سلام الربضي
صحيفة العالم \ بغداد
19-7-2010
http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=13135
وفقاً لجدلية المجتمع والسلطة هناك صعوبات منهجية تواجه كل مَن يريد تناول إشكالية السياسات التدخلية للحكومات العربية فهل لنا أن نتساءل :
أين هو الحد الفاصل في المجال العربي بين ثقافة ومصالح الحكومات وبين ثقافة ومصالح المجتمعات؟
ما هو المعيار للتمييز بين ما هو عام وما هو خاص والذي على ضوئه يمكن تقييم السياسات التدخلية للحكومات العربية؟
فلا بد من لفت الإنتباه إلى أنه واقعياًً وعملاً بالنصيحة الديكارتية يجب تفتيت الإشكالية وهذه طريقة تساعد على إزالة الإلتباس والتشويش عن هذه الإشكالية، التي هي بطبيعتها ضبابية وقد تدفعنا إلى مفاضلات وهمية لا جدوى منها. فكل الأبحاث والدراسات التي تركز على الفوارق الشكلية أو الوظيفية بين كل تلك الثنائيات لا تجدي نفعاً، قبل طرح القضية الأساسية وهي هل هنالك فوارق جوهرية بين ما يرى من سياسات تدخلية للحكومات العربية وبين ما لا يرى من بنية المجتمعات العربية من حيث الإطار والمناخ الثقافي الذي يحدد ويرسم طبيعة تلك السياسات ؟
بعيداً عن التنظير ولتوضيح هذه المقاربة ما علينا سوى دراسة نموذج مبسط للغاية ولكنه يعكس عمق الأزمة وكيفية مواجهتها، فما يرى هو كيفية تعامل كل من الحكومة والشعب في الجزائر ومصر مع ظاهرة مباراة كرة قدم جمعت بينهما ؟ ولكن ما لا يرى وبكل تأكيد هو أن العامل الثقافي هو المحرك الاساس والمشترك لتلك الواقعة، والذي يعكس ضعف ووهن الفكر العربي. فبنية المجتمعات العربية تعاني من ظاهرة الانفصامية حيث يحتوي الفكر العربي على ثنائيات مزدوجة ومتضادة وهناك حالات تقابل حدي في داخله واستطراداً هل هناك _ وعلى الأقل لإيجاد علاقة سبب بنتيجة أو ارتباط بين متغيرات في هذا الفكر العربي _ من نظرية غير نظرية البعد الثقافي يمكن اعتمادها لتفسير هذه الظاهرة وهي الأزمة التي اخذت أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية ؟
واقعنا العربي يؤكد بصورة صارخة أن أزمة الحكومات والمجتمعات العربية بإمتدادها وعمقها إنما هي أزمة مقومات أساسية وأزمة علاقات اجتماعية، على صعيد كل مجتمع وعلى صعيد المجموع، الكل في أزمة، والأزمة في الكل، أنها أزمة عميقة وشاملة، ممتدة إلى جمع مستويات الحياة إنها أزمة بنيوية عامة. فما يرى هو تقييم ونقد للسياسات التدخلية الحكومية والتركيز على لعبة السلطة والمعارضة ولكن ما لا يرى في تلك السياسات والتي تعكس واقع المجتمع هو أنها قد تكون أخطر وأبعد من أن تكون فقط مسألة سياسية أو اجتماعية أو مسألة تنمية اقتصادية، إنما أولاً وقبل كل شيء هي حركة ذاتية تنبع من انتماء عقيدي ثقافي يفرض مقتضياته دوماً. فمعظم المواضيع المطروحة في أدبيات الفكر العربي أكانت سياسية (السلطة الديمقراطية، المساواة، الحرية، القانون) أو في الاجتماع (العادات، التقاليد، السلطة الأبوية، وضع المرأة، البنية الاجتماعية) أو في الاقتصاد من (التنمية، العدالة الاجتماعية، الحرية الاقتصادية) أو من ثقافية (الأصالة، المعاصرة، الهوية، الآخر) أو في العقل العربي وبنيتة، ترتبط بشكل أو بأخر بالإشكالية الأم وهي لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
وما لا يرى أيضاً في السياسات التدخلية الحكومية تكمن في مأساوية السؤال لماذا يتطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل ودون كبير جدوى؟ فالدول العربية انطلقت قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن وبعضها قبل روسيا التي بدأت قبل سبعين عام, ومنها ما هو قبل اليابان التي بدأت منذ مائة سنة، ومع ذلك فهذه الأمم وصلت كلها بينما لم يصل أي بلد عربي.
