2010-09-23

المسألة الديمغرافية تحمل أبعاد إستراتيجيّة مستقبليّة تحدّد ملامح الدولة العبريّة






سلام الربضي  \  باحث في العلاقات الدولية


في ما يتعلق بعرب إسرائيل لم يكن من قبيل الصدفة تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان حول أن المفاوضات مع الفلسطينيين يجب أن تجري على أساس "تبادل للأراضي والسكان". حيث جاء الإلحاح الإسرائيلي بأعتراف العرب بيهودية الدولة العبرية كشرط أساسي لإطلاق عملية التفاوض وفقاً لنتائج مؤتمر انابوليس2007 . وممّا يؤكّد هذا التّوجّه العودة إلى محادثات كامب دايفد في تموز2000 حيث خلق الرّئيس الأميركي بيل كلينتون ربطاً مباشراً، بين حقوق اللاجئين الفلسطينيين وحقوق اللاجئين اليهود الذين اضطرّوا إلى مغادرة دول عربية، وقد اقترح انشاء صندوق دولي يعالج مطالب اللاجئين العرب واليهود.

هذا الإلحاح الإسرائيلي يعبر في العمق عن ارتفاع منسوب الهواجس والقلق الوجودي، الذي بدأ يطفو على السطح تحت وطأة المتغيرات العاصفة التي تشهدها إسرائيل، من عامل النمو الديمغرافي في إسرائيل، بالإضافة إلى نتائج هزيمة إسرائيل في حرب تموز 2006 على لبنان وحرب غزة 2009 . وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يمارس فيها التطابق في شكل كامل بين الدين والقومية ويتم فيها اتباع معايير وأدوات دينية لفحص الانتماء إلى هذه القومية حيث ينشغل القادة الإسرائيليون بالسؤال :
                  من هو اليهودي؟ وليس من هو الإسرائيلي؟
فعندما تتكلم إسرائيل عن مصالحها ومجالها الحيوي لا يمكنها التمييز بين حدود 1948 وحدود 1967 لأنّ المهم بالنسبة لها هو أن تكون حدودها آمنة بصرف النظر عن موقع هذه الحدود وطبيعتها على الخريطة. فالحدود ترتبط في إسرائيل ارتباطاً عضوياً برؤيتها لطبيعة دولة إسرائيل، الدولة اليهوديّة. وهي لا تكتفي وفقاً لإستراتيجيّتها بتفتيت تلك المنطقة فقط بل أيضاً إعادة رسم حدودها السياسيّة وإعطاء نفسها الحق في التمدّد وفقاً لمقتضيات إستراتيجيّتها ومجالها الحيوي، واضعة نصب عينيها القنبلة الديموغرافيّة التي سوف تواجهها وفق رؤيتها لمشروع إسرائيل الجديدة أي إسرائيل اليهوديّة. فالميزان الديمغرافي لا يعمل لمصلحة إسرائيل لأنّ الانفجار السكاني الفلسطيني سيظل كفيلاً بتوفير القلق الوجودي الدائم لنظريّة الغالبيّة اليهوديّة.

والإستراتيجيّة الإسرائيليّة تدور في فلك الإجابة على السؤال التالي :

 كيف يمكن لإسرائيل مواجهة الخطر الديمغرافي العربي داخل حدود الدّولة 
 الإسرائيليّة وفي الأراضي الفسطينيّة التي تقع تحت سيطرتها منذ العام 1967؟

فالمعضلة الأساسية الأولى التي تواجهها إسرائيل منذ انتصاراتها السريعة والمفاجئة في حرب 67 تتمثل في إيجاد الصيغ العلمية الكفيلة بالاحتفاظ بالأراضي المحتلة، ودمجها في فضائها السيادي لغايات أمنية وإستراتيجية ودينية، مع تفادي المخاطر الجسيمة المنجرة عن منح المواطنة لسكانها. حيث يؤدي ذلك إلى خلق دولة مزدوجة القومية يصل فيها العرب نسبة 35% من السكان وسيصبحون بعد عقود أغلبية داخل إسرائيل .

إنّ إشكاليّة الديمغرافيا في المساحة بين النهر والبحر تعني أنّ هناك سيولة في ترسيم الحدود وحركة السكان بين الماءين. والترسيم يحمل لأوّل مرّة حركة باتجاهين، تحريك الخط الأخضر"حدود الرّابع من حزيران" شرقاً بحيث تضمّ إسرائيل نهائياً مراكز استيطانيّة كبيرة، مثل ضمّ إسرائيل الأحياء الفلسطينيّة حول القدس مثلاً، أو غرباً بحيث يتمّ التخلص من تجمّعات فلسطينيّة داخل إسرائيل متاخمة للضفة الغربية. وتهجير الفلسطينيين لا ينحصر في سكان المناطق المحتلة لعام1967بل تشمل المخططات الديمغرافيّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل نفسها، وهنا يتمّ تداول جملة من الأفكار السّاعية إلى الهدف ذاته، وهو تفريغ إسرائيل الجديدة من سكانها الفلسطينيين عبر تعديلات حدوديّة غربي الخط الأخضر.

فمثلاً رسم الحدود غربي وادي عمارة في منطقة المثلث المتاخمة للضفة الغربية يتمّ من جانب واحد بإلحاق150ألف فلسطيني في إسرائيل بمناطق الكيان الفلسطيني الذي سينشأ. فالنمو السكاني والأرض هاجس إسرائيل وهناك استراتيجيّات هدفها العمل على نقل الفلسطينيين من داخل إسرائيل "عرب48" إلى الكيان الفلسطيني الجديد، لأنّ هذا الكيان بنظرهم سيشكل حلاً لكل الفلسطينيين داخل الدولة اليهوديّة. وإنّ إمكانيّة الذهاب مع الديمغرافيا شوطاً جديداً تبقى واردة وهي في صميم المصالح الإسرائيليّة الإستراتيجيّة. ومن هذه المشاريع التي تعبّر عن هذا الواقع مشروع "تمام 6"، الذي يصادر بقية أراضي48 وهو مشروع يعطي صوراً جديدة لمنطقة الشمال في إسرائيل.

ومخطط تكثيف الاستيطان يستهدف تكريس الاحتلال الإسرائيلي الحالي في الضفة وجنوب غزة والجولان، واستكمال تهويد الأراضي في هذه المناطق بما يخلق أمراً واقعاً يصعب تغييره في المستقبل، أو حتى التفاوض بشأنه. وبحيث تشكل هذه المستوطنات أرضاً رحبة لاستيعاب مزيداً من المهاجرين اليهود، وبما يخفف من وطأة المشكلة الديموغرافية التي تعاني منها إسرائيل، ويخلق حافزاً للتدخل العسكري الإسرائيلي مستقبلاً ضد المناطق العربية، حتى في حالة انسحاب القوات الإسرائيلية منها في إطار التفاوض حول مستقبل الأراضي المحتلة، كما هو الأمر في مدينة الخليل والقدس الشرقية.

فلا وجود ولا مستقبل بالمنظور الإستراتيجي الإسرائيلي للدولة العبرية إلا بالسّيطرة الفعليّة والكليّة بالوجود السّكاني الخالص لليهود في حدودها. وتعتمد إسرائيل في تحديد مصالحها الاستراتيجيّة وإدارة صراعها مع دول المنطقة على منهج واضح ودائم يرتكز على الدّعامات التالية:
1- اعتماد إسرائيل في المقام الأوّل على قواها وقدراتها الذاتيّة وأن تعمل باستمرار على تطويرها بحيث تحقق التفوّق على كل من يعتبر أو يشكل تهديداً لأمنها القومي الحيوي.
2- ادراك إسرائيل حاجتها إلى حلفاء أقوياء تعتمد على خدماتهم، ولكن يجب عدم ربط الأمن القومي الإسرائيلي بمصير أحد.
3- اعتماد الحلفاء على إسرائيل منهج يجب ترسيخه فبوسعهم الاعتماد على إسرائيل بمقدار اعتمادها عليهم، وبالتالي حاجتهم لإسرائيل هي بمقدار حاجتها لهم أن لم يكن أكثر، حيث تبقى القوة هي حجر الزاوية لكل جهد إسرائيلي يستهدف كسب حلفاء جدد، والمحافظة على تحالفات قائمة.
4- كلّ ما هو عربي أو إسلامي وليس فلسطينياً فحسب يشكل تهديداً حاضراً أم مستقبلاً للأمن القومي الإسرائيلي. فالسّمة الأيديولوجيّة لأي نظام لا تعني إسرائيل بشيء بمقدار طبيعة سلوك وممارسة تلك الأنظمة تجاه المصالح الإسرائيليّة الإستراتيجيّة القوميّة.
5-  لا تهتم إسرائيل كثيراً بما إذا كانت الدّولة العربيّة أو الإسلاميّة المعنيّة ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة، وطنيّة أو قوميّة، رأسماليّة أو اشتراكيّة، علمانيّة أو غير علمانيّة. انّ كل دولة تقع في إطار مجالها الحيوي الإستراتيجي وتعتمد نظاماً سياسياً قوياً ومتماسكاً، لديه سياسة مستقلة يمكن أن تشكل خطراً أمنياً أو مستقبلياً على الأمن القومي الإسرائيلي. وذلك بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا النظام السّياسي مرتبطاً مع إسرائيل بمعاهدة سلام أو حسن جوار.

