هنالك الكثير من الإشكاليات، التي تتعلق بالنظام العالمي والتغيرات الحاصلة، والتي تتطلب محاولة استشراق مستقبل، وهوية هذا النظام، والفاعلين الأساسيين فيه، من زوايا مختلفة. وفي خضم هذا الواقع، يأتي مصطلح عصر عدم القطبية لُيعبر وفق منظرية، عن عالم ينتقل من نظام القطب الواحد، إلى نظام تنعدم فيه القطبية، بمختلف أشكالها، أو تصبح بلا معنى: الأحادية أو الثنائية أو المتعددة الأقطاب. وذلك، بسبب عوامل نوعية كثيرة، ثقافية واقتصادية وسياسية وغيرها.
وهذه العوامل أصبحت من سمات عصرنا الراهن، وستبقى لسنوات غير قليلة. بل إن بعضها، هو اليوم من أهم محددات كثير من الشؤون العالمية والاقليمية، وحتى المحلية، في حالة بعض الأزمات المستفزة، لمنظومة قيم النظام السائد حالياً. فدخول البشرية في عصر الشبكة المعلوماتية، التي تولد صلات مدنية ومهنية ومعرفية، عابرة للحدود السياسية، والقارية والجنسية. كذلك، وجود الشبكات العالمية التفاعلية، بين مئات الآلاف من مؤسسات المجتمع المدني، _ من جمعيات ونقابات _ والصعود المطرد، لنجم وصلاحيات بعض المنظمات، جعل من المستحيل استراتيجياً، الحديث عن نظام _ دولي أو عالمي _ يتحكم فيه قطب واحد، أو عدة أقطاب يتنازعون السلطة حول العالم.
ويحاول الكثير من النخب، البحث عن سبل دعم موقع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا النظام، من أجل الحيلولة دون الفوضى، التي قد ترافق هذا النظام. في حين يستمر آخرون في القول، إن الولايات المتحدة يمكن أن تواصل ممارسة دور قطبي عالمي، وإن كان مرد تراجعها عن موقع القطب الواحد، يعود إلى ظهور قوى جديدة على المسرح العالمي، أكثر مما يعود إلى ضعفها العسكري أو السياسي أو الاثنيـن معاً.
ففي الوقت ،الذي كان النفوذ الأمريكي حقيقة واقعة، لكنه، لم يستمر أو يستقر لأكثر من 15 أو 20 عام. وبمقياس التاريخ، تعتبر هذه مجرد لحظة، ووفقاً للنظرية الواقعية التقليدية، يجب التنبأ بنهاية الآحادية القطبية وتفجير التعددية القطبية.
والسؤال الصحيح الآن في نطاق البحث العلمي الأكاديمي وفقاً لبعض النخب الأخرى، ليس إذا كانت الصين سوف تصبح القوة العظمى عالمياً ، بل متى؟؟؟؟؟
تبقى كثيرة هي التساؤلات الجوهرية، التي تشغل تفكير النخب على امتداد العالم، في مجالات السياسية والاقتصاد والبيئة، تسبر غور عوالم جديدة، تحمل في كل منها متعة إضافية، من متع استقراء مستقبل، الوقائع العالمية الحقيقية.
سلام الربضي \ باحث أردني في العلاقات الدولية صحيفة المدى \ بغداد 17-12-2011
إن النظام المالي هو قسم من أقسام الاقتصاد العالمي. وهو الذي تعرّض إلى أعظم مدى ممكن من التدويل. ويعتبر هذا الميدان من أكثر ميادين الخلاف نتيجة هذا التحول الكبير من جهة، وبروز تيارات فكرية ترى أنه قد تم الانتقال من النظام العالمي الذي تقوده الحكومات إلى النظام العالمي الذي تقوده الأسواق.
فمن هم سادة الأسواق المالية :
إنهم مديرو الصناديق المختلفة، المستثمرون، أفراداً ومؤسسات، الشركات، المؤسسات المالية المحلية والعالمية، الحكومات التي تلعب دور المقرض وأحياناً المنقذ، المصارف، صناديق التقاعد، صناديق التعاضد، مؤسسات الإيداع الجماعي، شركات التامين، شركات الإقلاع السريع، خبراء المضاربة، ومن هؤلاء أيضاً وكالات تقييم الاستثمارات.
ففي مدينة نيويورك وفي الشارع رقم 99تقيم إحدى هذه الوكالات وتدعى"Moodys Investor Service"وهي تعتبر من أكبر المؤسسات العملاقة تأثيراً في أسواق المال، ويعمل لديها وبرواتب مغرية 300محلل، وعلى أعلى بوابة الوكالة هناك لافتة تقول :
" القرض هو عصب الحياة بالنسبة إلى نظام التجارة الحر، فمشاركته في زيادة ثروة الأمم فاقت مشاركة مجمل مناجم الذهب في العالم كله بأكثر من ألف مرة ".
وفي تلك الوكالة لا يجوز للزائر مهما كانت منزلته، الدخول إلى مكاتب العاملين، حيث المقابلات والمفاوضات تتم داخل صالات الاجتماعات الفخمة . وتقوم هذه الوكالة بتقييم الأمم وتصنيفها وفقاً للملائمات المالية في جميع دول العالم دون استثناء. وتكمن الخطورة في هذا التقييم من جانب استخدامه من قبل المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار والمصارف، فتجنباً للمخاطر ستطالب تلك المؤسسات بفائدة ذات مستوى أعلى على سندات الدين الحكومي في حال كان تصنيف الوكالة سيئ. والشركات التجارية العملاقة تأخذ بعين الاعتبار هذا التقييم عند الاستثمار في أية دولة.
وفي حال وجهت إحدى الدول دعوة للوكالة لزيارتها للاطلاع على الوضع المالي فإن الوكالة تشترط أن يسافر اثنان من عامليها فقط منعاً للرشوة. كما أن الوكالة تجبر موظفيها الماليين على تقديم كشوف شهرية باستثماراتهم الخاصة منعاً من استغلال المحللين للمعلومات التي بحوزتهم والتي لم تنشر بعد.
وهذه الوكالات لا تعطي أهمية إلى أية ضغوطات حكومية، إنها تراعي فقط مصلحة المستثمرين، ولا شأن لها بالسياسة.
ولكن هل يمكن فصل النتائج المعلنة لتلك الوكالات عن أي طابع سياسي؟
فالشركات تستطيع من خلال الضغط على الحكومات والتأثير في سياستها التوقف عن شراء سندات الحكومة أو الاستثمار في أسواق تلك الدول جراء تقييم تلك الوكلات. ناهيك عن دور هذه الوكلات عبر الوطنية المؤثر جداً في قطاع تصنيف وتحليل الدول والشركات على الصعيد المالي والاقتصادي.
ومن هذه الوكالات مثلاً شركة FutureBrandالرائدة في مجال التخطيط الاستراتيجي لتطوير الأسماء التجارية، ومنها تصنيف الدول على اعتبارها علامة تجارية وهذه الشركة هي المؤسسة المتخصصة عالمياً في مجال الاستشارات للعلامات التجارية، وتمتلك فروعاً في أكثر من 20 مدينة في مختلف أنحاء العالم، ووسعت نشاطها ليشمل التقارير المتخصصة في تقييم القطاع العقاري في العالم. وهذه الشركة لها تأثير سياسي واقتصادي نتيجة الدراسات والتضنيفات التي تصدر عنها وتعتبر بمثابة مؤشر لوضع تلك الدول.
فهي تصنف الدول على أساس الوجهة الأولى للسفر وتصنفها أيضاً على اعتبارها علامة تجارية. وهذه التصنيفات تعتبر بمثابة مؤشر لوضع الدول الاقتصادي وآفاقه التسويقية، كذلك يوجد وكالات تصنف الشركات عبر الوطنية نفسها إذ تصنف هذه الوكلات الشركات على كافة المستويات مما ينتج تأثيراً على واقع الشركة في مختلف المجالات. ومن أهم هذه الشركات مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد اند بورز. وهنالك الكثير من تلك الوكالات والتي تقوم بعمليات تقييم وتصنيف لقدرة الكثير من القطاعات كتصنيف الجامعات أو المصارف ....الخ.
فما هي تلك السلطة الجديدة سلطة الوكالات العالمية لتقييم الاستثمار والشركات ؟ ومن أين تستمد تلك المؤسسات سلطاتها؟ وهل بالإمكان اعتبار تلك المؤسسات أداةً تسهّل تحرك الشركات عبر الوطنية؟ وما هي طبيعتها هل هي مؤسسات عامة أم خاصة؟. وما هي طبيعة العلاقة بين سياسات تلك المؤسسات والسياسات العامة ؟ وهل هناك مخاطر سياسية لمثل هذه السياسات؟
من الأهمية النظر إلى تلك الوكالات من زاويتين:
الأولى : تأثير نشاط تلك الوكالات والمؤسسات على السياسات العامة.
الثانية : من زاوية التركيز على هذه المؤسسات كأدوات تقييم ومراقبة.
إن لهذه المؤسسات من خلال تقييمها تأثيراً على القروض والفوائد، كما يمكن لها أن تؤثر في الانتخابات الحكومية، ففي كندا وعندما انخفضت قيمة الدولار الكندي عام1995حاول رئيس الوزارء الكندي انذاك JeanChretionالتصدي لهروب رؤوس الأموال من خلال موازنة جديدة تضمنت تخفيضاً في الإنفاق، وقبل أن تتم مناقشة تلك الموازنة في البرلمان أعلنت مؤسسة Moodysأن قدر التخفيض في الموازنة غير كافٍ وأن المؤسسة تدرس احتمال خفض تصنيفها للسندات الكندية، مما دفع رئيس المعارضة الكندية إلى اتهام رئيس الوزراء بانتهاج سياسة مالية فاشلة أعتماداً على تقرير الوكالة.
والسويد من تلك الدول التي عانت في هذا المضمار، ولقد حاولت الحكومة السويدية مواجهة هذه المشكلة، وعملت على تخفيض الضرائب على الدخول المرتفعة، على الرغم من خروج الكثير من المصانع ورؤوس الأموال للخارج مما تسبب بنقص إيرادات الدولة وارتفاع العجز وتخفيض التقديمات الاجتماعية، وقد اقترح رئيس الوزراء السويدي السابق جوران برسونGaoran Perrson اثناء الحملات الانتخابية آنذاك زيادة ما يحصل عليه العاطلون عن العمل والمرضى كما كان في السابق. وبعد فترة وجيزة من هذا الاقتراح أعلنت وكالةMoodys في تقرير عالمي يؤكد أن برامج الإصلاح المالي السويدي لا تزال غير كافية، ونتيجة لهذا التقرير انخفضت أسعار السندات السويدية آنذاك 30نقطة والاسهم 100نقطة، وأخذ سعر الكرونة السويدي بالانخفاض.
إن أفضل توصيف لهذا الواقع قد يكون بما ورد في صحيفة "New york time" في أحدى الأيام من تعليق بقولها "the man from Moodys rules the world" رجل موديز يدير العالم.
