سلام الربضي\ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية
صحيفة الرأي الأردنية
05/04/2010
http://www.manbaralrai.com/?q=node/67222
اتسمت الأدبيات التي تناولت تجليات العولمة ومنها ظاهرة الشركات عبر الوطنية ببروز مناظرة ساخنة بين تيارين، التيار الليبرالي القديم والمتجدد من ناحية، والتيار الراديكالي من ناحية أخرى. وقد امتدت هذه المناظرة إلى الخلاف حول المصطلح الذي يجب أن يُطلق على تلك الشركات. وبطبيعة الحال فإن الخلاف حول المصطلح لم يكن نوعاً من المنازعات اللغِوية بل يكمن جوهره في تشخيص طبيعة الظاهرة ذاتها، إذ هناك من اعتبرها شركات متعددة الجنسية وهنالك من يعتبرها شركات ذات أعمال دولية أو شركات عبر الوطنية أو شركات عالمية.
الشركات عبر الوطنية هو المصطلح الذي تعتمدة الأمم المتحدة منذ إنشاء مركز الأمم المتحدة لشؤون الشركات عبر الوطنية "unctad". هذا على الرغم من أن التعريف الذي ينطلق خبراء الأمم المتحدة منه لا يزال عمومياً وغير محدد. وما بين القانون والاقتصاد والسياسة، وما بين أسبقية المجال الاقتصادي في تشخيص التفاعلات الاجتماعية وظواهرها أم أسبقية المجال السياسي في تشخيص الظواهر,يبقى السؤال:
هل هناك من رؤية واضحة في تشخيص تلك الظاهرة؟
إذا كانت تلك المناظرة معنية حقاً بتشخيص تلك الظاهرة فإن ما نحتاج اليه بالتحديد هو التحلي برؤية ديناميكية تنظر إلى تلك الظاهرة كمجال لعمليات تاريخية معقدة تعكس التظافر المتوتر بين المجالات الاقتصادية للتطور الرأسمالي المعاصر، والمجالات السياسة للعلاقات الدولية. والمعضلة الرئيسية تكمن في التناقض بين تطور الاقتصاد وتطور السياسة، فالاقتصاد يتجه نحو العالمية ولا يأبه بحدود السياسة والجغرافيا، أما التنظيم السياسي لا يزال وطنياً وقومياً، وتكمن المشكلة الأساسية في تلاقي عالمية الاقتصاد من ناحية وقومية السياسة من ناحية أخرى وهو التناقض الأساسي لظاهرة العولمة، حيث هناك سلطة اقتصادية عالمية لا يكاد يفلت منها مكان على المعمورة، ومسؤولية سياسية وطنية أو حتى محلية.
الثورة التكنولوجية أدت إلى تغيير كبير في وظائف ومهام الدولة وسلطتها من حيث هي سيدة المكان. وفي أي حديث عن العلاقة بين الدولة ورأس المال في عصرنا الحالي أو عن المعضلات التي تواجهها المجتمعات جراء هذة العلاقة لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا التمايز في قدرات الدول, بالإضافة إلى كون تطور الدولة ليس مكتملا بعد من ناحية التراكم التاريخي, بحيث يجوز التفكير في أوضاعها بالمفاهيم عينها التي تستعمل في الدراسات التي تتناول واقع الدولة في المجتمعات الحديثة, ولم تبلغ كثير من الدول بعد تلك الدرجة من التطور التي تجعلها موضعا للبحث من منظور مفاهيم الفكر السياسي الحديث, لأن هذة المفاهيم نفسها ما تبلورت ألا من حيث هي حصيلة لتطور الاجتماع السياسي في مجتمعات الغرب الحديثة, وانة ليس من العلمية ولا الموضوعية تعميمها على كل اجتماع سياسي بدعوة انها مفاهيم وقدرات علمية أو اجرائية.
عندما نتكلم عن الدولة نحن لسنا أمام مادة صماء أو موضوع طبيعي بحيث يكون انطباق النتائج على المادة أمراً مقرراً بل نحن أمام كائن أجتماعي هو الدولة ما زال تطورة في طور السيولة ولم يستقر بعد على حالة ثابتة ومتساوية. وعلى الرغم من عدم التناسب بين المفاهيم الحديثة وواقع الدولة ودرجة تطورها التاريخي، لكن ذلك لا يجب أن يقودنا إلى الاعتقاد باستحالة التفكير في واقع الدولة بمفاهيم الفكر الحديث أو الاعتقاد بالحاجة إلى اشتقاق مفاهيم خاصة ومناسبة نتيجة التباين في التكوين والتطور والإمكانيات. كما أن خصوصية ظاهرة ما في مجتمع ما أمر ممكن لا يقبل النكران بحجة كونية الظواهر الاجتماعية، وهذه الظاهرة يمكن إدراكها من خلال المفاهيم التي تسلّم بوجود المشترك العام بين الظواهر الاجتماعية على الرغم من الاختلافات في سياقات التكوين والتطور والإمكانيات.