لذلك من الأولويات أيجاد مقاربة فكرية لواقعنا وتوجيه النقد الفكري للإيديولوجية والتخلي عن النظر إلى أزمة العرب الراهنة من الزوايا التقليدية التي تسود مجتمعاتنا العربية والقائمة على تحميل السياسات التدخلية الحكومية كل مصائبنا وشوائبنا .
هذه المراجعة تطال جميع الإيديولوجيات الفئوية إلى الإيديولوجيات الدينية مروراً بالإيديولوجيات الوطنية والقومية والماركسية أو الإشتراكية، وبداية الحل تكون بإعطاء هذه المراجعة أولوية على غيرها نظراً لأهمية الوعي في عملية تحديد الواقع والأهداف والسلوك. ويجب الاستعانة بالفكر الفلسفي الحر، فالفلسفة تمنح قدرة على تغيير الواقع العربي المتردي وهي فلسفة الإنسان كصيرورة تحكم نفسها وفقاً لمقتضيات العقل والحرية . فهي من جهة فلسفة تاريخية ومن جهة أخرى فلسفة سياسية ولا عجب بذلك، ففي قلب سؤال التاريخ ينبض سؤال السياسة. والفكر الفلسفي هو الفكر الأقدر على معالجة الأسئلة المصيرية من الهوية والتاريخ والدولة والسلطة ، وهو قادر على تكوين رؤية شاملة للإنسان والحياة العربية.
هذه الرؤية تحتاج إلى اجتهاد واضح وجريء وعصري وخيارات إستراتيجية واقعية وعدم الاكتفاء بالتحولات اللفظية والتكتيكية المرحلية والتي غالباً ما تنتهي لحظة الوصول إلى السلطة. كما أن التحولات المفاجئة التي أوجدتها الثورات المعرفية/ العلمية/ الإنسانية/ البيئية/ أحدثت إنقطاعاً مع التصورات القديمة عن السياسة والدولة والمجتمع والذات والآخر والإرث الحضاري. وما يزيد الإشكالية تعقيداً وإلتباساً ويجعل الفكر حائراً لماذا إلى اليوم ما يزال الفكر العربي متمسكاً ولا يرى سوى أطروحة ربط موضوع التقدم والسياسات العامة بالقضية الإيمانية، حيث يتم تبرير التخلف والانحلال السياسي بعدم فهم الإسلام واعتبار التحرك الاجتماعي الإنساني مجرد قنطرة إلى الآخرة؟
فلا يجوز الاستمرار بالرهان اليوم على استعادة الماضي الذهبي، والاقتناع بأن الماضي ممكن استعادته ويحب أن يستعاد يوماً. وتقييم السلطة وممارستها لا يمكن البحث عنها في عالم فوق الإنسان، فكل التفسيرات أكانت لاهوتية أم ميتافيزيقية قد فشلت في الوصول إلى نتيجة في موضوع البحث عن مصادر السلطة. فلماذا هذا التشبث من قبل الفكر العربي في البحث عن مصدرها في الغيب، عن طريق الإيمان والنقل أو في المبادئ الأخيرة للوجود عن طريق النظر الميتافيزيقي؟ فالبحث الصحيح عن مصادر السلطة وممارستها لا يقتضي أي نوع من الإيمان ولا يقتضي القفز فوق عالم الإنسان. ففي دنيا الإنسان لا وجود لسلطة واحدة عليا وشاملة تنبثق منها السلطات المختلفة أو تخضع لها خضوعاً كاملاً، ووحدانية السلطة في المجتمع تصور ينسجم مع فلسفة السيطرة، لا مع فلسفة السلطة.