لقد باتت حرية حركة الرساميل كاملة وبصورة حاسمة بالنسبة للتقنيات وأكثر اتساعاً بالنسبة للسلع والخدمات، إنها ظاهرة ذات قدرة غير محددة . وعلى الرغم من انفصال الاقتصاد الإنتاجي عن الأسواق المالية وحدوث بعض الانهيارات _ ومنها ما حدث لبريطانيا في بداية التسعينات على يد المضارب المالي جورج سورس الذي جعل الجنيه البريطاني يفقد12% من قيمته خلال يومين فقط _ فقد أصبحت الدول تراقب المشهد وأصبح اللاعبون الكبار يملكون زمام المبادرة، وهم قادرون على جعل المصارف المركزية تتحول إلى مراقِبة للمشهد تحت طائلة فقدان كتلتها النقدية إذ إننا أمام تيار بعمق التيارات البحرية وزخمها.
وبفعل حرية انتقال الرساميل أصبحنا أمام حالة ميكانيكية ذات سيولة مذهلة حيث لم يعد هناك مَن يعتقد فعلاً بإمكانية اختراع نظام قادر على الثبات عند المضاربات سواء كانت مضاربات على العملات أو الأسهم، أو السلع.
كما أن حدوث الازمة المالية العالمية 2008 تؤكد طرح إشكالية مدى مصداقيه التصنيفات التي تطلقها هذه الوكالات ومدى انعكاسها على المصالح العامة ؟ فبعض التساؤلات مطروحة فيما يتعلق ببعض الوكالات والمؤسسات الدولية التي تحدّد جدارة الإقراض وتعمل على تنظيم الأسواق المالية بما فيها عمل البورصات المالية.
ومن الواضح أن ممارسات تحديد المعايير هي جزء جوهري من نظام السوق الحر وهي تقرر مصير الفاعلين الاقتصاديين بطريقة تمنح سلطة سياسية فعلية. وعلى الرغم من أهمية العمليات التي تقوم بها تلك المؤسسات والوكالات والتي تعتبر أهم جانب من جوانب العولمة والتدويل.
ولكن ألا يحق التساؤل عن ماهيّة هذه الوكالات على وجه الدقة:
هل هي منظمات تدّعي لنفسها وتمارس سلطة عامة حكومية، في حين أنها ليست خاصة بالكامل وليست عامة بالكامل؟
هل هي جزء من التغيير في النظام العالمي؟
هل هي أداة أو جزء من منظومة التحكّم الناشئة أم العكس؟
وهل يحق لنا الاعتقاد هنا بأنه يجب إعارة هذه المؤسسات والوكالات ـ أو هذه الحالة ـ الانتباه الأكبر من قبل الاقتصاديين والباحثين؟
يجب إن لا تكون النزعة الكوزموبوليتانية في الحقل البيئي ، مجرد شكل من أشكال الأممية، تحت مقولة إنقاذ كوكب الأرض. فقد يؤدي ذلك، إلى تعارض مع مصالح النزعة المحلية، وقد لا يكون من الممكن إقناع أحد، بوجود اهتمامات يجب أن تكون لها الأولوية، أكثر بعداً من الناحية التجريبية.أيضاً، ذلك يصح بالقدر نفسه، في الحالات السياسية الثقافية، الأكثر صعوبة. والتي توجد فيها أنواع مختلفة من المخاوف البيئية، على اعتبار أن مسببات المشكلات البيئة، معقدة للغاية، ومفتوحة أمام اجتهادات الجدل والاختلاف.
وفي السياق العالمي البيئي،لا بد من طرح فكرتي المواطنة السياسية والحيز العام، وهذا يتطلب الحاجة إلى حلول سياسية شاملة، مما يطرح التساؤل:
عما إذا كان يتعين علينا، النظر إلى أنفسنا بصفتنا مواطنين عالميين؟ أم مواطني دولة قومية؟ أم يجب علينا التعامل مع الإشكاليات البيئية من منطلق واقع طبيعة القضايا المطروحة ؟
وفقاً لذلك، يمكن اعتبار الروابط المحلية والعالمية، تشكلان عناصر رئيسية، سوف تؤثر في فكر وممارسة، السياسة البيئية في العقود المقبلة.ومع أن هاتين الرابطتين تمثلان اتجاهات مختلفة في السياسات البيئية، فإنه يمكن توقع حدوث ثلاث تطورات :
أولاً : زيادة حدة الصراع والنضال من أجل الموارد على الصعيد المحلي. نتيجة لتعاظم توجهات السوق والدولة من أجل تنمية الموارد. ومع تكثيف المفاوضات حول قضايا الأرض، سوف تحتل هذه الاتجاهات موقعاً مركزياً على جدول أعمال السياسات البيئية.
ثانياً :مع زيادة حدة التنافس، يٌرجح تزايد توجه الفاعلون بالسوق والسياسة، نحو التفاوض والتعديل، في قضايا الاهتمام البيئي. فمثلاً، أعادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي، تعريف سياساتها بصورة جوهرية، فيما يتعلق بمسائل الإقراض، وإعادة التوطين، بما يتلائم مع بعض المسائل البيئية. كذلك، نلاحظ ظهور ترتيبات مؤسسية بيئية عالمية، أمثال، اللجنة العالمية للسدود، حيث يجتمع الفاعلون في السوق والسياسة وهم:
1- شركات القوة الهيدروليكية الأساسية.
2- ممثلي الدول .
3- الفاعلين في الحركات البيئية.
للتفاوض حول أطر ومعايير مقبولة، لاستثمار موارد المياه وتنميتها.فالضغوط التي توضع على كاهل السياسة والفاعلين من أجل تعديل الاهتمامات البيئية، يمكن أن تسفر عن ظهور مؤسسات أفضل، لتقييم حجم المخاطر البئية وأثرها، فضلاً عن تخفيفها والتعويض عنها.
ثالثاً : يجدر توقع درجة معينة من النزعة المهنية، في القضايا والاهتمامات البيئية. فعلى الرغم، من دينامية القوة التي تستلزمها السياسات البيئية، في مواجهة المصالح المحلية. يمكن، رؤية التضافر بين الاهتمامات البيئية للمواطنين، على نطاق واسع، يتجاوز مجرد سياسة خطر فقدان موارد الرزق، إلى قضايا مثل: تلوث الهواء والمياه، وقضايا الصحة، والحق في الحصول على المعلومات، والحق في المشاركة.
رابعاً:عملية التفاعل التي تقع في المجتمع المدني وحركاته في مجال حقوق الإنسان، من المرجح، أن تغطي أوجه التشابه والمقاربات في الاتجاهات المستقبلية. وقد يثمر عن ذلك، تشكيل جماعات، تضم اهتمامات بيئية من منظور حقوق الإنسان.
تؤكد المناقشات المعاصرة حول البيئة، عدداً من المجالات الحيوية. فلا بد، من البدء برؤية كيف يجب على الاستراتيجية البيئية العالمية، من منظور كوزموبوليتاني، أن تحول السياسة الدولية والعلاقات بين الدول، وأيضاً داخلها، إلى عدم تجاهل دور البناء البيئي الثقافي، في سلوك الدول؟؟
وهذا يتطلب مستقبلاً من الناحية الاستراتيجية، التقليل من التشديد المفرط على القدرات العسكري، والتفوق الاقتصادي والسياسات الأمنية، على حساب الجوانب الآخرى من الضمانات الإنسانية البيئية الايكولوجية، والملاءمة الأخلاقية للقضايا العالمية، التي تؤثر في الأمن العالمي.
توحي الثورات العربية والأحداث التابعة لها، بأن الانعطافة الفضائية - وإن كانت من الممكن أن تكون ذات طابع مفهومي مجرد لدى بعض الدوائر الأكاديمية - تعتبر عنصراً حاسماً في انبعاث التنافسات حول إنتاج الفضاء الفكري للثورات. وبالتالي سوف تبقى فضائيات الجغرافيات الثورية، مهيأة لأن تكون أكثـر الموضوعات الأكاديمية جاذبية. فالفكر الفلسفي، هو الأقدر على معالجة الأسئلة المصيرية، من الهوية والتاريخ والدولة والسلطة، وهو قادر على تكوين الرؤية الشاملة، للإنسان والحياة العربية.
وقد يقرأ البعض هذا المقال، على أنه مجرد استمرار للالتزامات الواضحة، التي ثابتها نزعة يوتوبية جديدة، ذات طابع مثير وإن كانت مبهمة. ذلك أن إطلاق العنان للخيال السياسي والشخصي، إنما يعبر عن رغبة في أن يجعل الشخص من نفسه، في وضع يسهل نقده، حيث يكتب بأسلوب غريب عن الواقع، ويترك نفسه غير محمٍ، بدرع الاستدلال التحليلي، حيث يطير بمظلة هبوط بعيدة كثيراً، عن أن تكون واقعية مقارنة بالماضي - وهذا صحيح جزئياً ولكن، الأمر أكبر من ذلك بكثير - إذ إن نقد ماضينا وواقعنا هو حاجة ماسة، لاكتشاف طرق خلاقة لإعادة فتح الطريق المسدود. ومنطقياً، يعتبر ذلك، إدراكا حصينا، يستجيب للمطالب الصاخبة والمتزايدة، التي تنادي بإيجاد البدائل. وإذا كان ذلك هو في الوقت نفسه، تكرارا لاهتمامات سابقة، ومساهمة مهمة في البحث الجمعي، عن لغة تحمل إلينا المستقبل المحتمل، بوصفه مشروعات فضائية رحبة، فمن هذا المنطلق، قد يكون مسار هذه الدراسة - ولو مؤقتاً - على الطريق الصحيح حتى إشعاراً آخر.
فمسألة كيف يمكن للتغير التاريخي الأساسي أن يحدث؟ هي المعضلة الكبرى بالنسبة للنظرية السياسية الثورية، ولعله، أمر مفهوم أن تتخذ تلك المسألة، صورة للنزعة التفاؤلية الحكيمة للعقل. فالتغير الجغرافي والتاريخي - وبعيداً عن إشكالية البيضة أم الدجاجة - بإمكانه تحويل وعي المجتمع، ولكنه يلزمه حدوث تغير سياسي، في الأشخاص والجماعات، حتى يمكن صنع الجغرافيات الفضائية الجديدة.
فالتغيرات الثورية الحالية كانت بدايتها، عبارة عن انتفاضات تلقائية، تعبر عن إرادة حركة واسعة المدى، من المقاومة غير العنيفة. على الرغم، من أن كيفية حدوثها على وجه الدقة، ظلت غير معروفة. ولكن، ثمة شيئاً واحدا واضحا، هو إنه رغم الهمسات التي تدور حول العكس، فلم تكن الثورات الأخيرة في الوطن العربي من تدبير منظمين ثوريين. فالتشدد في التعامل مع الثورة، يمكن أيضاً، أن يمثل انحناءة متواضعة لحقائق الحياة، والأمر يتطلب بكل تأكيد شحذ كل مهاراتنا وخيالاتنا، لكي نصوغ لغة، نستطيع من خلالها، أن نضع التغير الثوري داخل الإطار الفكري، ونظل مع ذلك موضع تصديق.
أليست الثورة هي مادة التواريخ الماضية، أكثر مما هي مادة جغرافيات المستقبل؟ فهل هناك فعلاً بديل؟ ولعل الحرج العام الحالي الذي يجد الخطاب الثوري نفسه فيه، مصدره ليس شيئاً من قبيل الاستحالة الفطرية لتحقيقه، بقدر ما هو في مدى نجاح الأيديولوجيات الجديدة للحرية، التي تم كشفها وتحديها؟
فالفضاءات الخاصة بهذا النوع من الثورات ليست جزءاً فارغاً - ولن تكون كذلك - إذ أن الأمور يمكن بالفعل أن تكون مختلفة جذرياً عما هي عليه حالياً. وهذا يمثل فضاءً للأمل حقيقياً للغاية. فليس أمامنا أي خيار، سوى أن نقيم داخل تلك الفضاءات، ونحن نبحث بكل قوة عن الوسائل، التي تتيح لنا أن نعيد ملء وتخيل اختراع، مستقبلاتنا العربية الخاصة.
