2011-03-13

سلطة وكالات التصنيف العالمية






سلام الربضي \ باحث أردني في العلاقات الدولية

إن النظام المالي هو قسم من أقسام الاقتصاد العالمي. وهو الذي تعرّض إلى أعظم مدى ممكن من التدويل. ويعتبر هذا الميدان من أكثر ميادين الخلاف نتيجة هذا التحول الكبير من جهة، وبروز تيارات فكرية ترى أنه قد تم الانتقال من النظام العالمي الذي تقوده الحكومات إلى النظام العالمي الذي تقوده الأسواق.  

فمن هم سادة الأسواق المالية :

إنهم مديرو الصناديق المختلفة، المستثمرون، أفراداً ومؤسسات، الشركات، المؤسسات المالية المحلية والعالمية، الحكومات التي تلعب دور المقرض وأحياناً المنقذ، المصارف، صناديق التقاعد، صناديق التعاضد، مؤسسات الإيداع الجماعي، شركات التامين، شركات الإقلاع السريع، خبراء المضاربة، ومن هؤلاء أيضاً وكالات تقييم الاستثمارات.

ففي مدينة نيويورك وفي الشارع رقم 99 تقيم إحدى هذه الوكالات وتدعى"Moodys Investor Service"وهي تعتبر من أكبر المؤسسات العملاقة تأثيراً في أسواق المال، ويعمل لديها وبرواتب مغرية 300 محلل، وعلى أعلى بوابة الوكالة هناك لافتة تقول :

" القرض هو عصب الحياة بالنسبة إلى نظام التجارة الحر، فمشاركته في زيادة ثروة الأمم فاقت مشاركة مجمل مناجم الذهب في العالم كله بأكثر من ألف مرة ".

وفي تلك الوكالة لا يجوز للزائر مهما كانت منزلته، الدخول إلى مكاتب العاملين، حيث المقابلات والمفاوضات تتم داخل صالات الاجتماعات الفخمة . وتقوم هذه الوكالة بتقييم الأمم وتصنيفها وفقاً للملائمات المالية في جميع دول العالم دون استثناء. وتكمن الخطورة في هذا التقييم من جانب استخدامه من قبل المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار والمصارف، فتجنباً للمخاطر ستطالب تلك المؤسسات بفائدة ذات مستوى أعلى على سندات الدين الحكومي في حال كان تصنيف الوكالة سيئ. والشركات التجارية العملاقة تأخذ بعين الاعتبار هذا التقييم عند الاستثمار في أية دولة.

وفي حال وجهت إحدى الدول دعوة للوكالة لزيارتها للاطلاع على الوضع المالي فإن الوكالة تشترط أن يسافر اثنان من عامليها فقط منعاً للرشوة. كما أن الوكالة تجبر موظفيها الماليين على تقديم كشوف شهرية باستثماراتهم الخاصة منعاً من استغلال المحللين للمعلومات التي بحوزتهم والتي لم تنشر بعد.

وهذه الوكالات لا تعطي أهمية إلى أية ضغوطات حكومية، إنها تراعي فقط مصلحة المستثمرين، ولا شأن لها بالسياسة. 

ولكن هل يمكن فصل النتائج المعلنة لتلك الوكالات عن أي طابع سياسي؟ 

فالشركات تستطيع من خلال الضغط على الحكومات والتأثير في سياستها التوقف عن شراء سندات الحكومة أو الاستثمار في أسواق تلك الدول جراء تقييم تلك الوكلات. ناهيك عن دور هذه الوكلات عبر الوطنية المؤثر جداً في قطاع تصنيف وتحليل الدول والشركات على الصعيد المالي والاقتصادي.

ومن هذه الوكالات مثلاً شركة FutureBrand الرائدة في مجال التخطيط الاستراتيجي لتطوير الأسماء التجارية، ومنها تصنيف الدول على اعتبارها علامة تجارية وهذه الشركة هي المؤسسة المتخصصة عالمياً في مجال الاستشارات للعلامات التجارية، وتمتلك فروعاً  في أكثر من 20 مدينة في مختلف أنحاء العالم، ووسعت نشاطها ليشمل التقارير المتخصصة في تقييم القطاع العقاري في العالم. وهذه الشركة لها تأثير سياسي واقتصادي نتيجة الدراسات والتضنيفات التي تصدر عنها وتعتبر بمثابة مؤشر لوضع تلك الدول.

فهي تصنف الدول على أساس الوجهة الأولى للسفر وتصنفها أيضاً على اعتبارها علامة تجارية. وهذه التصنيفات تعتبر بمثابة مؤشر لوضع الدول الاقتصادي وآفاقه التسويقية، كذلك يوجد وكالات تصنف الشركات عبر الوطنية نفسها إذ تصنف هذه الوكلات الشركات على كافة المستويات مما ينتج تأثيراً على واقع الشركة في مختلف المجالات. ومن أهم هذه الشركات مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد اند بورز. وهنالك الكثير من تلك الوكالات والتي تقوم بعمليات تقييم وتصنيف لقدرة الكثير من القطاعات كتصنيف الجامعات أو المصارف ....الخ.