فإذا كان ما يرى بالسياسات التدخلية للحكومات هو التخبط والفساد وأغتصاب للسلطة، ولكن ما لا يرى هو أن كل تلك السياسات تعكس وتعبر عن واقع مجتمعنا الماورائي الألهي محتكر الحقيقة. وإذا أراد العرب أن ينهضوا ويتقدموا يتوجب عليهم أولاً نسف الوجود العربي التقليدي، لسببين:
أولاً : لأنه وجود متناقض مريض.
ثانياً : وهو الأخطر، ادعاؤه بأنه مجتمع إلهي.
أنه مجتمع مثالي وكامل، وهذا يعني عدم إمكانية إجراء التحويل أو التغير فيه. فقواعده تشكل دستوراً لا يفرق بين الأمور الدنيوية والأمور الميتافيزيقية، وهذا أقرب ما يكون إلى أمر رمزي المقصود منه التأكيد على الهوية، وهذا نوع من هوية الموقف، وهوية الموقف لا تقل أهمية عن هوية الذات في المجتمعات غير الواثقة من ذاتها حضارياً في عالم تكون السيطرة والتفوقية للغير. فالإعلان مثلاً في دساتير الكثير من الدول والمجتمعات العربية بأن الإسلام دين الدولة هو من باب هوية الموقف ولا معنى له إلا إذا أخذ رمزياً. فالدين مجموعة أفكار وأحكام معيارية وتعبدات، وهو ينسب إلى الفرد فقط ولا يستطيع أحد أن يقوم بالتعبد سوى الإنسان الفرد، بينما الدول هيئات اعتبارية. فكيف يكون للدولة دين وهي شخصية معنوية؟
علينا إذاً التوسع في نهج الحداثة السياسية وبعض مقتضياتها ليشمل مواضيع مختلفة خصوصاً الفكر اللاهوتي وما يصدر عنه من ثقافة دينية، عندها يتعقلن وجودنا أكثر فأكثر وننطلق إلى بناء مستقبل أفضل متسلحين برؤية فكرية جديدة، رؤية تدعو إلى احترام كل آخر لا يشاطرني نفس الرأي، والذي يذكرني باستمرار أنني لا أملك كلية الحقيقة، ومن يدعي امتلاكها حكم على نفسه بالبقاء بعيداً عنها. وعلينا أن نتمنى أن يكون الحنين إلى عصر ذهبي هذه المرة هو المستقبل الآتي وليس الماضي الذي انقضى، فالأجوبة القديمة على الأسئلة الجديدة لم تعد كافية. والاتجاه التاريخي لمسيرة الوجود العربي لا يمكن أن يكون إلا باتجاه الحداثة، وسيتمكن هذا الوجود من أن يقف على قدميه بعد أن وقف طويلاً على رأسه هذا إذا صح تعريف الإيديولوجيا بأنها وعي مقلوب يقف على رأسه.
أخيرا قد يكون من المستحيل تغيير المجتمعات العربية طالما كل ما يرى هو البحث في سياسات حكوماتها وما لا يرى هو المرأة العربية في وضعها الراهن ذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي، وطالما إن المرأة العربية لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغيير. وإذا كنا جادين في مجابهة التحدي وفي بناء مجتمع جديد في أوطاننا علينا قبل كل شيء أن نرى ونعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته الكاملة فكيف نواجه التحديات التي تهددنا وأن نبني مجتمعاً جديداً في حين أن نصفنا مشلول؟