فمن عادات الثورات أن تطيح بالعقبات التي تقف في طريقها، وليس معنى ذلك بأي حال، أن الثورة أياً كانت، تقدم الخلاص الوحيد الممكن. بل على العكس من ذلك، فمن دون أن نضفي أي طابع رومانسي على الثورة، فإن تصور أن التغير الثوري، من شأنه أن يكون خيراً على نحو تلقائي، هو مسألة لا يمكن ضمانها، وأن الأمر يتطلب جهداً ضخماً لإطلاق العنان، للخيال الفضائي الفكري السياسي في هذا الاتجاه.
وإذا كان هذا هو الوقت الملائم لتبني أفكار إيجابية حول إمكانات التغير، فإن إطلاق الخيال حول التغير الثوري وحول كيفية تشجيعه، إنما هو بالتأكيد جزء من هذه العملية. فإنتاج الفضاء هو في حد ذاته، الشيء الرئيس الذي علينا أن نفعله بشكل مختلف في عالم ما بعد الثورات.
وأياً كانت اللغة الفلسفية الغالبة، فإن تلك التنظيرات ذات الطابع الفضائي المستلهمة، هي لحظة فضائية، بقدر ما هي لحظة تاريخية- وإذا كان الاهتمام ما زال أكبر، في مجال السياسة، منه بالنسبة لمفهوم الفضاء - لكن كي نفهم عالمنا العربي الذي نعيش فيه الآن، علينا أن نتعامل مباشرة مع الدعائم النظرية المتنوعة، وتوجيه الميول الفلسفية والنوازع السياسية نحو اكتشاف الفضاء، في إطار عملية التنظير السياسي، للقفز إلى المستقبل المحتمل، في ظل حالة من الفوضى الثورية الشاملة.
ومحاولة استعادة مفهوم المواطن العربي الإنساني بوصفه المفهوم المركزي في مسألة البدائل السياسية، هي محاولة مختلفة تماماً لحل المعضلة الخاصة بالتغيرات الثورية. ويمكن القول، أن هذا المفهوم يتميز بشيء متعلق بتفاؤل العقل، ونقد مضمر للدعاوى المثالية، الخاصة بالمحلية، وأصبح أمراً لا بد منه، في النظريات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمواكبة ومواجهة جنوح الثورات العربية، التي يلاحظ في سوريا - على سبيل المثال - تجاوزها الخطوط الحمر من خلال نشر ثقافة الكراهية والعصبيات الطائفية، مدعومة من نظم عربية أكثر تسلط من غيرها.
فالطبيعة الفضائية لمبدأ مفهوم المواطن العربي الإنساني، هي لحظة إنسانية، وليست لحظة نهائية أو لحظة وحي أو حقيقة مطلقة. بل هي بالأحرى، لحظة قرار وجودي، ونوع من التمتع بالوضوح الجذري، الممتزج بالفعل السياسي. ومفهوم المواطن العربي الإنساني، يزودنا بمدخل إلى البحث العلمي، فيما يجعلنا مواطنين، وإلى العلم بصورة أهم، من حيث هو يشكل الإطار للمستقبلات المحتملة. والمفهوم هذا، يخدم من ناحية أخرى، هدفاً هو موضع تساؤل بدرجة أكبر، فمع وجود مفاهيم سياسية كثيرة للغاية في كل مكان، تبرز الحاجة إلى إيجاد شيء ثابت في مكان ما - هذا إذا أردنا أن يكون لنا منظور ما - ومثل هذا المفهوم، يزودنا أيضاً، بمكان نقف فيه، وسط حالة عدم اليقين التي لا تختص بالحاضر، بل تشمل المستقبل، وربما بدرجة أكبر.
فالإنسان العربي المواطن، ضرورة ليس فقط، لأنه يصنع نوعه عملياً ونظرياً، وإنما أيضاً لأنه، ينظر إلى نفسه، بوصفه كلياً وبالتالي كائن حر. وليس ثمة شك في أن تحرير عاداتنا ومسلماتنا اليومية، من عنف ورتابة بعض التقاليد، وألوان أخرى من القهر، يحتاج إلى أجيال كي يتحقق. فقد أصبحت فكرة التغير الجذري، أكثر تجريداً مثلما أصبحت الحاجة إليها أكثر إلحاحاً. لكن بإمكان الأشياء أن تتغير فجأة، وهو ما يحدث فعلاً في عالمنا العربي. والثورات تعنينا هنا كثيراً، فالحركة المضادة للتسلط، ليس عليها فقط أن تتجاوز الدعايات الإعلامية، التي تعمل على طمس هويتها وانحرافها عن مضمونها السليم- وهو ما يحدث في سوريا حالياً- لتصبح حركة إصلاحية مقبولة، تتبنى حلول واقعية مريحة. بل عليها بالدرجة الأولى، أن تربط طموحها بإستراتيجية متخيلة من صنعها هي، لتبنى سياسات عامة واستراتيجيات تنظيمية، لإزالة كل تعديات السلطات. وذلك وفقاً لمبدأ الاختيار الديمقراطي، لا بمنطق الفرض واستدعاء الخارج، الذي لا يخدم سوى قوى داخلية أكثر ظلاماً من ظلام السلطات، وقوى خارجية، صاحبة معايير مزدوجة، لا تضع مكاناً لحقوق الإنسان وأوطاننا في أولوياتها، في ظل الحلف الخرافي مع إسرائيل المحتلة، للأرض والحقوق الفلسطينية والسورية واللبنانية.
وهذه التحديات المراد تجاوزها، بحاجة للتعبير عنها من خلال مفردات رصينة، تتعلق بمفهوم المواطن العربي الإنساني، في المجال الجغرافي والفضائي. فالتحرر وخلق المساواة على مبدأ المواطنة، هي نقطة الانطلاق التاريخية والجغرافية، التي لا مفر منها، ويجب وإن تكون هدف هذه الثورات بالمفهوم السياسي الشامل. فالثورات تفتح فضاءات الأمل والأبواب أمام الخيارات والبدائل السياسية، وتضيف الطابع الفضائي على الخيال السياسي، لإعادة افتتاح السياسة، باعتبارها نضالاً حول الفضاء، يفتتح بدوره إمكانات ثورية للتغير، قد لا تكون في نطاق توقعاتنا بالكامل، لكننا سنتقبلها بصورة تجعل تفاؤل العقل، يتحقق من تلقاء نفسه. ولا شيء من ذلك، يمكن أن يحدث من خلال قطيعة ثورية ما.
إذ ثمة ضرورة لإيجاد منظور لثورة طويلة المدى. وكل ما بوسع المرء أن يطمح إليه هو: أن يكون أداة تعويض، أو أن يكون طابوراً خامساً داخل النظام، متحفظاً بإحدى قدميه، مغروسة بثبات، في معسكر ما بديل؟
صدر للمؤلف والباحث الأردني \ سلام الربضي عن دار المنهل اللبناني كتاب في الاقتصاد السياسي تحت عنوان
المقاربات والمتغيرات العالمية
عصر الدولة وعصر السوق
جوهر محتوى الكتاب قائم على أن نظرية تآكل دور الدولة, وانحسارها أمام نفوذ الشركات عبر الوطنية, فكرة قابلة قابلة للنقاش. إذ أن الانتقال من عصر الدول, إلى عصر السوق يطرح علامات استفهام على ضوء المقاربات والمتغيّرات العالمية الجديدة؟؟ فالتعامل مع الشركات من معيار أيدولوجي قائم على امبرياليتها الاقتصادية والسياسية, لم يعد يواكب التطورات الاقتصادية العالمية. فهناك, صعوبات علمية تواجه كل مَن يريد معالجة, أو تناول ظاهرة الشركات في سياق العولمة. فالمؤلف يتساءل في كتابه عن إمكانية معرفة, الحد الفاصل بين مصالح الشركات ومصالح الدول؟ وما هي المعايير العلمية الموضوعية للتمييز بين ما هو عام وما هو خاص؟؟
انطلاقاً من هذه التساؤلات _ ووفقاً لأسلوب المؤلف المنهجي _ يمكن فتح آفاق واسعة أمام الباحثين لتقييم طبيعة العلاقة بين السوق والدولة, أو بين الاقتصاد والسياسة. واستطراداً يطرح المؤلف سلام الربضي مثالاً للتوضيح, يتعلق بالمموّل الأكبر لنشاط منظمة الصحة العالمية, وهو بيل غيتس مالك شركة مايكروسوفت, الذي تفوق مجموع تبرعاته ما تقدمه الولايات المتحدة، فهل هذا التمويل يصب في خانة المسؤولية الاجتماعية للشركات؟أم في خانة الهيمنة والسيطرة؟
أقل ما يمكن قوله في تلك التساؤلات أنه يجب النظر لظاهرة العولمة بكل تجلياتها، ومنها الشركات، بمنظارٍ علمي بعيدٍ عن مبدأ الـ"مع" و"الضد"، حيث إن هذه الظاهرة سيف ذو حدين. فهنالك, رابحون وخاسرون، وفي الأحوال جميعاً إن أسوأ نهج في التعامل مع ظاهرة العولمة هو نهج مَن يريد أن "يؤبلسها" أو أن "يؤمثلها" بأي ثمن. فقد أحدثت رياح العولمة، تحولاً جديداً في مفهوم السيادة أخذ شكل تغليب الاقتصادي على السياسي ـ إلى حد ما ـ في سياق انتصار أيديولوجيا اقتصاد السوق. وهذا لا يعني أن الدولة قد انتفت، لكنه أيضاً يعني أنها لم تعد حرة اليدين, وأصبح هناك تغيير في طبيعة وظائفها.كذلك, ظهور المنظمات غير الحكومية وجلّها مناهضة للعولمة وتدافع عن سيادة الدولة. ولكن,المفارقة أن تلك المنظمات لا تقيّد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة, وفي الوقت ذاته تطالب بوضع معايير ضبط وتحكّم على نشاط الشركات؟ وقد تكون تلك المنظمات هي من الذين هم بأمسّ الحاجة لوضع معايير لضبط عملهم ونشاطهم؟
ويؤكد المؤلف سلام الربضي في كتابه, وعلى عكس الكلام البليغ السائد حول عدوانية السوق وجنوح الرأسمالية، ولاعقلانية المؤسسات الكبرى، إن ما نشهده أمام أعيننا، هو ولادة نظام مستقر من السلطات والسلطات المضادة، حتى لو كنا لم نتجاوز بعد لا تساؤلاتنا ولا شكوكنا. فالشركات تعرف أكثر من أيٍّ كان أنها في حالة ضعف نسبي لم تشهده سابقاً. وإن الفكرة الشائعة وسط غُلاة منظّري العولمة بأن الشركات ستنتفع كثيراً من وجود بيئة عالمية خالية من الضوابط تظل فكرة غريبة حقاً.