فما هي تلك السلطة الجديدة سلطة الوكالات العالمية لتقييم الاستثمار والشركات ؟ ومن أين تستمد تلك المؤسسات سلطاتها؟ وهل بالإمكان اعتبار تلك المؤسسات أداةً تسهّل تحرك الشركات عبر الوطنية؟ وما هي طبيعتها هل هي مؤسسات عامة أم خاصة؟. وما هي طبيعة العلاقة بين سياسات تلك المؤسسات والسياسات العامة ؟ وهل هناك مخاطر سياسية لمثل هذه السياسات؟

من الأهمية النظر إلى تلك الوكالات من زاويتين: 

الأولى : تأثير نشاط  تلك الوكالات والمؤسسات على السياسات العامة.

الثانية : من زاوية التركيز على هذه المؤسسات كأدوات تقييم ومراقبة.

إن لهذه المؤسسات من خلال تقييمها تأثيراً على القروض والفوائد، كما يمكن لها أن تؤثر في الانتخابات الحكومية، ففي كندا وعندما انخفضت قيمة الدولار الكندي عام1995حاول رئيس الوزارء الكندي انذاك Jean Chretion   التصدي لهروب رؤوس الأموال من خلال موازنة جديدة تضمنت تخفيضاً في الإنفاق، وقبل أن تتم مناقشة تلك الموازنة في البرلمان أعلنت مؤسسة Moodys أن قدر التخفيض في الموازنة غير كافٍ وأن المؤسسة تدرس احتمال خفض تصنيفها للسندات الكندية، مما دفع رئيس المعارضة الكندية إلى اتهام رئيس الوزراء بانتهاج سياسة مالية فاشلة أعتماداً على تقرير الوكالة.

والسويد من تلك الدول التي عانت في هذا المضمار، ولقد حاولت الحكومة السويدية مواجهة هذه المشكلة، وعملت على تخفيض الضرائب على الدخول المرتفعة، على الرغم من خروج الكثير من المصانع ورؤوس الأموال للخارج مما تسبب بنقص إيرادات الدولة وارتفاع العجز وتخفيض التقديمات الاجتماعية، وقد اقترح رئيس الوزراء السويدي السابق جوران برسونGaoran Perrson اثناء الحملات الانتخابية آنذاك زيادة ما يحصل عليه العاطلون عن العمل والمرضى كما كان في السابق. وبعد فترة وجيزة من هذا الاقتراح أعلنت وكالة Moodys في تقرير عالمي يؤكد أن برامج الإصلاح المالي السويدي لا تزال غير كافية، ونتيجة لهذا التقرير انخفضت أسعار السندات السويدية آنذاك 30 نقطة والاسهم 100 نقطة، وأخذ سعر الكرونة السويدي بالانخفاض.

إن أفضل توصيف لهذا الواقع قد يكون بما ورد في صحيفة "New york time" في أحدى الأيام من تعليق بقولها "the man from Moodys rules the world" رجل موديز يدير العالم.

لقد باتت حرية حركة الرساميل كاملة وبصورة حاسمة بالنسبة للتقنيات وأكثر اتساعاً بالنسبة للسلع والخدمات، إنها ظاهرة ذات قدرة غير محددة . وعلى الرغم من انفصال الاقتصاد الإنتاجي عن الأسواق المالية وحدوث بعض الانهيارات _ ومنها ما حدث لبريطانيا في بداية التسعينات على يد المضارب المالي جورج سورس الذي جعل الجنيه البريطاني يفقد12% من قيمته خلال يومين فقط _ فقد أصبحت الدول تراقب المشهد وأصبح اللاعبون الكبار يملكون زمام المبادرة، وهم قادرون على جعل المصارف المركزية تتحول إلى مراقِبة للمشهد تحت طائلة فقدان كتلتها النقدية إذ إننا أمام تيار بعمق التيارات البحرية وزخمها.

وبفعل حرية انتقال الرساميل أصبحنا أمام حالة ميكانيكية ذات سيولة مذهلة حيث لم يعد هناك مَن يعتقد فعلاً بإمكانية اختراع نظام قادر على الثبات عند المضاربات سواء كانت مضاربات على العملات أو الأسهم، أو السلع.

كما أن حدوث الازمة المالية العالمية 2008 تؤكد طرح إشكالية مدى مصداقيه التصنيفات التي تطلقها هذه الوكالات ومدى انعكاسها على المصالح العامة ؟ فبعض التساؤلات مطروحة فيما يتعلق ببعض الوكالات والمؤسسات الدولية التي تحدّد جدارة الإقراض وتعمل على تنظيم الأسواق المالية بما فيها عمل البورصات المالية.

ومن الواضح أن ممارسات تحديد المعايير هي جزء جوهري من نظام السوق الحر وهي تقرر مصير الفاعلين الاقتصاديين بطريقة تمنح سلطة سياسية فعلية. وعلى الرغم من أهمية العمليات التي تقوم بها تلك المؤسسات والوكالات والتي تعتبر أهم جانب من جوانب العولمة والتدويل.

ولكن ألا يحق التساؤل عن ماهيّة هذه الوكالات على وجه الدقة:

هل هي منظمات تدّعي لنفسها وتمارس سلطة عامة حكومية، في حين أنها ليست خاصة بالكامل وليست عامة بالكامل؟ 

هل هي جزء من التغيير في النظام العالمي؟ 

هل هي أداة أو جزء من منظومة التحكّم الناشئة أم العكس؟ 

وهل يحق لنا الاعتقاد هنا بأنه يجب إعارة هذه المؤسسات والوكالات ـ أو هذه الحالة ـ الانتباه الأكبر من قبل الاقتصاديين والباحثين؟


For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com