2012-09-18

الشركات عبر الوطنية في وضعية ضعف نسبي لم تشهده سابقاً.









   سلام الربضي \ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية. *



إننا نعيش في ظل أيديولوجية جديدة للعبة السلطات والسلطات المضادة. فالمصلحة العامة كانت مبرر سلطة الدولة القوية والتوازن كمبدأ لليبرالية. وها نحن اليوم في عصر المساءلة كإطار لمجتمع السوق، وكسلطة توازن مقابل تزايد نفوذ الشركات عبر الوطنية، والسلطات السياسية تعرف قبل غيرها هذه التحولات. والتطورات في وسائل الاتصال انعكست في بعض جوانبها إيجابياً. فتجربة استخدام الانترنت وتقنيات الإعلام على امتداد القارات بأسرها يخرجنا بخلاصة، حول التفاعل بين العلم والشفافية والسياسة والاقتصاد والبيئة، التي يمكن استثمارها جيداً في محاولة إيجاد أدوات ضبط تعمل على إيجاد السلطة المضادة لسلطة قوى السوق.

لقد أحدث الانترنت ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات وفتح مصادر جديدة للمعلومات، ومعظمها اليوم هي خارج سيطرة الدول والشركات والمنظمات الكبيرة. فتوفير المعلومات لم يعد حكراً على وسائل الإعلام العملاقة فبإمكان أي فرد، أو منظمة ذات حد أدنى من المعرفة التقنية، أن تخبر العالم بما تريد أن يسمعه عن طريق إنشاء موقع الكتروني بسيط جداً. إذ فعالية استخدام الانترنت والسرعة التي يجري التواصل فيها بين جماعات الضغط أو نقل المعلومات،تجعل من الزمن الذي تستغرقه الحكومات في إحداث التغيير في سياستها موضع سخرية. فمثلاً استغرقت استجابة شركة نبك باركليس 20 عام من ضغط المستهلكين للأنسحاب من جنوب أفريقيا العنصرية، ولكن حالياً شركة شل تزيل تعدياتها البئية في كثير من الأحيان في فترة لا تتجاوز الشهور؟؟؟

هنالك تحول تدريجي في الإعلام الرقمي البديل المتمثل بظاهرة البلوغوز التي تعبر عن التفاعل القوي بين البنى الاجتماعية والظاهرة الرقمية. إذ إن العلاقة بين الشركات وظاهرة البلوغوز فعالة ومؤثرة جداً في الرأي العام، وهذه الظاهرة أتاحت الفرصه لمعرفة ما يدور داخل هذه الشركات العملاقة من قبل كوادرها الداخلية. فلقد تعرضت سمعة شركة وول مارت إلى حملة شرسة على المواقع الالكترونية حيث القيت عليها تهمة أستغلال الموظفين وقتل التجارة المحلية الصغيرة، ونتج عن هذه الحملة تعرض الشركة لضغوطات شديدة، إجبرتها أن ترسل عن طريق شركة ايدلمان المسؤلة عن العلاقات العامة في وول مارت، وثائق للمدونيين لمحاولة تبيض صورتها وإعطاء صورة عن شفافيتها .

وأقل ما يمكن قولة إن الشركات الآن تعمل بشفافية أكبر من ذي قبل والكثير من الشركات التي تعرضت للضغط استجابت وعملت على تغيير أسلوبها في العمل فمثلاً تعرضت شركة ""nike لحملة شرسة لكيفية عمل مصانعها في أندونيسيا، ونتيجة الضغوطات سمحت الشركة للمنظمات الإنسانية من زيارة مصانعها والتأكد من التغيرات التي أقدمت عليها الشركة, وقد أصدرت منظمة التبادل العالمي وهي منظمة لحقوق الإنسان مكرسة لنشر العدالة الاجتماعية حول العالم تقارير اعتبرت فيها أن هناك تحولات مدهشة في عمل هذه الشركات. وأن أثر ضغوط الرأي العام كبيرة، والشركات تزداد قابليتها إلى تشريع أبوابها لإخضاع حساباتها البيئية والاجتماعية للتدقيق ومن تلك الشركات "benand jerrys","body shop","shall","bp","bt". فقوى السوق تختلف عن السياسيين من حيث أنها لا تستطيع إبقاء قاعدتها الاستهلاكية غير راضية.




وبعيداً عن إشكالية قياس حجم التأثير على الشركات، يبقى التركيز على أسماء الماركات المعروفة عالمياً عن طريق حملات تشويه السمعة والاحتجاجات، وما تتعرض له تلك الشركات من شهرة سلبية يترك نتائج سلبية على نشاط الشركات. والأهم قد يكون عند محاولة الشركات إعادة بناء سمعتها، آنذاك تكون كلفة ترميم السمعة في غاية الصعوبة. إضافة إلى الكلفة المرتفعة، وقد يكون من المستحيل على الشركات إعادة ترميم سمعتها، فكثير من الشركات تخشى الشهرة السلبية وذكريات انهيار الشركات ماثلة للعيان أمثال rentspar", "kathee", leegifford", "gm"" .