انطلاقاً من ذلك الواقع, ينتقد المؤلف كثرة الضجيج المفتعل حول العولمة وتداعياتها, ويدعو بدل التكلُّم عن الامبريالية والرأسمالية المتوحشة, لماذا لا يتم التكّلم عن النمط الجديد من التمييز العنصري العالمي البيئي, الذي ترتكبه الدول الصناعية, والشركات, بحق البيئة والأفراد الفقراء؟ وينبه المؤلف, من إن استخدام تعبير التكيّف مع المتغيرات المناخية, قد يكون عبارة عن مجرّد تعبير مُلَطَّف للتمويه عن غياب العدالة الاجتماعية, وسوء توزيعها على الصعيد العالمي. وبحسب رؤية المؤلف يعتبر, إن مثل تلك المقاربة لقضايا العالم المعاصر, ومثل هذه الثقافة, هي الطريق الأفضل والأكثر واقعية وجدوى, في حل مشاكل العالم.
فالتغيرات العالمية على الصعيد الاقتصادي والمالي تطرح تساؤلات عدة, حول العديد من المفاهيم والنقاشات الدائرة حول دور الشركات في السياسة الدولية أو الاقتصاد العالمي, في وقت لم يعد بالإمكان اعتماد المقاربات التقليدية في تحليل ودراسة الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر,كصناديق الثروات السيادية، والقوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق، وزيادة الاعتماد على الدولة كوحدة سياسية وقانونية قادرة على مواكبة تلك التغيّرات العالمية.فقضية صناديق الثروات السيادية قد تمّ تسييسها وأصبحت ظاهرة من ظواهر العلاقات السياسية الدولية. لذا فإن التعامل والدراسة مع هذه القضية لا ينبغي أن يقتصر على الفنيين العاملين في مجال الاقتصاد والاستثمار,بل يجب أن تجنّد أفضل الخبرات,في مجال العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الدولية. ولقد تبدّلت أيضاً الجغرافيا المالية العالمية، وكشفت عن تغيّرات في مناخات الجغرافيا المالية العالمية. فالمفارقة أن الأموال الشيوعية تنقذ المؤسسات المالية الرأسمالية.
وبعيداً عن الاختلافات الفقهية والقانونية وتجاوزاً لمتاهات الفكر السياسي يحاول المؤلف سلام الربضي الإضاءة على المؤشرات,التي تدل وتكشف أن هناك اختراقاً لمكانة الدولة ووظائفها.وهذه الحقيقة تطاول جميع الدول,سواء كبيرة أم صغيرة. فالنظام العالمي يشهد هذه الأيام أزمة ثلاثية الأبعاد: بعد اقتصادي يتصل بالأسباب المباشرة التي أدت إلى تفجيرها, وبعد سياسي يتصل بهيكل وموازين وعلاقات القوة القائمة في النظام العالمي لحظة انفجار الأزمة, وبعد إيديولوجي يتصل بتأثير الأزمة على المستوى الفكري. فلم يعد مقبولا ً التعاطي مع هذا الواقع من منطلق أيديولوجي يعبّر عن مجرد موقف ضد هذه الظاهرة أو معها بدون وجود برنامج عملي.
والسؤال لماذا هناك الكثير من الأفكار عن كيفية توزيع الدخل وليس عن كيفية توليد الدخل؟ إذ لم يعد مجدياً النظر للاقتصاد من باب الزيادة الرقمية للإنتاج القومي، بل لا بد من بناء أساس مادي علمي وتقاني جديد قرين فكر وثقافة جديدين، ودعامة هذا الأساس تكون قائمة على الاستثمار في رأس مال القدرة البشرية بدلاً من رأس المال البشري كهدف وأساس للتنمية والتطوير. أذ أن هامش الحركة المتاح للمجتمع هو دائماً أوسع بكثير من ذلك المتاح للاقتصاد؟ وقد يكون هذا التصوّر بادرة أمل وارتياح. حيث إن, مصير المجتمع هو بين أيدي أبنائه, وقانون الجاذبية الاقتصادية, يفعل فعله الطبيعي على صعيد النموذج الاجتماعي، فهو يكيّفه ولكنه لا يحدّده.
الدراسة في الكتاب قائمة على 6 فصول، تتناول المقاربات والمتغيرات العالمية من خلال التعرف على طبيعة العلاقة بين استراتيجية الدول وظاهرة القومية الاقتصادية. وهذا ما ينطبق على كيفية مقاربة, دور ونشاط الأمم المتحدة في جعل مواطنة ومسؤولية الشركات عبر الوطنية عالميتين. وفي هذا المنحى إشارة إلى إيجابية المنظمات غير الحكومية, التي تمثل القوى العظمى الثانية، والتركيز على عملية التحكّم الاجتماعي من خلال النقابات العمالية. وأهمية عصر المساءلة الذي نعيش في كنفه, ودور القضاء والرأي العام في إمكانية المراقبة. ودراسة المقاربات والمتغيّرات العالمية من خلال, تحليل الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر, كظاهرة التسوّق السياسي, ومبدأ الاستثمار الاستهلاكي، وصناديق الثروة السيادية, والتي تجعل من إشكالية تحديد المعيار الموضوعي للفصل بين مصالح الدول واستراتيجيتها ونفوذ الشركات عملية معقدة.
ومن هذا المنطلق يتطرق الباحث سلام الربضي، إلى إشكالية واقع الضبط والتحكّم في إطار جدلية العلاقة بين السوق والدولة من خلال المؤشرات التي تعبّر عن الإمكانيات الموجودة فعلاً. فالتحالفات الاستراتيجية تخلق سوقاً عالمية بالغة التفاوت، وإن كان ثمة وجود لاقتصاد معولم، فإنه وفقاً لجدلية الزمان والمكان يترك, خللاً واضحاً, ويطرح السؤال التالي:
هل نحن في العولمة أو خارجها؟ وهل الاقتصاد منظّم وفقاً لاحتكار القلة أم وفقاً لمقتضيات التنافس؟
العلاقات التركية الإسرائيليّة تشهد في هذه الفترة الخطيرة حالة من التوتر، رغم المحاولات من أجل تصفية الخلافات القائمة[2]. وقد كشفت العلاقات المتوترة بين البلدين عن نفسها بصورة واضحة عندما اتهمت تركيا إسرائيل بممارسة "إرهاب الدولة" ضد الفلسطينيين. وبالطبع فإنّ هذا الاتهام عكس التوتر في العلاقات بين البلدين خاصة بعد حرب غزة، والانتقادات التركية أصبحت أكثر حدّة تجاه إسرائيل منذ احتلال العراق، لتعبّر عن الاستياء التركي من السّياسة الإسرائيليّة في العراق وفلسطين ولبنان[3].
وتثير تركيا في حركتها الناشطة إقليمياً لتصفية الخلافات وعقد التفاهمات، أسئلة متباينة الاتجاهات من قبيل :
-هل تسعى تركيا إلى محور إستراتيجي يجمعها بسوريا وإيران ويبعدها عن إسرائيل؟
-هل خيار تركيا الاستراتيجي قائم على رغبتها في تراكم الإحلاف للتقدم إستراتيجياً؟
-هل تكون الحركة التركية الجديدة منسقة وغير بعيدة عن الإستراتيجية الأميركية مع الاحتفاظ بقدر من الحرية للمناورة في الجزئيات والتفاصيل ؟
تساؤلات تطرح ولا تكون الإجابة عليها ممكنة، إلا انطلاقاً من التذكير بمسلمات أساسية وتحليل الوقائع مما يساهم في فهم المشهد المستجد في العلاقات الإقليمية التي تنسجها تركيا واثرها على الإستراتيجية الإسرائيلية.
المبحث الأول: كيفية تقيّيم إسرائيل لمصالحها الإستراتيجيّة في شمال العراق.
إذا أردنا معرفة مدى تغلغل النفوذ الإسرائيلي في شمال العراق، فما علينا فعله سوى تتبع مسار العلاقات التركية الإسرائيليّة في الآونة الأخيرة، حيث أصبحت تركيا تنظر باستياء شديد لمدى تدخل وتكثيف الوجود الاستخباراتي العسكري والاقتصادي الإسرائيلي في شمال العراق. وهذا ما قد صرّحت به الحكومة التركيّة على لسان رئيس الوزارء التركي أردغان منذ احتلال الولايات المتحدة للعراق.
ولقد تمّ نشر الكثير من التقارير التي تحدّثت عن قيام إسرائيل بتدريب الميليشيات الكرديّة في شمال العراق، وتورّطها في عمليّات سرّيّة بدول مجاورة ممّا أدّى إلى مزيد من التوتّّر في العلاقات التركية الإسرائيليّة. ورغم نفي كل من إسرائيل والقيادات الكرديّة في شمالي العراق لهذه التقارير، فإنّ تركيا لم تقتنع خاصة مع ورود تقارير أخرى أشارت إلى قيام إسرائيل بإرسال عملاء لها داخل إيران للحصول على معلومات عن برنامجها النووي[4].
تركيا تجد أنّه كلما ازداد التغلغل الإسرائيلي في العراق وتحديداً شمالاً فإنّ ذلك سوف ينعكس سلباً على المستوى الأمني والسّياسي وعلى دورها الإقليمي. والمصالح الإسرائيليّة في شمال العراق المتمثّلة بدعم الأكراد تأتي من منطلق احتواء الخطر على وضع إسرائيل الإستراتيجي. وإسرائيل تعمل في شمال العراق وفقاً لما يخدم مصالحها، ومن الطبيعي أن تكون متضاربة مع المصالح التركية. ولكن :
هل سينعكس ذلك على التحالف الاستراتيجي التركي الإسرائيلي؟
هل هذا الواقع سوف يجعل الولايات المتحدة الأميركيّة مضطرة للاختيار ما بين مصالح إسرائيل في شمال العراق وبين تركيا، حليفتها الإستراتيجيّة؟
دائماً ما يتم تطرح فكرة أن أمام أميركا خياراً واحداً فقط حين يتعلق الأمر بتركيا وكرد العراق، وهو أنه يجب أن تدعم تركيا على حساب الكرد. هذا الطرح يؤمن به كثيرون في تركيا والمنطقة عموماً والجدل حول هذا الموضوع لم يتوقف منذ قررت الولايات المتحدة إقامة الملاذ الآمن لكرد العراق في ربيع 1991 ودعمها الضمني لتحوله لاحقاً إقليماً لكردستان العراق خارج سلطة بغداد قبل أن يكتسب الإقليم الشرعية بموجب الدستور العراقي الذي أقرّه الشعب في استفتاء 2006، وهذا الجدل اكتسب طابعاً حاداً بعد رفض تركيا مرور القوات الأمريكية عبر أراضيها لاحتلال العراق5.
من دون الخوض في إشكالية علاقة الولايات المتحدة مع الأكراد وتركيا، فمن الخطأ تأكيد صحة الافتراض القائل أن التحالف الأمريكي التركي يجب أن يعني دائماً ضمناً أو مباشرة، أنه على حساب كرد العراق [6]. وهذا لا يعني بالضرورة صحة افتراض معاكس مفاده أن مصلحة أميركا في التحالف مع الكرد على حساب تركيا. الأصح يتمثل في أن التحالف الأمريكي التركي يمكن أن يعزز أكثر المصالح الإستراتيجية لتركيا في المنطقة، إذا أصبح كرد العراق طرفاً ثالثاً فيه [7]. والأكيد أيضاً أن تحقيق الاستقرار والحدود الآمنة بين تركيا وإقليم كردستان يخدم مصالح العراق، إذا أخذنا بالاعتبار الانعكاسات السلبية التي يسببها أي توتر بين تركيا والإقليم الذي هو جزء من العراق على العلاقات بين العراق وتركيا. كذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة االتي لها مصالح مشتركة وبعيدة الأمد في العراق، ويهمها إقامة علاقات إستراتيجية بين العراق وتركيا.
ولكن هل تسمح حكومة إقليم كردستان لحزب العمال الكردستاني أن يقف عائقاً أمام تحالف ممكن مع تركيا وأميركا يخدم مصالحها على المدى البعيد؟
أن آفاق مثل هذا التحالف يستحق من إقليم كردستان العراق تفكيراً براغماتياً وجهداً حقيقياً، لإيجاد السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الهدف الإستراتيجي[8]. وهذه الرؤية تبقى مرتبطة بمقاربة إسرائيل لهذا الواقع على علاقتها مع الأكراد، وكيفية تقيّيم إسرائيل لما يجري في شمال العراق على مصالحها الإستراتيجيّة وأمنها القومي، وتحديداً ما بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني.
وتحاول إسرائيل إثارة الأكراد ودفعهم للمطالبة بدولة مستقلة على حساب الدول الثلاث، إيران وتركيا وسوريا، وإسرائيل تقدم مساعدات مختلفة لحزب العمال الكردستاني التركي. الأمر الذي عملت أنقرة على إحباطه، من خلال اتخاذ بعض المبادرات الإدارية والثقافية والاقتصادية لصالح الأكراد، ومن تلك المبادرات إنهاء الحبس الانفرادي لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، والسماح لعودة بعض المقاتلين الأكراد لتركيا [9].
هذه السياسة الجديدة تحمي حدود تركيا من الأخطار المحتملة _ وبخاصة في حال وجود نزعات كردية انفصالية _ لإنقاذ وتفعيل دورها كقوة ناعمة ومؤثرة في محيطها، ولتحقق لها مصالحها التي تجاوزت بها أزماتها الاقتصادية التي سيطرت عليها لعقود.
المبحث الثاني : خيارات وبدائل استراتيجيّة إسرائيلية في ظل مقاربتها للخطر الإيراني
حقيقة المصالح الإسرائيليّة في دعم الأكراد تأتي من منطلق تشتيت القرار السياسي والأمني القومي في العراق، وتوزيع الامكانيّات الاقتصاديّة والعسكريّة على أكبر عدد ممكن من الجبهات لتبقى الجبهة الشرقيّة لإسرائيل أكثر أمنا. وتحاول إسرائيل من خلال التغلغل في شمال العراق سدّ الفراغ السياسي والأمني في حال لم تستطع الولايات المتحدة الأميركيّة السّيطرة على العراق أو فشل مشروعها فيه. ومن هذا المنطلق يجب على إسرائيل أن تبحث عن خيارات وبدائل استراتيجيّة لها تحسّباً لأيّ مستجدّ في ظل مقاربتها للخطر الإيراني، وهو ما تجده في كردستان شمال العراق [10].
من منظور إستراتيجي أمني وسياسي، فإنّ التواجد الإسرائيلي في شمال العراق يعتبر بمثابة ورقة ضغط على كلّّ من سوريا وتركيا وإيران، وخاصّة على المستوى العسكري والأمني حيث أصبحت عملية التجسّس الإسرائيليّة من خلال الأجهزة المتطوّرة أكثر خطورة على تلك الدّول أو من خلال ما يمكن القيام به على صعيد اللّعب بالورقة الكرديّة سياسياً. فتنامي الدّور الإسرائيلي عبر البوابة الكرديّة، والدّور الإيراني عبر البوابة الشيعيّة، يعني أنّ اسرائيل وإيران هما اللاعبان الأساسيّان في العراق بعد الولايات المتحدة[11].
فإسرائيل تشعر بالدّرجة الأولى بأنّّّها مهدّدة من إيران سواء على صعيد برنامج التسلح الإيراني أو تعزيز إيران لموقعها الإقليمي، وتحاول من خلال الورقة الكرديّة إيجاد توازن إستراتيجي مع النفوذ الإيراني في جنوب العراق. وفي هذا الإطار تحاول إسرائيل تحريض تركيا على إيران، معتمدة على ملف الدعم الإيراني لحزب العمال الكردستاني من أجل أن تلعب تركيا مستقبلاً دوراً في تسهيل ضرب المنشآت النوويّة الإيرانيّة في حال قررت إسرائيل فعل ذلك [12].
فمنذ توقيع الاتفاقية الإستراتيجية بين البلدين في عام 1996، كانت تسعى إسرائيل إلى تحقيق عدة أهداف إستراتيجيّة من جرّاء تعاونها الإستراتيجي مع تركيا، من أهمها الضغط على إيران حيث ترى إسرائيل فيها قوّة إقليميّة تشكل خطراً عليها في حال استطاعت إيران امتلاك القنبلة النّووية. بالإضافة إلى أنّ إيران تمتلك بنية عسكريّة متقدّمة وأسلحة دمار شامل وأسلحة كيماويّة. كما أنّّها دولة مصنّّّّعة للأسلحة وبالذّات الصّواريخ البالستيّة، يضاف إلى ذلك أنّ إيران هي داعم رئيسي للمقاومة في لبنان وفلسطين .
وعليه فانّ إسرائيل ترى في تعاونها العسكري مع تركيا ورقة ضغط على إيران, من خلال الأراضي التركية، لتكون قاعدة عسكريّة للتجسّس عليها، وإمكانيّة استغلالها لضرب المنشآت العسكريّة الإيرانيّة، ذلك لأنّ القواعد العسكريّة التركية تتيح لإسرائيل ضرب أيّة أهداف عسكريّة واقتصاديّة في إيران بسهولة لقربها من الأراضي التركية، إذ بإمكان طائرات سلاح الجو الإسرائيلي ضرب تلك الأهداف دون حاجة للتزوّد بالوقود في الجو.
أنّ الخطر الإيراني سيكون هو العامل الرئيسي, في تحديد خيارات إسرائيل الإستراتيجيّة في تلك المنطقة. أنها قد تكون لعبة تبدّل المصالح والأثمان حيث تتخوف إسرائيل من قدرة إيران على الخروج من أزمتها النوويّة مع مجلس الأمن والولايات المتحدة الأميركيّة بأقل الأضرار، مما يترتّب على إسرائيل ضرورة اتخاذ قرارات قد تكون صعبة للغاية[13].
المبحث الثالث : العلاقات الإستراتيجية الجديدة بين تركيا وسوريا
منذ وصول الإسلاميين للحكم في تركيا تحاول الحكومة التركية القيام بجهود دبلوماسيّة بارزة لتدعيم العلاقات التركية مع العالم الإسلامي والعربي، والتي شابها الكثير من التوتر بسبب تنامي العلاقات الإسرائيليّة التركية [14]، حيث قامت أنقرة بتسوية خلافاتها مع سوريا وأصبحت هي الوسيط في مفاوضات السلام بين إسرئيل وسوريا كذلك عملت على توثيق علاقتها التجارية مع سوريا من خلال الغاء تأشيرات الدخول بين البلدين [15].
وعلى الرغم من التطورات الإيجابية التي أصابت العلاقة بين سوريا وتركيا في العقد الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم[16]. ولكن:
هل يمكن القول أن البلدين قد تحررا من الصور والمدارك النمطية التي كانت سائدة بينهما؟ وهل التقارب الحالي يوصلهما إلى مرحلة العلاقات الإستراتيجية القابلة للاستمرار؟
استشراف العلاقة بين الدولتين عمل محفوف بالمخاطر وبمثابة تأمل استباقي للمستقبل[17]، لأسباب تتعلق بخلفيتهما التاريخية وسياستهما الخارجية، بالإضافة إلى البيئة الإقليمية والدولية وبيئتهما البينية. وتتركز العلاقات التركية السورية في الشؤون الإقليمية والدولية من دائرتي نشاط رئيسيتين هما :
1- المنطقة العربية وما يربطها بالصراع العربي الإسرائيلي.
2- العلاقة بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية[18].
أنّ الانفتاح العربي على تركيا قد ساعد على إعادة الدّفئ في العلاقات العربية التركية. ولقد جاءت الخطوة السّياسيّة والدبلوماسيّة العربية في تأييد وصول تركي لرئاسة الأمانة العامة لمنظمة العمل الإسلامي محاولة ناجحة نحو اعطاء تركيا دور على المستوى الإقليمي والإسلامي[19].
وعلى الرغم من انزعاج إسرائيل كثيراً من العلاقات الإستراتيجية الجديدة بين تركيا وسوريا من ناحية، وعلاقاتها المتميزة مع إيران والعراق من ناحية أخرى، فإن تلك البلدان لم تحتج على طبيعة العلاقة بين تركيا وإسرائيل، ولم تضع علاقة تركيا وإسرائيل في الميزان[20]. وتركيا تسعى وبكل جدية لاحتلال موقع متقدم في الشرق الأوسط كانت قد افتقدته منذ قرن تقريباً، وهي تأخذ بعين الاعتبار النفوذ الأمريكي في المنطقة.
كما هنالك قوى إقليمية وعالمية قد ترى بالتقارب التركي من سوريا باعتباره محاولة قد تؤدي إلى تشتيت جبهات المقاومة المدعومة من إيران. ولكن يبقى دون هذا الطموح الإستراتيجي عوائق لا يستهان بها، منها :
1- ما يعود إلى طبيعة العلاقة.
2- ومنها ما يعود إلى الإستراتيجية السورية.
إذ أن سوريا ترى قوتها تكمن في ذاتها واتساع مروحة تفاهماتها تحالفاتها، الآمر الذي يمنعها من الدخول في عملية الإستبدال ويدفعها في عملية التراكم التحالفي.
المبحث الرابع : إشكالية الخيار الاستراتيجي لتركيا مع المقاومة الفلسطينية
تركيا تراقب تطور الاوضاع في الشرق الأوسط وتعلم أن أميركا رغم دخولها المباشر عسكرياً إلى المنطقة منذ عقدين واحتلالها للعراق وأفغانستان، فهي لم تستطع أن ترسي الاستقرار بالمنطقة. وتركيا في علاقاتها الخارجية تجاوزت خلافاتها التاريخية وخلافات جيرانها البينية، بدءاً منإيران والعراق وسورية حتى إسرائيل وأرمينيا وأذربيجيان واليونان، عبر شراكات وتفاهمات سياسية واقتصادية [21].
وعلى صعيد القضية الفلسطينية لقد دعا رئيس الوزراء التركي اردوغان إلى ضرورة ممارسة الضغط على إسرائيل لانها تستمر في انتهاكاتها الجوية والبحرية وقصفها لقطاع غزة. وهذا آمر لا يمكن القبول به ابداً. وانتقد التهديدات بتوجية ضربة عسكرية لإيران لأنه لا يمكن القبول بتجربة عراق جديدة في المنطقة، إذ أن ما تتهم به إيران هو محاولتها امتلاك سلاح نووي، وتركيا لا تؤيد امتلاك أي دولة للسلاح النووي في المقابل هناك سلاح نووي في إسرائيل، والذين ينتقدون إيران لمحاولة امتلاكها سلاحاً نووياً لا ينتقدون إسرائيل التي تمتلك بالفعل سلاحاً نووياً، وهذه مشكلة حقيقية. وذهب اردوغان إلى حد الدعوة إلى اصلاح في هيكلية الأمم المتحدة بسبب عدم تطبيق إسرائيل لأكثر من مئة قرار صادر عن مجلس الأمن [22].
فالقرارات التي لم تطبقها إسرائيل قد تجاوز عددها 100 قرار الآمر الذي يدعو إلى ضرورة القيام بإصلاح في الأمم المتحدة، لأن لا معنى لهذه القرارات ولا قيمة لها إذا كان يتم اتخاذها ولا مجال لتطبيقها. وتركيا لا تؤيد موقف إسرائيل هذا ولن تبقى صامتة ازاء هذا الآمر. ولقد نددت إسرائيل بالتصريحات والمواقف التركية ووصفتها بإنها تتضمن انتقاداً لاذعاً لممارسات إسرائيل وهي تتميز بالهجوم العشوائي على إسرائيل. واتهمت أردوغان بمحاولة السعي إلى الاضرار بالعلاقات الثنائية بين البلدين معتبرة إن انتقادات نركيا العلنية الذي كثيراً ما تتسم بالحدة لسياساتها قد تعرض العلاقات الثنائية للخطر. واكدت حرصها على عدم المس بشرف تركيا، وترغب في علاقات ثنائية جيدة [23].
مع كل ذلك من الواضح أن العثمانية الجديدة ليست أصولية ماضوية، قدر ما هي إعادة توجية للبوصلة الكمالية خارجياً وداخلياً بدرجة ما، عبر ضبط المسافة يبن المصالح والمنافع المشتركة مع أطراف مختلفة ومتصارعة. وقد تكون هذه السياسة التركية المتبعة من قبل حكومة ذات أصول إسلامية، العلامة الأولى والأبرز في مرحلة ما بعد الإسلمة، بعد فشل الإسلام السياسي [24].
ولكن, لا بد من طرح إشكالية الخيار الاستراتيجي لتركيا والمقاومة الفلسطينية اليوم مع بروز الدور التركي في المنطقة باعتباره رافعة للإسلام السني :
في ما إذا كانت حركة المقاومة في فلسطين ستبقي على الرافعة الإيرانية؟ أم أنها ستجد في الحاضنة التركية فرصة للقفز إلى الضفة المحاذية من النهر ؟
قد يرتبط ذلك الخيار الاستراتيجي على المدى البعيد، بتصور الأتراك أنفسهم لدورهم في الشرق الأوسط وأبعاده المختلفة، ومدى تفكير الحركة المقاومة باستدارة إستراتيجية في تصوراتها ومواقفها السياسية الكبرى[25].
ولكن هذا الطموح أمامة عقبات كثيرة، أقلها ما يتأتى عن الواقع الجغرافي ووجود قوى مقاومة أساسية، لا يمكن أن تقدّم تركيا على إيران، ولو كانت لا ترفض مساعدة الطرفين معاً. كذلك الآمر فيما يتعلق بتركيا فهل من مصلحتها الإستراتيجية لعب مثل هذا الدور وهل تضمن إسرائيل, تركيا على هذا الصعيد الإستراتيجي ؟
لقد تصاعد الدور الإقليمي لتركيا في الشرق الأوسط وجاءت حرب غزة لتؤكد هذا الدور، وهي حلقة من حلقاته بعد رعايتها للمفاوضات السورية الإسرائيلية في العام 2008، وهي تعتمد بالأساس على التوازن، والقيام بدور الوسيط لا الطرف وعلى الشراكة مع أطراف الصراع. فهناك شراكة تركية مع سوريا في مجالات مختلفة، وأيضاً الشراكة العسكرية والاقتصادية مع إسرائيل مستمرة [26]. كما أن مواقف تركيا السياسية، وتتمتعها بميزات جغرافية، يؤهلها للأضطلاع بدور كبير في معالجة ثلاث نزاعات خطيرة، ارتسمت منذ أوائل عام 2009 وهي: غزة، والخلاف الروسي الأوكراني على الغاز. وتردي العلاقات الدولية المتصل بالمسألة النووية الإيرانية، ويمكن لتركيا على نحو حاسم الإسهام في إيجاد مخرج للمسائل المتفجرة كلها [27] .
المبحث الخامس : أسباب الدخول التركي على خط الأزمة في المنطقة
تركيا على يقين أن أميركا لن تستطيع في المستقبل أن تستمر مستفردة بقرار المنطقة، لذلك اتجهت لاعتماد إستراتيجية خاصة بها في المنطقة لا يكون فيها ارتباط عضوي كلي مع الولايات المتحدة، ولا يكون فيها أيضاً مواجهة أو عداء لأميركا حتى في إطار علاقتها مع إسرائيل. ويعي أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركية، وهو المنظر الاستراتيجي التركي أهمية تركيا الاستراتيجية لواشنطن. حيث يحاول الربط بين مصالح تركيا الوطنية وتحقيق المصالح الأميركية في قوس جغرافي كبير، ممتد من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وحتى شرق المتوسط. ويسند دائماً سياسات تركيا الخارجية إلى تناغمها مع المصالح الأميركية، إذ إن تحقيق تركيا لمصالحها في جوارها الجغرافي يعني تحقيق الولايات المتحدة لمصالحها [28].
هذا الواقع ملموس من خلال تتبع سياسة تركيا حيال الصراع الأذربيجاني_الأرميني وانحيازها لمصلحة أذربيجان، فمثلاً سعت تركيا لتجاوز صراعها التاريخي مع أرمينيا عبر شراكات اقتصادية، والتوسط في حل مشكلة إقليم ناكورنو كاراباخ مع أذربيجيان[29].
من منطلق أن ضعف أذربيجان المهمة جغرافياً والغنية بموارد الطاقة، سيخسر التحالف الأطلسي التوازن في كامل القوقاز وآسيا الوسطى لمصلحة موسكو وتحالفاتها وبالتالي إضعاف للنفوذ الأمريكي [30].
وقد يكون لتركيا دور على صعيد أزمة الغاز الأوروبي، حيث يمكن امداد الاتحاد الأوروبي بالغاز الروسي عبر مضاعفة طاقة نقل الغاز من تركيا إلى غرب أوروبا أي طاقة مشروع "نابوكو"[31].
فلماذا لا يتم نقل الغاز الإيراني الإضافي إلى الغرب؟
فإذا كان بوسع غاز أذربيجيان بلوغ الأناضول ثم أوروبا عن طريق جورجيا، فغاز تركمانستان وكازاخستان بالأحرى يقتضي حلاً آخر [32]، وهذا يؤمن الاكتفاء الأوروبي من الغاز على ثلاث دعائم هي المغرب وأوراسيا الشمال السلافية وأوراسيا الجنوب التركية الإيرانية[33].
فمن أسباب الدخول التركي على خط الأزمة في المنطقة هو إرسال رسائل مفادها :
1- أن الحضور والدور الإستراتيجي التركي المتنامي في الشرق الأوسط ستستفيد منه أوروبا، إن هي وافقت على ضم تركيا إلى ناديها.
2- تسعى تركيا لاسترداد مكانتها ودورها في العالمين العربي والإسلامي إن سدت أوروبا أبوابها في وجه انضمامها للاتحاد الأوروبي.
إذ في حال تم تطوير التفاهمات الإستراتيجية بين تركيا وسوريا وإيران قد يؤدي ذلك إلى انشاء ما يشبه الكومنولث" بين تركيا وسوريا وإيران ودول الجوار الآسيوية بحيث يمكن أن يكون هذا "الكومنولث" بديلاً لرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ذلك أن بناء منظومة إقليمية تمتد من البلقان والشرق الأوسط. حتى القوفاز يشكل تعويضاً مناسباً عن العضوية في الاتحاد الأوروبي. وقد تستخدم تركيا هذه المكانة الجديدة التي تتمتع بها لتكون بطاقة دخول إلى الاتحاد الأوروبي باعتبارها حلقة الوصل بين أوروبا وآسيا.
وعليه كي لا تبقى تركيا "محرومة من دخول المسجد والكنيسة" على حد وصف المثل الكردي، اتجهت لاستثمار المشاكل والأزمات في المنطقة والارتداد إلى توظيف خلفيتها الإسلامية والشرق أوسطية، بعد أن قضت أكثر من نصف قرن وهي تحاول الإنضمام للنادي الأوروبي [34].
وقد يكون التفاهم التركي الإيراني السوري بأبعادة اللبنانية والفلسطينية قد يشكل نافذة آمنة للولايات المتحدة وإسرائيل في مرحلة تمهيدية وانتقالية نتيجة الوقائع المستجدة في المنطقة، سواء على صعيد اخفاق الولايات المتحدة في العراق وافغانستان من جهة أو على صعيد اخفاق إسرائيل في مواجهة المقاومة في الجنوب اللبناني أو المقاومة الفلسطينية في غزة. تمهيداً لكسب وقت تحتاجه تحديداً إسرائيل، من أجل إعادة رسم وتحديد إمكاناتها العسكرية واستخلاص العبر من إخفاقاتها العسكرية السابقة.
المبحث السادس : مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية وتجاوز مصالح الدولتين
نتيجة الوقائع المستجدة منذ احتلال العراق والتطور الملحوظ في مقاربة تركيا لمصالحها الإستراتيجية يبقى التساؤل الاستراتيجي المطروح حالياً : كيف ينعكس ذلك التطور على العلاقات التركية الإسرائيلية؟ فهل ستزداد وتيرت التوتر في العلاقة وصولاً إلى الانحدار الحاد ومن ثم القطيعة؟
السياسة التركية الجديدة تعمل على كسب المزيد من الأصدقاء ولا ترغب أن يكون لها أعداء جدد أو أن تبني علاقاتها الجديدة على أنقاض بعض الأصدقاء الآخرين وخاصة إسرائيل، لأن ثمن ذلك قد يكون باهظاً على عدة مستويات ومجالات. إذ على الرغم من ردود الفعل التركية المتعددة إزاء الممارسات والمواقف الإسرائيلية المختلفة ومواقف الرأي العام المتشنجة في كلا البلدين وخاصة بعد أزمة قافلة الحرية. ولكن ما زالت الحكومتان تحافظان على علاقتهما الاقتصادية والعسكرية إلى حد ما في جميع المجالات، إذ لم تقم تركيا مثلاً بإلغاء أو تجميد عقود التسليح أو الدفاع أو التجارة مع إسرائيل بشكل نهائي، وهو أيضاً حال العلاقات الدبلوماسية بين البلدين [35].
لا يبدو أن لكلا الطرفين مصلحة في تعميق الخلافات القائمة بينهما أو تطوير مداها ومضمونها بغض النظر عن حجم الضرر أو استفادة هذا الطرف أو ذاك، بل إن أمر العلاقات التركية الإسرائيلية ومستقبلها على ما يبدو قد يتجاوز مصلحة البلدين[36]. إذ أن توتر العلاقة أو القطيعة بين الطرفين قد يُلحق الضرر بكثير من الأطراف الدولية والإقليمية ومنها العربية، وبالتحديد سوريا، فإذا رغبت تركيا الدخول على خط مفاوضات السلام الإسرائيلية العربية ينبغي أن تكون لديها علاقات جيدة مع هذه لدولة [37].
