سلام الربضي
\ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية
تفاعلت
تطورات بالغة الأهمية، ساعدت على إفراز العديد من الحقائق الجديدة، وما أدت إلية
من تغير في المعطيات الاقتصادية للعالم المعاصر. وقد واكبتها تغيرات في المؤسسات
والسياسات العامة، لا تقل عنها أهمية، والتي لها أثار بعيدة المدى . فمن القضايا العالمية المطروحة حالياً، والتي تعبر عن
هذه المتغيرات. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر : الليبرالية الجديدة، دور الدولة،
التنمية المستدامة، حماية البيئة، الحكم الصالح، أزمة ديون الدول الفقيرة،
الفجوة الرقمية، المجتمع المدني، دور الأفراد، حقوق الإنسان، مكافحة الإرهاب،
الأخلاق، .....الخ.
وتكمن
المشكلة الأساسية في هذه الحقائق، بكيفية تلاقي عالمية الاقتصاد من ناحية، وقومية
السياسة من ناحية أخرى، وهو التناقض الأساسي لظاهرة العولمة. ومن الواضح، إن تلك
القضايا في مجملها، تدور في فلك إشكالية
قوة الدولة: فهل
أن هناك اختراقاً لمكانة الدولة
ووظائفها، سواء كانت الدول، كبيرة
أم صغيرة؟ فعندما نتكلم عن العولمة، يجب النظر إلى تاريخ
الاقتصاد العام، باعتباره تاريخاً للمبادلة وقيام الأسواق وتوسيعها، وذلك لأجل فهم
الاقتصاد المعاصر بشكل أوضح. فالعولمة، ليست وصفة أو حزمة معرفة، بقدر ما هي لحظة
من لحظات التطور، ارتفع فيها معدل توسيع الأسواق والترابط في الاقتصادات، على
مستوى رقعة متزايدة من العالم. فمن المعضلات الحالية، هو التناقض بين تطور
الاقتصاد وتطور السياسة، فالاقتصاد تقنياً، يتجه نحو العالمية ولا يأبه بحدود
السياسة والجغرافيا، أما السياسة، فتنظيمها ما زال وطنياً وقومياً.
ومن
هنا، تنفصل العلاقة بين السلطة والمسؤولية، حيث هناك سلطة اقتصادية عالمية، لا
يكاد يفلت منها مكان على المعمورة، ومسؤولية سياسية وطنية أو حتى محلية. وعلى
الرغم من كل ذلك، فالدولة لم تكن في يوم من الأيام، أقوى مما عليه هي الآن، فيما
تتمتع به من أدوات للتأثير في الحياة الاقتصادية، سواء عن طريق وسائل التأثير عبر
السياسات الاقتصادية، أو من خلال دورها التنظيمي وتوفير الخدمات الرئيسية. والانحسار
الذي أصاب الدولة، هو في صعيد الإنتاج في القطاع العام. إذ أن أداة السياسة
الرئيسية هي الدولة، التي يتركز فيها استخدام السلطة. في حين أن المجال الطبيعي
للاقتصاد هو السوق، حيث تعبر المصالح أو المنافع عن نفسها، فيما تظهره هذه السوق
من خلال مؤشرات مختلفة: كالأسعار والاحتكار والجودة. وما بين السياسة والاخلاق
والاقتصاد، فإن نقطة التقاطع تكون قائمة على ما يعرف بالحكم الصالح، القائم على
ترابط مفهوم اقتصاد السوق وحقوق الإنسان والديمقراطية والشفافية والمساءلة.
كما أن، الفرد أصبح هو الحكم والفيصل، حيث الجميع يحاول استمالته، سواء بالإقناع أو الخداع. فالفرد هو من جهة ناخب، وهو من جهة أخرى مستهلك، ففي المجال الاقتصادي، ورغم من عدم عدالة التوزيع، فإن المواطن العادي، لا يزال يمسك بزمام القوة الاقتصادية، انطلاقاً من سياسية الاستهلاك. بالإظافة إلى، أن هذا الفرد هو أساس السلطة السياسية، ورأيه في صناديق الاقتراع، أو من خلال استطلاعات الرأي، ما تزال تحكم التوجهات السياسية والاقتصادية. وهنا أيضاً، قد يكون المطلوب صوته الشكلي فقط. وبالتالي، تكمن المشكلة بأن هذا الفرد، الذي يمثل الحكم والفيصل، عليه مواجهة، قوى المال والإعلام، والمخابرات، وعليه التحوط والحذر من قدرتها، على إخضاعه لمختلف أنواع التأثير والضغط والتضليل.
ويبدو إن أنجح
أسلوب للعمل السياسي، هو عدم تسجيل المطالب والاحتياجات في صناديق الاقتراع فقط،
حيث الاعتماد على عملية التمثيل. بل يجب أيضاً، أن يتم ذلك في السوق، حيث إنفاق
الدولار أو توفيره، قد يؤدي إلى الغايات المرجوّة. وقد يكون هذا الشكل من العمل
المباشر، أخذ يحل مكان الأشكال التقليدية في التعبير السياسي، حيث الشعوب في جميع
أنحاء العالم الآن، تتسوّق بدلاً من أن تصوّت. فالمشاركة في عملية مقاطعة
المستهلك، أو في التسوّق السياسي، كانت في ما مضى عملية محدودة. أما اليوم، فهناك
مؤشرات إيجابية، تدل على أن نشاط الفرد
المستهلك السياسي، قد بدأ يصب في الاتجاه الصحيح. فالنشاط والنفوذ المتزايد
للشركات عبر الوطنية، وما يقابلها من إرادة سياسية غير واضحة في كثير من الأحيان،
أنتج إدراكاً متزايداً، بأن التسوّق صيغة سياسية جديدة . فالاستهلاكية في حقبة عدم الاكتراث السياسي والتحلّل من الارتباط، بدأت
تحل محل المواطنة، على اعتبار أنها الأداة التي تمكّن الفرد العادي، من فرض وجوده
في الساحة المحلية والعالمية.
إذ في الوقت الذي يترك فيه السياسيون العنان، في كثير من الأحيان، للشركات
عبر الوطنية، وفي الوقت الذي يُنظَر فيه وبشكل متزايد، إلى التصويت التقليدي، على أنه غير ناضج كوسيلة للتعبير السياسي، أصبح
التسوّق ذا صيغة سياسية جديدة. إنه أمضى سلاح في ترسانة المواطن والفرد العادي،
بحيث يتم من خلاله مطالبة تحمل المسؤولية، من قبل الحكومات والشركات والمنظمات
العالمية. ففي حين أن العقد الاجتماعي، الذي يربط بين الشعوب والحكومات يزداد
هشاشة، بيد أن ضغط الأفراد الشعبي، يحدث أثراً لا تستطيع الحكومات أن تأتي بمثله _
وقد تكون غير راغبة في ذلك _ في مواجهة قوى السوق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق