د.سلام الربضي:
مؤلف وباحث في العلاقات الدولية
الميادين.نت \ 17-1-2021 \ https://www.almayadeen.net/articles/blog/1449503
ليس هناك منهج علمي يسمح بتنبؤات دقيقة حول مستقبل النظام العالمي،
وبالتالي فإن جميع الطروحات التي تشير وتتنبأ بأفول أو صعود القوى العالمية، تبقى خاضعة للنقاش وعدم اليقين. فإذا استطاعت أزمة جائحة "كوفيد 19" إعادة طرح
علامات الاستفهام حول موازين القوى العالمية، ولكن هنا يجب الأخذ بعين الأعتبار
(على عكس ما هو شائع لدى كثير من النخب الأكاديمية)، بأن
التغيرات في موازين القوى على مستوى العلاقات الدولية، لم تعد خاضعة إلى حد كبير إلى
لعبة صفرية النتائج (Non Zero-Sum
Game). بمعنى، أن زيادة نفوذ وسلطة وقوة دولة ما،
لا تعني بالضرورة، فقدان الدول الأخرى لنفوذها. كما أن كون دولة ما، هي أقوى دولة
في العالم، فهذا لم يعد يعني احتكارها للقوة، إذ بات من السهل بالنسبة للأفراد
والجماعات أن يراكموا ويوظفوا قوة مؤثرة.
وفي هذا السياق، يمكن لنا التطرق إلى إشكالية محاولة النخب الفكرية والسياسية
البحث في إشكاليات الواقع العالمي المستجد على ضؤ تداعيات جائجة كوفيد 19، والمتعلقة بجدلية المقارنة بين قوة الصين المتصاعدة ومكانة الولايات
المتحدة المتراجعة. وهنا يجب لفت الانتباه، إلى أن هذا التراجع يعود إلى التغير في
طبيعة النظام العالمي، أكثر مما يعود إلى ضعف الولايات المتحدة العسكري أو السياسي
أو الاثنيـن معاً. إذ إن هذا النظام بات عديم القطبية، وذلك ليس ببساطة ناتجاً فقط
عن تعاظم قوة دول أخرى وفشل الولايات المتحدة بإدارة النظام العالمي(التي ما زالت
تشكل أكبر مجتمع منفرد للقوة)، ولكنه أيضاً نتيجة حتمية نسق التغيرات العميقة الذي
أصاب بنية المجتمع العالمي. وبناء على ذلك، لقد جاءت كل تداعيات جائحة "كوفيد19"، لتؤكد على حقيقة وواقع هذه التغيرات.
وعلى نور ما تقدم، باتت العلاقات
الدولية المعاصرة، ترتكز على نسق ذو قوة موزعة أكثر مما هي مركزة، والكثير من
القوى تعتمد على هذا النسق في رفاهيتها الاقتصادية واستقرارها السياسي. لذلك، فهي
لا تحبذ مواجهة وعرقلة نظام يخدم مصالحها، إذ يوجد هنالك تقاطع وتشابك في النفوذ. وبالتالي،
هذا النسق التي ما زالت تؤدي فيه الولايات المتحدة دوراً مركزياً، يحتم الحد من
صراع القوى، وهو الصراع الذي حكماً سيُنتج الحلول القائمة على المعادلات غير
الصفرية. ولكن ومع كل تلك المعطيات، لا
يمكننا تجاهل طرح علامات استفهام حول:
كيف إن النفوذ الحقيقي لقوة
الولايات المتحدة، لم يستقر لأكثر من 20 أو 25 عام؟
وفقاً إلى الاستنتاج
المبني على استقراء حيثيات سقوط الامبراطوريات وواقع السياسة العالمية، يتضح أن الانحدار
النسبي طويل الأجل لقوة الولايات المتحدة، سيبقى مستمراً بغض النظر عن محاولات استدراكه. وبناء على ذلك، قد يصبح السؤال
المنطقي (على الأقل في نطاق البحث العلمي والأكاديمي):
ليس إذا كانت الصين سوف تصبح
القوة العظمى الأولى عالمياً، بل متى؟
وفي المحصلة، إذا كنا منهجياً نحاول ألا ندخل المقاربة البحثية
في مستنقعات التساؤلات الجوهرية الاستراتيجية،
المتعلقة بالتنبأ بمستقبل
القوى العالمية، لكن يبدو أنه لا مهرب لنا
من الغوص في غمار تلك المستنقعات التي تحمل في كل من أعماقها متعة إضافية من متع استقراء
مستقبل العلاقات الدولية. وبناء عليه وفيما يتعلق بالصين، وفي حال تجاوزنا بعض
المفاهيم الأكاديمية سابقة الذكر، قد يكون المستنقع الاستراتيجي الأكاديمي العميق
والأهم الواجب الغوص به( والذي تتجنب الكثير من النخب السياسية والأكاديمية، من الغوص
في أعماقه)، هو:
هل ترغب الصين أو تُفكر فعلياً بتولي مسؤولية قيادة العالم، وفي حال كانت
لديها هذه الرغبة فهل هي جاهزة لفعل ذلك، وهل ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية في
الوقت الحالي؟
وهذا المستنقع الاستراتيجي، وفقاً
لتداعيات جائحة كوفيد19 والتغيرات الحاصلة على مستوى العلاقات الدولية، يطرح الكثير من الإشكاليات التي تتعلق بمحاولة
استشراق مستقبل السياسة العالمية والفاعلين الأساسيين فيها. وفي خضم هذا الواقع، يمكن
تناول إشكاليات تصنيف النظام العالمي والمرتبطة بمصطلحات الأحادية القطبية أو
الثنائية أو المتعددة الأقطاب..الخ، والتي باتت بلا معنى. ففي ظل واقع المقاربات
الفكرية والواقعية، يبدو من الصعوبة بمكان ما، رؤية نظام عالمي يتحكم فيه قطب واحد
أو حتى عدة أقطاب. وذلك بسبب عوامل نوعية كثيرة سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية،
والتي أصبحت من أهم محددات العلاقات الدولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-
لا توجد دولة
واحدة، تتمتع بتفوق في جميع عناصر القوة([1]).