كما أن قدرات تركيا الاقتصادية والعسكرية وتحالفاتها الدولية لا تؤهلها مع ذلك للعب دور إقليمي في كل جهات جوارها الجغرافي، سواء في البلقان أو القوقاز أو الشرق الأوسط أو البحر الأسود وحتى شرق المتوسط، إذ لا يستطيع لعب هكذا دور سوى القوى العظمى، وهي بديهة من بديهيات العلاقات الدولية.وتحاول تركيا أن تخفف من أعباء علاقتها مع إسرائيل حتى تتمكن من ممارسة دور الدولة الإقليمية الكبرى في محيطها. وتركيا تعمل على إمكانية الحفاظ على علاقتهم مع الولايات المتحدة دون المرور بإسرائيل [38].
وفي المنظور الإسرائيلي والأمريكي تركيا تشكل ركناً لا يستغنى عنه في أي إستراتيجية تعد للشرق الأوسط، وحاجة يفرضها الموقع الجيوسياسي لتركيا من وجوهه الأساسية، الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية والسياسية فضلاً عن العسكرية. والولايات المتحدة باتت مدركة للصعوبات التي تواجهها في المنطقة وترى في تركيا احتياطاً إستراتيجي يمكن الركون إليه ليشكل عامل استقرار وحاجة ملحة في الأزمات المعقدة [39].
ولتدعيم الدّور الإسرائيلي في الشرق الأوسط ترى إسرائيل أنّ توطيد علاقاتها الإستراتيجيّة مع تركيا، من شأنه أن يدعم دورها الإقليمي في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والأمنيّة، على الرغم من كل ما تشوب العلاقات بين البلدين حالياً من شوائب. إذ أنّ تلك العلاقة تمنحها بطاقة دخول رسميّة أخرى غير معاهدات السّلام العربيّة الإسرائيليّة، إلى منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى عبر دولة إسلاميّة. وتعلق اسرائيل آمالاً من خلال توطيد علاقتها مع تركيا، على أن تكون بوابة دخول لها إلى الدّول الإسلاميّة في آسيا الوسطى، حيث الموارد الاقتصاديّة الهامّة هناك، وبخاصّة البترول وذلك لأنّ تركيا تربطها بتلك الدول علاقات دينيّة وتاريخيّة وقوميّة وجوار جغرافي [40].
المبحث السابع : الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية وفن الواقعية السياسية في التعامل مع تركيا
الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية تتقن فن الواقعية السياسية والعمل على محورين حتى ولو كان اتجاههما الظاهر متعاكساً. حيث لا يتم الدخول في لعبة سياسة آحادية الاتجاه، بل يتم الاعتماد على الثنائية القائمة على اتجاه رئيسي للحركة المباشرة واتجاه فرعي أو غير مباشر مرادف لبعض القوى الإقليمية صاحبة القدرة على المناورة وصاحبة المصلحة في العمل ذاته. وتطبيقاً لهذا المبدأ فان إسرائيل والولايات المتحدة قد لا ترى خطر إستراتيجي في التحرك التركي الجديد في الشرق الأوسط وتحديداً باتجاه سوريا وإيران، والدخول المباشر على خط القضية الفلسطينية لانتاج تفاهمات إستراتجية معهما، ولا يكون هذا التحرك في نهاية المطاف خطراً إستراتيجياً على كلا الدولتين [41].
الولايات المتحدة وإسرائيل حريصتا على علاقاتهما الإستراتيجية مع تركيا والتحرك التركي ونتائجه قد تقدم لهما اهداف إستراتيجية منها :
أولاً : إقامة التوازن مع إيران على مسرح المشرق العربي .
حتى لا تبقى وحدها من الدول الإسلامية ممسكة بهذا الملف، من حيث دعم الفلسطنيين ونقد المواقف العربية المتعاجزة في مواجهة إسرائيل.
ثانياً: تقديم فرصة لسوريا للتخفيف من اعتمادها على إيران كحليف إستراتيجي.
هذا المنطق تعول عليه إطراف عدة بشكل بالغ لأنه يشكل المدخل الفعلي لإراحة إسرائيل.
ثالثاً: إسرائيل لا يمكنها حالياً الاستغناء أو التفريط بعلاقتها مع تركيا.
وقد تكون مضطرة لمراعاة بعض المواقف التركية وتفهمها صوناً لهذه العلاقة.
هنا قد تستفيد أميركا من الآمر دون أحراج لها. فإنشاء قوة ضغط إقليمي على إسرائيل دون أن تتسبب في أحراج الإدارة الأميركية أمام الكونغرس أو الهيئات الاخرى التي تخضع بشكل أو بآخر لضغط اللوبي اليهودي. والولايات المتحدة قادرة لو شاءت الضغط مباشرة على إسرائيل لتدفعها لفعل ما _ خاصة بعد العام 2006 _ لكنها لاتريد ذلك حتى لا تضعف إسرائيل ولكي لا تنكشف اكثر أمام الدول العربية المتحالفة معها[42].
أمريكا تريد إسرائيل القوية المنيعة ولكن المنضبطة نوعاً ما، وقد يأتي الموقف التركي في هذا السياق وبتقاطع مصالح مع جميع الأطراف دون استثناء. لهذا يأتي الضغط على إسرائيل منحصراً في الشكليات والجزئيات، أما الأساسيات فلن تكون محلاً له حتى اشعار آخر أو تغير جذري في المواقف الإستراتيجية التركية. فالظروف المستجدّة منذ احتلال العراق قد تنعكس على مصالح إسرائيل وتركيا الإستراتيجيّة ممّا قد يتطلب إعادة النظر من قبل الحكومة التركية لسياستها المتّبعة وذلك مع دخول تركيا مرحلة جديدة من حوارها مع أوروبا مستقبلاً حول البدء في مرحلة مفاوضات العضويّة، إذ إنّ تركيا ستكون مضطرّة للبدء في الانسجام مع المعايير الأوروبيّة في السياسة الدوليّة، وفي مقدّمتها إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل تماماً كالولايات المتحدة [43].
وتدرك تركيا أنها مقبلة خلال مفاوضات العضويّة على مطالب أوروبيّة حسّاسة منها الاعتراف بالإبادة الأرمنيّة على الرغم من توقيع اتفاقية سلام مع ارمينيا عام 2009 [44]. وقد تلعب إسرائيل دوراً من خلال علاقاتها ونفوذ اللوبي اليهودي في أميركا وأوروبا في مواجهة بعض هذه المطالب التي تؤرق تركيا. والتنسيق الأمريكي التركي موجود على صعديد تصفية الحكومة التركية لتمرد حزب العمال الكردستاني شمال العراق، من الطبيعي إلا يأتي هذا التنسيق خارجاً عن الإرادة الإسرائيلية.45
الخاتمة
على الرّغم ممّا طرأ على تلك العلاقات الإسرائيليّة التركيّة من مستجدّات، الا أنه من المستبعد أقله حالياً أن تكون هناك حالة تغيّر إستراتيجي من قبل الطرفين في علاقاتهما الإستراتيجيّة. وهناك سياسة تركية جديدة مفادها إبعاد تركيا عن سياسة المحاور وإقامة علاقات جيدة مع جميع القوى الإقليميّة والدوليّة بالقدر الممكن. وفي هذا السّياق كان الانفتاح التركي على سوريا وإيران وروسيا وقبرص وارمينيا، وإذا كان من المفترض اعتبار ذلك تقليص للعلاقات مع إسرائيل، الا أنّ التعاون بين تركيا وإسرائيل لم ينقطع بشكل نهائي وما زال مستمراً. كما إن تمتين هذه العلاقات من شأنها زيادة نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط نتيجة علاقاتها الإستراتيجيّة مع كل من تركيا وإسرائيل.
العديد من المعطيات تؤكد استمرار العلاقة الإستراتيجية بين إسرائيل وتركيا، منها الإعلان عن مشروع تركي- إسرائيلي مشترك لمد أنابيب نفط وغاز إلى الهند من بحر قزوين مروراً بمرفأي جيهان التركي وإيلات الإسرائيلي. وهناك خطط وضعت موضع التنفيذ أهمها مشروع القرن الإستراتيجي الذي تشكّل تركيا محوره الأساسي والذي تفوق كلفتة 12 مليار دولار. الذي يربط البحور الأربعة، قزوين والأسود والمتوسط والأحمر، ويساعد على ربط منطقة آسيا الوسطى بالشرق الأوسط ضمن رؤية تركيّة لدور محوري في مشروع طاقة أكبر يمتد من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً ومن تركيا شمالاً إلى الهند جنوباً التي انضمت إلى المشروع في نهاية 2008. ويتضمن من ضمن ما يتضمن أنابيب لنقل النفط والغاز والماء والكهرباء والألياف الضوئية من تركيا إلى إسرائيل([46]).
المؤكّد أنّ هناك تآكلاً في العلاقات الإستراتيجيّة بين تركيا وإسرائيل. ولكنّ , إ سرائيل تدرك أنّ تركيا ما زالت تعتبر إسرائيل شريكاً إستراتيجياً لها في الشرق الأوسط، وأنّ هناك مصالح إستراتيجيّة قويّة تربط بين البلدين. ورغم مخاوف إسرائيل من التقارب التركي مع كل من سوريا وإيران، فإنّها تراهن على عدم قيام تركيا بمراجعة علاقاتها الوثيقة بإسرائيل, على الرغم من التوتر الحاصل في العلاقات بين البلدين، حتى لو وصل الآمر إلى درجة تخفيف مستوى التمثيل الدبلوماسي أو لو حتى تم تجميدها أو قطعها[47].
[2]لقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بـ "إسرائيل" كحكومة شرعية وطالما ارتبطت معها بعلاقات ودية، وفي بعض الأوقات بعلاقات
متوتره, وقد اعترفت بها في عام 1949.
[3]"اردوغان يندد برفض اسرإئيل لـ 100قرار دولي ويدعو لإصلاح الأمم المتحدة"،صحيفة الرأي ،عمان،12-1-2010.
[4]وقد تم نشر الكثير من التقارير التي تشير الى تغلغل النفوذ الإسرائيلي في شمال العراق،ومن تلك التقارير تقرير الكاتب الأمريكي الشهير
سيمور هيرش مجلة، نيو يوركر، مجلة نيويوركر، 21-6-2004 .كذلك فقد ذكرت كثير من التقارير الاستخباراتية الغربية ومنها الفرنسية في العام 2007 عن وجود 1200 عنصر من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية منذ عام 2004 يدربون عناصر البشمركة في مدينتي أربيل والسليمانية وهذا ما كان قد اكدتة صحيفة بديعوت أيضاً بكشفها أن معسكراً للتدريب يعرف باسم المعسكرZ يديره ضباط إسرائيليون أنشئ في منطقة صحراوية شمال العراق. راجع صحيفة الأخبار،بيروت،19-1-2010..
[5] فيما شارك الأكراد بحماسة مع الولايات المتحدة في احتلال العراق وكان لهم دوراً فاعلاً في مناطق الموصل وكركوك .
[6] إن أي استنتاج يقوم على هذا الافتراض قابل للنقاش.
[7] كامران قرة داغي،" تحالف تركي كردي أمريكي؟ لم لا"، صحيفة الحياة، بيروت، 30-3-2008.
[8]لمزيد من المعلومات حول مجمل ابعاد وتداعيات المسألة الكردية يمكن مراجعة كتاب الدكتور موسى ابراهيم، "قضايا عربية ودولية
معاصرة"، دار المنهل اللبناني ، بيروت،2010، صفحة 127-169.
[9]بالإضافة إلى قيام أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي في اواخر العام 2009 بزيارة إقليم كردستان العراق في زيارة هي الأولى من
نوعها لمسؤول تركي لكردستان العراق، حيث التقى رئيس الإقليم مسعود برزاني في أربيل وتم افتتاح قنصلية تركية فيها ، راجع صحيفة
الأهرام،القاهرة،1-11-2009.