ونتيجة تأثير وضغط والرأي العام تنازلت الكثير من الشركات وراجعت كيفية سلوكها في كثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية. فشركة ماتل الأمريكية لألعاب الأطفال باربي سحبت من محالها في الأسواق الأمريكية والعالمية 18 مليون لعبة للأطفال، نتيجة تلوثها بمواد غير مسموح بها من طلاء يحتوي على مواد الرصاص وهو طلاء أرخص من غيره من مواد الطلاء وطويل العمر ولمّاع. لكنه يؤدي إلى ضرر في الجهاز العصبي لدى الإنسان، أو لتزويدها قطعاً مغناطيسية يمكن للطفل أن يبتلعها وتؤذيه. وتفاعلت الحملة لتأخذ أبعاداً مختلفة في الأوساط السياسية والرقابية في الولايات المتحدة وأوروبا والصين. وقد دافعت الصين عن صادراتها وعزت سبب حدوث بعض المشاكل في الصادرات إلى اختلاف المعايير بين الدول، معتبره أن السبب الرئيسي في  استرجاع ألعاب صنعت في الصين نتيجة عيوب في التصاميم الأميركية وليس جراء أخطاء الأيدي العاملة الصينية.

قد تكون هناك أبعاد مغايرة أحياناً لمسألة السلامة العامة وصحة المستهلك. ومن الجائز أن تحمل هذه الحملات في ثناياها أبعاداً كيدية، نتيجة التنافس الشديد بين صناعات الدول النامية والدول الصناعية المتقدمة. وبفعل عامل المنافسة الشديدة وضيق الوقت بدأت ظاهرة العيوب التصنيفية _ التي لا تقل خطراً أو ضرراً عن حادثة الألعاب الصينية _  تتكرر في  الصناعات المتطورة في الدول الصناعية، مما يؤكد أن الظاهرة ليست محصورة في الدول النامية أو الشركات التي تعمل فيها. وقد لجأت شركة فورد إلى سحب13 ألف إطار وضعت على طراز إكسبلورير ذات الدفع الرباعي نتيجة اكتشاف خلل تقني في تصنيع تلك الإطارات.

وعلى صعيد صناعة الأغذية يكفي ذكر الحملات التي أدت إلى التصدّي وكشف خفايا مرض جنون البقر التي انطلقت من بريطانيا، والتي ما تزال ذيولها قائمة حتى اليوم. وأيضاً أسفرت الحملات عن بحث البرلمان الأوروبي في البدائل المتاحة من أجل تأسيس صناعة أدوية رديفة في الدول الفقيرة. وكانت البرازيل وتايلاند قد منحت شركات الأدوية المحلية رخصاً لإنتاج أدوية رديفة للأدوية المحمية بحقوق الملكية، مُتَحَدِّيَة اتفاق تريبس العالمي الذي أبرم في منظمة التجارة العالمية في عام 1994 مما يسهم في حل الأزمة الصحية في الدول النامية على المدى الطويل. كذلك فإن الضغوطات في أوروبا أدت إلى طلب النواب الأوروبيون من المفوضية التجارية في الاتحاد الأوروبي رفع الحماية الفكرية عن المنتجات الدوائية.
عالم جديد تتحرك ضمنه الشركات عبر الوطنية هو مجتمع السوق وديمقراطية الرأي العام، وعند نقطة تقاطع السوق والرأي العام تظهر آليات الضبط والمراقبة التي تخلق التوازن في السلطات. ولعبة السلطات المضادة بصورة أو بأخرى بشكل سلس أو بصدمات متتالية ستفرض نفسها في النهاية. وإن واقع السوق الذي تعمل الشركات في ظله والذي تستمد النفوذ منه يستدعي أدوات وآليات للضبط والتحكم وهذا ما يحصل على أرض الواقع. إذ توجد سلطات مضادة وهي في طور التبرعم وهذه السلطات المضادة تفرض نفسها رويداً رويداً في ظل فلسفة جديدة تطغى على المستويين المحلي والعالمي.

وفي سياق السباق المتواصل بين السعي لاحتلال مواقع احتكارية ـ وهو ما تمثله الشركات عبر الوطنية ـ وبين الردع الذي تتولاه المؤسسات الراعية لحقوق المنافسة فإن الشركات الرأسمالية باتت في وضعية ضعف نسبي لم تشهده سابقاً. وعلى عكس الكلام البليغ السائد حول عدوانية السوق وجنون الرأسمالية وعدم عقلانية الشركات عبر الوطنية، فلفظ كلمة "رأسمالية" اصبح مرداف لعدم الاستقرار والفوضى وشريعة الغاب وانتصار الأقوى والتفاوت وانعدام المساواة وجنون البقر،  وكوابيس آخرى، وكلها أفكار تدخل اللاوعي .

والمنظمات غير الحكومية، قادرة على أن تكون العمود الفقري في تلك الحملة أو المسار الجديد في مواجهة نفوذ هذه الشركات. فالمنظمات من خلال ملاحقة الشركات قضائياً قادرة على إحداث تغيير من جراء التشهير بالشركات التي تمارس أعمالاً تتعارض مع المصالح العامة العالمية، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية أم بيئية. وهذه الملاحقات ينتج عنها تعرض الأصول النفسية التي تملكها الشركة للخطر، ونعني بذلك السمعة الطيبة للشركات، ناهيك عن النتائج المادية والقانونية لتلك القضايا.

إن ما نشهدة أمام أعيننا هو ولادة نظام مستقر من السلطات والسلطات المضادة حتى لو لم نتجاوز بعد تساؤلاتنا وشكوكنا. إذ في ظل هذا النظام المتبلور والقائم على حيوية القضاء والرأي العام، يجب وجود سلطات تأخذ على حين غرة وبصورة قوية على عاتقها، مواجهة قوى السوق الاحتكارية .

For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com