2-
تداعيات عصر المعرفة العابر للحدود السياسية والثقافية والأمنية.
3-
بروز ظاهرة الإرهاب بكافة تجلياتها.
4-
إشكاليات المسألة البيئية وقضايا الديمغرافيا والهجرة.
5-
وتيرة التطورات العلمية والكنولوجية على كافة المستويات.
6-
تشابك الاقتصاد العالمي، وتعدد نفوذ كثير من القوى بداخله([2]).
7-
التحولات في معايير قياس القدرة العسكرية([3]).
وبالتالي يمكن القول، إن عالم
العلاقات الدولية خاضع اليوم لنظام عديم القطبية، نتيجة حتمية نسق التغيرات التي
زادت من حجم التعقيدات المرتبطة بقضايا الإرهاب، والبيئة، والتكنولوجيا، والإعلام،
والفيروسات الحقيقية والالكترونية..الخ. وهذا النسق يدعم النظام عديم القطبية،
وفقاً لعدة اتجاهات، ومنها:
1-
كثير من التدفقات تتم خارج سيطرة الدول وبالتالي تحد من نفوذ القوى الكبرى.
2-
بعض التطورات تخدم الدول الإقليمية وتزيد من هامش
فاعليتها واستقلالها([4]).
3- وجود ثروات هائلة تخضع لقبضة أفراد وقوى فاعلة
جديدة.
وعلى نور ما تقدم، يجب التنبيه
إلى أننا حالياً في عصر بعيد كل البعد عن التصنيفيات الكلاسيكية المرتبطة بمصطلح
القطبية، ناهيك بصعوبة فهم هذه التحولات البنيوية الضخمة في
العلاقات الدولية على صعيد هيكلية الاقتصاد العالمي وواقع السياسة العالمية، فهماً
كاملاً، إذ أن صيرورة النظام العالمي تواصل حركتها وتعقيداتها.
وبالتالي يجب الأخذ بعين الأعتبار، حتى
لو كان نظام عدم القطبية حتمياً، ولكنه يستوجب الحذر، فقد يولد مزيداً من
العشوائية. وبالتالي، منطقياً الإشكالية تكمن في كيفية إيجاد ذلك النوع من
التوازنات حول تشكيل عالم عدم القطبية، والذي يحتاج إلى توافق عالمي؟
وهنا عندما نتحدث عن التوازنات في العلاقات الدولية،
نستحضر حقيقة أن نسق الانتظام
لن ينشأ من تلقاء نفسه. وحتى في حال تم ترك النظام العالمي(عديم القطبية) يعمل
وفقاً لنهجه الخاص، ذلك سيجعله أكثر تعقيداً ويتجه نحو المزيد من الفوضى، وهذا أقله ما يمكن استنتاجه من التخبط في كيفية التعامل
مع أزمة جائحة كوفيد19، وما يسمى حروب
الأقنعة الطبية.
وبناء عليه، يجب
توجيه النظر صوب المخاطر المحتملة، فالنظام العالمي عديم القطبية سيُعقد الديبلوماسية
السياسية، وستفقد التحالفات الكثير من أهميتها، لأنها تتطلب وجود رؤية استراتيجية
لمواجهة تهديدات والتزامات يمكن التنبؤ بها، وكل هذا من المتوقع ألا يكون متاحاً
في عالم عديم القطبية. واستناداً إلى ذلك، تتطلب تلك المخاطر(على الرغم من وجود
كثير من الإشكاليات
والجدليات المطروحة على مستوى اتجاهات تطور النظام العالمي، والتي تجعل من التنبؤ بسيناريوهات المستقبل،
مهمة علمية شاقة) طرح جملة تساؤلات حول طبيعة القوى القادرة على تولي زمام
المبادرة والغوص في أعماق تحمل مسؤولية
قيادة السياسة العالمية
([1]) فإصطلاح الدولة العظمى الوحيدة، لم يعد ملائم في ظل واقع تعدد مراكز القوى الحالي. فمثلاً، أثبتت الصين أن الولايات المتحدة لا
يمكنها التفرد بمعالجة الملف النووي لكورية الشمالية، وهي صاحبة التأثير الفاعل في
هذه المسألة. كما أن قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إيران تخضع بشكل كبير
إلى عدم تعارضها مع المصالح الاسترايجية المباشرة لكل من الصين وروسيا.
([2]) هذا ما تدل عليه
حيثيات المفاوضات في منظمة التجارة العالمية، وصعوبة الوصول إلى اتفاقيات في جولة
الدوحة منذ العام 2001.
([3]) على سبيل المثال أوضحت أحداث 11 أيلول كيف أن استثماراً صغيراً من قبل أفراد يمكن أن
يقلب موازين عالمية، على المستوى العسكري والأمني والسياسي وحتى الاقتصادي. وكذلك
انتصار حزب الله في حرب تموز 2006 (التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي)، تثبت أن
أكثر الأسلحة الحديثة تطوراً وتكلفة ليس بإمكانها حسم الحروب، إذ إن أعداداً مدربة
من الأفراد المسلحين تسليحاً خفيفاً، يمكن أن يثبتوا أنهم أكثر من ند، لعدد أكبر
من قوات جيوش أفضل تسليحاً.