[10]سلام الربضي،"العلاقات التركية الإسرائيلية وكردستان العراق"، صحيفة خبرني الالكترونية، 7 -2 – 2010.
[11]سلامة نعمات،"عراق عربي شقيق"، صحيفة الحياة ، بيروت، 25-6-2004.
[12] سلام الربضي،"العلاقات التركية الإسرائيلية وكردستان العراق"،www.salamalrabadi.blogspot.com تم الدخول بتاريخ
21\12\2010.
[13] زهير قصيباتي،" شمس الاتراك والغبار الأميركي الإسرائيلي"، صحيفة الحياه، بيروت، 25/2/2008.
[14]خاصة في أعقاب إبرام اتفاقية التعاون العسكري بين البلدين عام 1996 ، وأهم ما جاء فيها أن يشترك جيشا البلدين في أي معركة تحدث بين احداهما ودولة ثانبة، مما يسمح لإسرائيل بزيادة عمقها الإستراتيجي .
[15]هذا وقد وقعت سوريا وتركيا إعلاناً مشتركاً لتأسيس مجلس للتعاون الإستراتيجي ويشمل المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والنقل والطاقة ومجالات المصادر المائية والبيئية والثقافة والتعليم والعلم كما تم الاتفاق على إلغاء التأشيرات والسمات المتبادلة على سفر المواطنين بما يسمح للمواطنين في كلا البلدين بالتنقل بينهما دون إجرائات على الحدود. راجع صحيفة السفير،بيروت،17-9-2009.
[16] ان العلاقات السورية التركية مرت بمراحل متأزمة في أواسط وأواخر التسعينات ومنها على سبيل المثال: اتهام تركيا لسوريا بدعم
حزب العمال الكردستاني ، ومنها أيضاً الخلاف المائي بين البلدين.والجدير ذكره أن تركيا مازالت مسيطرة على لواء الاسكندرونه الذي
احتلته عام1939 من سوريا.
[17]في هذا الصدد يمكن مراجعة كتاب سعيد عقيل محفوض ،"سورية وتركيا الواقع الراهن واحتمالات المستقبل"، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،2009. الذي يستخلص ان العلاقة بين البلدين تنمو في ظل بيئة إقليمية مخترقة وهشة، على الرغم من التفاصيل والتعليقات اليومية والكتب العامة المنجزة سريعاً، والتي تجعل القارئ يظن انه يفهم ما يدور بين الجارين بمجرد الاطلاع عليها.
[18]عماد الشدياق،" متغيرات دولية تفرض افقاً تقاربياً جديداً"، صحيفة المستقبل،بيروت،12-1-2010.
[19]حيث تم اختيار التركي كمال الدين إحسان أوغلي أمين عام لمنظمة المؤتمر الإسلامي .
[20]إذ بدا الأمر طبيعياً خاصة وأن الكثير من الدول العربية ترتبط باتفاقيات وبعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل بشكل علني كمصر والأردن، أو
بشكل خفيّ وغير مباشر أحيانا كبعض دول الخليج العربي ودول المغرب العربي .
[21]سلام الربضي،"أمر العلاقات التركية الاسرائيلية ومستقبلها قد يتجاوز مصالح الدولتين"،مجلة مدارات استراتيجية،صنعاء،العدد4-5
،2010 .
[22]"اردوغان يندد برفض اسرإئيل لـ 100قرار دولي ويدعو لإصلاح الأمم المتحدة" ، صحيفة الرأي،عمان، 12-1-2010.
[23] المرجع نفسه.
[24]لمزيد من المعلومات حول التطوارات الداخلية التركية والمتغيرات الإستراتيجية التركية في مقاربتها للمستجدات على الساحة الإقليمية
والدولية يمكن مراجعة كتاب : محمد نور الدين،" تركيا الصيغة والدور"، دار الريس ، بيروت ، 2008.
[25]) ) محمد أبو رمان ، "هل خرجت حماس أقوى سياسياً أم أضعف"، صحيفة الحياة ، بيروت ، 29-1-209
[26] هاني نسيره، "اردوغان وفحوى لخطاب عن بني عثمان"، صحيفة الحياة، بيروت، 18-1-2009.
[27] الكسندر ادلر،"تركيا في القلب من أزمات أوروبا الكبرى ومعالجتها"، صحيفة لوفيغارو ، باريس، 24-1-2009.
[28] للاطلاع على الاستراتيجية التركية والتعمق برؤية وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو يمكن مراجعة كتابه،" العمق الاستراتيجي "، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، الدار العربية للعلوم ،مركز الجزيرة للدراسات، بيروت، الدوحة،2010.
[29]سيطرت أرمينيا على هذا الإقليم إثر الصراع الدموي الذي تفجر بين أرمينيا وأذربيجان في عام 1992، والذيانتهى عملياً بسيطرة أرمينيا
على إقليم ناغورني كراباخ والذي تطالب أذربيجانباستعادته.وتركيا تربط تحقيق المصالحة الشاملة مع أرمينيا بالتوصل إلى تسوية
للصراع الأرميني - الأذربيجاني، باعتبار أن تركيا لها مصالح إستراتيجية في أذربيجان, فالأذريين هم من أصول تركية. كما أن تركيا
تخشى من أن تؤدي مثلهذه المصالحة دون تسوية الصراع الأذري- الأرميني إلى انقلاب أذربيجان عليهاوالتحالف مع دول إقليمية كبرى
كروسيا، وأن يؤدي كل ذلك إلى تغيير وجهة خطوطأنابيب النفط والغاز التي من المقرر مدها عبر الأراضي التركية. وفي بداية العام
2009 تم افتتاح اذاعة تركية باللغة الارمنية في تركيا تعبيراً عن سياسة الانفتاح التركية تجاه أرمينيا. ولمزيد من المعلومات حول قضية
كاراباخ يمكن مراجعة كتاب: شاهين افاكيان ،" كارباخ وجهة نظر قانونية"، ترجمة وتعريب نورا اريسيان،الهيئة الوطنية
الارمنية_الشرق الاوسط،2006.
[30] مصطفى اللباد،" مفكر تركيا الاستراتيجي: أحمد داود أوغلو"، صحيفة الجريدة،الكويت،11-4-2009.
[31] جورج كيوك ،" تركيا ممر أوروبي للطاقة وبديل من روسيا"، صحيفة لوفيغارو ، باريس، 22- 6- 2007.
[32] حيث ينبغي نقله إلى باكو في أنبوب بحري يمر ببحر قزوين وهو باهظ التكلفة.
[33] جورج كيوك ،المرجع سابق الذكر.
[34] هوشنك أوسي، "اردوغان واعظاً وداعية سلام"، صحيفة الحياة ، بيروت، 1-2-2009.
[35] على الرغم من اقدام تركيا على عدم السماح للجيش الإسرائيلي بالمشاركة في المناورات العسكرية لحلف شمال الاطلسي في اواخر العام
2009. حيث كان متوقع أن إسرائيل ستستغل مناورات "نسر الأناضول" لجمع معلومات عسكرية عن سورية وإيران الأمر الذي دفع
تركيا، فيما بعد، إلى رفض مشاركة إسرائيل فيها وصولاً إلى إلغائها بعد أن رفضت قوات الناتو "حلف الأطلسي" القرار التركي.
[36]د. عبد اللّطيـف الحنّـاشي،"العلاقات التركية الإسرائيلية وانعكاساتها على الأمن القومي العربي"، www.alarabonline.org/index.asp?fname=%5C2009%5C11%5C11-19%5C822.htm تم الدخول
بتاريخ 26-11-2009
[37] وكان قد صرح الرئيس السوري بشار الأسد مطالباً تركيا بتحسين علاقاتها مع حليفها الإسرائيلي، وذلك حتى تضمن مجدداً القيام بدور
الوساطة بين سوريا وإسرائيل. كما أكد إذا رغبت تركيا في مساعدتنا في موضوع إسرائيل فينبغي أن تكون لديها علاقات جيدة مع هذه الدولة. كما تساءل الرئيس السوري كيف يمكن تركيا عكس ذلك أن تلعب دوراً في عملية السلام ،صحيفة الخليج،9-11- 2009".
[38] نبيل زكي ،"تركيا تبحث عن مجالها الحيوي"، www.alarabonline.orgتم الدخول بتاريخ 25-9- 2010.
[39] العميد الدكتور امين حطيط ،"اين امريكا من اعادة التموضع التركي"،/www.tayyar.org/Tayyar/News/PoliticalNews/ar-L
B/1290232869 تم الدخول بتاريخ 10-11-2009.
[40] لمزيد من المعلومات حول التطور التاريخي للعلاقات الإسرائيلية التركية يمكن مراجعة كتاب : مرغريت حلو،" العلاقات التركية
الإسرائيلية"،مركز الدراسات الارمنية، بيروت 1994.
[41]سلام الربضي،"أمر العلاقات التركية الاسرائيلية ومستقبلها قد يتجاوز مصالح الدولتين"،مجلة مدارات استراتيجية،صنعاء،العدد4-5
،2010 .
[42] حيث ضغطت الولايات المتحدة على إسرائيل انذاك من خلال وزيرة الخارجية الأمريكية كوندا ليزا رايس من أجل عدم وقف عدوانها على
لبنان مما أدى إلى اطالة آمد الحرب لمدة 33 يوم.
[43] سلام الربضي ،" أفاق الواقع التركي الإسرائيلي "، صحيفة العرب اليوم ،عمان 6-11-2010.
[44]ثمةمشكلات وعقبات تعترض طريق المصالحة النهائية وأهم هذهالعقبات محاولة البحث عن أرضية للتوصل إلى حل لقضية الإبادةالارمينية التي وقعت في الربع الأول من القرن الماضي. حيث تم تشكيل لجاناً حكومية وأخرىمشتركة لدفع وتيرة الاتفاق في هذا السياق,فقضية الإبادة الارمينيةحفرت نفسها عميقاً في الذاكرة والثقافة الروحية والوجدانية لدى الأرمن في الداخلوالخارج. وخلال العقدين الماضيين نجحت اللوبيات الارمينية في أوربا وأمريكا، وبدعمرسمي من أرمينيا في جعل هذا الملف قضية سياسية حاضرة على أجندة برلمانات العديد منالدول، فقد أقر عدد من هذه البرلمانات قوانين بهذا الخصوص تحولت إلى نقطة خلافسياسية مع تركيا.ولمزيد من المعلومات حول الإبادة الارمنية والواقع الارمني يمكن مراجعة كتاب عدنان السيد حسين،"حق تقرير المصير القضية الارمنية نموذجا"، مركز الدراسات الارمنية، بيروت، 1998. كذلك راجع موقع الهيئة الارمنية الوطنية – الشرق الاوسط على الانترنت: http://www.ancme.net
[45] محمد نور الدين ،"العلاقات التركية الإسرائيلية مرحله جديدة"، صحيفة الشرق ، الدوحة ، 9/1/2005.
[46] تقرير ،"أمن الطاقة الإسرائيلي والجيوبوليتيك الإقليمية"، مركز الجزيرة للدراسات، 13-7-2010.
[47]سلام الربضي ،"أمر العلاقات التركية الاسرائيلية ومستقبلها"، مجلة مدارات استراتيجية، صنعاء،العدد4-5، 2010 .