة بصون مصالح طبقة العمال والفقراء. إذ لا بد أن تكون القضية المركزية قائمة على الانتقاد المنطقي المتمثل بالوجود الفعلي والارتجاعي للفقر واللامساواة. وهذه الحقائق المأساوية وبعيداً عن الأبعاد الأيديولوجية في دراسة وتقييم الاقتصاد العالمي، تضعنا أمام التساؤل الاستراتيجي التالي:


هل المشكلة تكمن في الأولويات والخيارات الاستراتيجية للدول؟ أم تكمن في الإمكانيات الفعلية المتاحة للدول؟


خلاصة القول، إن إمكانية تحقيق نهضة فعلية تخفف من وطأة الفقر والعجز المادي تعتمد على نوع الفكر الاقتصادي الواجب اتباعه، فنحن بحاجة إلى رؤى جديدة تستجيب لاحتياجات وقدرات المجتمعات. وبالتالي، هذا يستوجب توجية النقد الفكري لكيفية التفاعل والتعامل مع مع الليبرالية الاقتصادية الحديثة، ذلك لأنه لم يعد من المنطقي والمقبول التعامل مع هذا الواقع على أسس أيديولوجية فقط (سواء كانت مع أو ضد) ، دون وجود برامج ومشاريع اقتصادية عملية، حيث بات من الضروري مواجهة جدلية أو إشكالية:


لماذا يوجد الكثير من الأفكار حول كيفية توزيع الدخل وليس حول كيفية توليد الدخل؟



[1]     See,"Covid-19" and the world of work:Updated estimates and analysis",Seventh edition, International Labour Organization Monitor(ILO), Geneva, January 2021. Look: https://www. ilo.org/wcmsp5/groups/public/@dgreports/@dcomm/documents/briefingnote/wcms_767028.pdf  Accessed on 04-25-2021.


2021-03-09

المرأة والفكر الفلسفيّ الذكوريّ

 


د. سلام الربضي: مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

 

الميادين. نت  

مع انتشار جائحة "كوفيد-19"، باتت كثير من المكاسب التي تحققت على مستوى المساواة معرضة للانتكاس. فهذه الجائحة تعمّق أوجه الخلل القائمة، وتكشف ما يشوب النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من مواطن ضعف،  وتزيد من تفاقم  معاناة النساء والفتيات لمجرد كونهن إناثاً. فعلى الرغم من التطور البطيء على مستوى نسق رفع وتيرة المساواة بين الجنسين، ولكن ما زلن النساء في جميع أنحاء العالم يواجهن قوانين وأنظمة تقيد وتعيق فرصهن الاقتصادية والاجتماعية. فوفقاً للتقارير العالمية يبدو أن جائحة "كوفيد 19" قد خلقت تحديات جديدة للنساء على مستوى صحتهن وسلامتهن وأمنهن الاقتصادي، إذ تتمتع النساء فقط بثلاثة أرباع الحقوق القانونية الممنوحة للرجال([1]).

 

ومن المؤكد عند محاولة تقييم تلك المعضلة ومقاربة واقع حقوق المرأة، لا بد من طرح التساؤلات التالية:


- إلى متى سوف يتم اتخاذ المرأة كدليل على التكامل الثقافي والأخلاقي للمجتمع؟

-هل هنالك خلل فلسفي يحول دون تمكين المرأة من تجاوز تلك المنظومة الذكورية؟

 

يبدو أن القمع الذكوري الأقصى الحقيقي، هو ما تعاني منه المجتمعات والحقول الفلسفية من نظرة انتقاصية للمرأة. وبالتالي، إذا كان هنالك من رغبة جدية للوصول إلى المساواة الحقيقة بين النساء والرجال، هذا يستوجب إعادة النظر، بكل ما له علاقة بثقافة المجتمعات، بما في ذلك ثقافة المرأة نفسها([2])، ناهيك عن مواجهة بعض التحديات على المستوى التنويري، والتي تتطلب أخضاع كلاً من الفكر الفلسفي والثقافي للفحص النقدي الصريح. حيث يتضح أن المرأة قد وضعت في رحم دوامة فلسفة مغلقة، تحتفظ بالأشكال التقليدية للأنوثة([3]).