لا مجال لتحصيل فائدة علمية من نزعتي الخصوصية والكونية المتطرفتين والمتنابذتين لأنهما أيديولوجيتان بامتياز، والتشديد في البحث عن الخصوصيات يحول دون الاستفادة والبحث في الديناميات والقوانين العامة الحاكمة للظاهرة الاجتماعية ـ الدولة والشركات في دراستنا ـ أيا كان فضاؤها الاجتماعي. وأن الأفراط في التشديد على اهدار الخصوصيات باسم الكونية والشمولية العالمية والعلمية ينسى حقيقتين متضافرتين: أنة لا كونية ألا ما تقرره الخصوصيات وتُقيم به الدليل على تلك الكونية، وانة لاعلمية في فهم ظواهر الاجتماع الإنساني أن نظر أليها وكأنها كظاهر الطبيعة صماء؟
في مقابل هاتين النزعتين المغاليتين لا مفر من نظرة جدلية للموضوع تسمح بقراءة واقع الدولة كما هي انطلاقا من اعتبار مفهوم السيادة مفهوم قانوني سياسي خال من أي محتوى. وعلى الرغم من التباين في التكوين والتفاوت في التطور والقدرات ألا أن التداخل بين أنماط الدولة والاشتراك بينها في السمات العامة الناجمة عن وحدة الوظيفة السياسية والاجتماعية التي تنهض بها الدولة في المجتمع، كائنة ما كانت درجة تطورها وكيفما تكون طبيعة تكوينها ومصادر ذلك التكوين، إذ في مجتمع ما تملك الدولة سلطة على الحيز الترابي والسكاني الذي يقع ضمن سيادتها أيا كانت طبيعة تلك السلطة وأيا كان مضمونها، كما أن في سلوك كل دولة قدرا من العنف يزيد وينقص تبعا لنمط السلطة القائم.
كثير من الآراء تحاول ايضاح أن الغلبة النهائية تبدو من نصيب الشركات العملاقة في مواجهة الدول ولكن هذه المسألة عليها بعض التحفظ لانها تحتمل مقاربات مختلفة. وهذا الرأي يتوقف على نشاط الشركات وسياساتها في المناورة على الساحة العالمية مقارنة مع نشاط الدول التي في بعض الاوقات قد تنصرف إلى شؤونها الداخلية للحفاظ على تكاملها الإقليمي وسيادتها في المقام الأول. بالإضافة إلى السعي لتراكم رأس المال عن طريق استراتيجية التجارة الحرة وهو ما يفتح الطريق لتزايد نفوذ الشركات عبر الوطنية. وعلى الرغم من الجوع والفقر ألا أن العالم النامي بوسعة أن ينهض ومستقبلة ليس مظلما بمقدار الصورة التي يحاول الكثير الترويج لها.
تاريخ الإنسانية قائم على الانقسام بين الأفراد والجماعات إلى أغنياء وفقراء، وهذا الانقسام هو قديم قدم المال، ففي كل عصر وفي كل مكان يوجد فقراء لا يملكون وعادة لا يعرفون وأغنياء يملكون وبعضهم يعرف أيضاً، فتعايش الفقر والثراء والتقدم والتخلّف والجهل والمعرفة جميعها تمثّل تاريخ الإنسانية، ولم يكن ذلك نقمة على الدوام، بل كثيراً ما كان حافزاً للتغيير وأحياناً للتقدم، كما كان في أحوال أخرى سبباً للحروب والدمار. ولكن في المجتمعات السابقة هذا التمايز والاختلاف بين المجتمعات كان محدوداً من ناحية القوة والثراء، وهذه المجتمعات كانت محدودة الاتصال فيما بينها وكانت متقاربة على مستوى أدوات الإنتاج، وجاء العصر الحديث فإذا بالفوارق بين الأغنياء والفقراء تصبح بالغة الخطورة حتى يمكن القول إنها تكاد تكون فروقاً في الطبيعة وليس في الدرجة.
كذلك فإن الإنسانية تواجه قضايا ومسائل متعددة، من البيئة، إلى الهجرة، التفجر السكاني، الارهاب، التنمية المستدامة، المأسسة السياسية للتمايزات الثقافية، التطلعات الإثنية...الخ والدول لا يمكنها منفردة الرد على هذه التحديات، ولكن أيضاً لا يمكن لأي إرادة دولية جماعية أن ترقى إلى المستوى المطلوب معالجته من دون الاعتماد على مؤسسة الدولة.