من هذا المنطلق تعتقد إسرائيل بأنّه عليها عدم الثقة والاعتماد على أي كان، بل العمل على اضعاف وتفتيت المحيط مهما كانت النتيجة. وبالتالي يجب إقامة إسرائيل الكبري ذات الهوية اليهودية النقية، كقوة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، ولتحقيق ذلك مستقبلياً – وفي ضوء ما يسمي بعملية السلام التي قبلها العرب-  فإن على إسرائيل أن تسعي من خلال معاهدات السلام وترسيم الحدود إلى ضم ما تستطيعه من المناطق التي احتلتها في عام 1967، والتي تحقق متطلبات أمنها من وجهة النظر الجيوإستراتيجية، ويكفل لها الحصول على مصادر مياه إضافية، وفرض شرعيتها على تلك الأراضي، مع إخلائها من السكان العرب حفاظاً على الهوية اليهودية، على أن تعمل الإستراتيجية العسكرية على تحقيق ذلك من خلال الردع الوقائي ، وتأمين عمليات الضم والاستيطان وتهويد الأراضي، والتحكم في المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع الاعتماد على الذات عسكرياًًًً واقتصادياً.

العقدة الديمغرافيّة والأمنيّة ستبقى وقد تكون بمثابة مفتاح الحل لكثير من تلك المعضلات التي تعاني منها إسرائيل، فمسألة الديمغرافيا تحمل أبعاد إستراتيجيّة مستقبليّة تحدّد ملامح الدولة العبريّة ومصيرها. حيث تحاول إسرائيل شرعنة وجودها في المنطقة بكافة الوسائل وشتى الطرق وترى أنّ عليها الاعتماد على تغيير النمط السائد لشكل الدولة، من النمط القومي إلى النمط الديني المذهبي.  ويعتبر موضوع التعويض المادي والمعنوي ليهود العالم العربي بالنسبة لإسرائيل أحد أهمّ أوراقها المستقبليّة في إطار مشروعها إسرائيل اليهودية، أو في إطار مفاوضاتها النهائيّة مع الفلسطينيّين لمقايضتهم مع حقوق اللاجئين الفلسطينيّين الذين صدرت في شأنهم قرارات دوليّة تضفي شرعيّة قانونيّة على حقوقهم، بعكس نظرائهم اليهود.

ويبدو أنّ الإسرائيليين الذين رضخوا للجغرافيا، ولو مؤقّتاً، وقبلوا مرغمين على الانكفاء عن أرض فلسطينيّة، يريدون تفويض أنفسهم عن المستوى الديمغرافي من خلال إخلاء إسرائيل اليهوديّة في حدودها بعد انسحاب الحدّ الأقصى من العرب. وبالمنظور الإسرائيلي لا يمكن معالجة مسألة اللاجئين العرب عام 1948 دون أن الأخذ بالحسبان عدداً مماثلاً من اللاجئين اليهود الذين طردوا من الدول العربية، فمن وجهة النظر الإسرائيلية جرت عملية تبادل سكاني بين الدول العربية، ودولة إسرائيل: العرب هربوا خوفاً من الحرب، بينما طرد اليهود من الدول العربية في أعقاب تلك الحرب.

ومشروع إسرائيل الجديد القائم على الإمساك بالديمغرافيا والعبث بالجغرافيا كان يرى بالعراق منذ احتلاله من قبل الولايات المتحدة سبيلاً في تحقيقه، فالعراق قد يقدم مستقبلاً أفضل مساهمة في حل مشكلة الخطر الديمغرافي الذي يقضّ مضاجع الأمن القومي الإسرائيلي.

فهل يمكن القول أنّ هناك ظروف قد نشأت نتيجة للحرب على العراق وتغيير نظام الحكم فيه قد تحوّل العراق مستقبلاً إلى الدولة العربية الأولى التي ستجابه ماضيها في مجال النظرة لليهود؟ 

تبقى إسرائيل حذرة في كشف أوراقها الاستراتيجيّة وفتح هذا الملف الآن خشية ظهور مطالب فلسطينيّة وعربية مقابلة لمطالبها، ممّا يضع الدّولة العبريّة في موقف حرج ولكن ورقة تعويضات اليهود العرب ستبقى ورقة إستراتيجيّة تخدم المصالح الإسرائيليّة.


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com