 

وفي هذا السياق، من المنطقي القول، إنه لا يمكن الوصول إلى المساواة المجتمعية الجنسانية دون وجود خلفية فلسفية تعمل على تنوير العقول وتحريرها من القيود الذكورية. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك التحرر والتنوير إذا كانت القيم الفلسفية نفسها تعاني مشكلة جنسانية وشوفينية بارزة، والتي ترتبط (للأسف الشديد) بدونية المرأة في عالم الفلسفة؟

 

فعلى سبيل المثال، أشهر الفلاسفة الإغريق (أرسطو، أفلاطون، سقراط) كانت رؤيتهم للمرأة بشكل عام لا تتعدى عن كونها لا تصلح إلا للإنجاب، وأنه لا يمكنها أن تمارس الفضائل الأخلاقية كالرجال، وهي أدنى من الرجل في العقل والفضيلة. وهذه الرؤية للمرأة في عالم الفلسفة القديمة لم تختلف كثيراً مع عددٍ من كبار الفلاسفة الحديثين(جان جاك روسو، كانط، نيتشه)، فالمرأة وفقاً لرؤيتهم لم تُخلق لا للعلم ولا للحكمة، وإنما لإشباع غرائز الرجل، كما أن عقل المرأة لا يرقى إلى عقل الرجل وهي ليست مصنوعة للتفكير، وهي مصدر كل الشرور وتتآمر مع كل أشكال الانحلال ضد الرجال([4]).

 

يبدو من الواضح أن استمرار طُغيان الفلسفة الذكورية يعد عرضاً طبيعياً لذكورية الثقافة الإنسانية بشكل عام، والتي ما زالت مستمرة، على الرغم من المزاعم بالمساواة. وبالتالي، إذا كان هنالك من يعتقد أن هذه الاعتبارات الفلسفية الغارقة في الذكورية والمرتبطة بحقوق المرأة، لقد تجاوزها الزمن في ظل انتشار الايديولوجية النسوية، وتطور نسق الأفكار المتعلقة بالجنسانية. ولكن هنا، لا بد من طرح الإشكالية القائمة حول التساؤل فيما إذا تغيّرت فعلياً النظرة الذكورية تجاه المرأة على المستوى الفلسفي المعاصر، وفيما إذا كان هنالك حاجة ماسة للانتقال إلى المنظومة الفلسفية التنويرية الشاملة؟

 

بكل تأكيد عند محاولة الإجابة على تلك التساؤلات وتقييم تلك الإشكالية الهجينة (وفي حال تم تجاوز المنهج الاحصائي والكمي الذي يؤكد على قتامة المشهد) من أجل إيجاد تغيير جذري على مستوى الركائز الحيوية الضامنة لحقوق المرأة، يجب البحث عن الاسباب والخلفيات، التي تحول دون استطاعة المرأة حتى الآن، من ابتداع مدرسة فلسفية متكاملة أو إنشاء تياراً فكرياً يستطيع التأثير في الحقل الفلسفي.

 

وعدم الاستطاعة هذا، حتماً سيؤدي إلى طرح التساؤل الجوهري حول فيما إذا كان يوجد نساء فيلسوفات([5])؟ وهنا لا محالة، سوف يتم الاصطدام بقساوة ووطأة الجدليات المرتبطة بأهمية ومكانة ودور المرأة في التفكير والتفلسف.



([1])  ناهيك عن تزايد العنف ضد المرأة ، بالإضافة إلى الوهن الاقتصادي وعدم الاستقلالية المادية إلى حد ما، بما في ذلك الحواجز التي تحول دون الالتحاق أو الحفاظ على الوظائف، وتواجه النساء أيضا من ارتفاع ملحوظ في العنف المنزلي وتحديات الصحة والسلامة..الخ. راجع تقرير البنك الدولي المعنون:"المرأة والأعمال والقانون في 2021". والتقرير متوافر على الرابط التالي: https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/35094/9781464816529.pdf

([2])  إذ من المتسغرب والمستهجن تقبل بعض النساء لتلك المظاهر، بحجة أنهن اعتدنا على تلك الممارسات، ومن المؤسف أيضاً أن الكثير منهنّ لا تعرف شيئاً عن مجرد استغلالها. وهنا قد تطرح كثير من علامات الاستفهام حول فيما إذا كان يحق للمرأة (انطلاقاً من مبادئ حقوق الإنسان) قبول انتهاك إنسانيتها؟

([3])  وانطلاقاً من ذلك، يجب التدبر في كيفية استخدام مصطلحات مثل الأنوثة والهوية والشرف والرجولة...الخ.

([4]) ومن الجدير ذكره هنا أهمية عدم تعميم النظرة الذكورية للمرأة في الحقل الفلسفي، إذ على سبيل المثال قدم الفيلسوف العربي ابن رشد رؤيةً إنسانية لا تقل أهمية عن كل الطروحات المعاصرة المرتبطة بحقوق المساواة الجنسانية. حيث يؤكد على عدم وجود أي اختلاف بين المرأة والرجل سوى بالدرجة لا في الطبع(الاختلاف الجسدي)، وليس من الممتنع وصولُهن إلى الحكم، إذ أن المرأة والرجل نوع واحد، وأنه لا فرقَ بينهما في الغاية الإنسانية.

([5]) فإذا تم منهجياً تجاوز تأثير الرأي العام غير المنطقي، وفي حال تم التدقيق العلمي في التاريخ الفلسفي (القديم والمعاصر) وفقاً لخصائص وشروط محددة،  فإننا لن نجد فيلسوفة واحدة.


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com