2010-04-22

الدبلوماسية والاستراتيجية الدولية





سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية



عندما نتحدث عن الدبلوماسية والاستراتيجية يجب الأخذ بعين الاعتبار الفرق  بين الدبلوماسية والدبلوماسيين فمن الممكن أن تكون هناك دبلوماسية من دون دبلوماسيين (تغييب الدبلوماسيين في المشاركة باتخاذ القرارات أو المشاركة في العملية السياسية) كما حدث مثلاً مع الدبلوماسية الفرنسية في عهد الرئيس شارل ديغول. أو ما عبرت عنه النقاشات التي كانت دائرة في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية الاحتلال الأمريكي للعراق أقلها الرسالة الموجهة من قبل مجموعة من الدبلوماسيين الأمريكيين للرئيس جورج بوش انذاك، وهو ما حدث أيضاً في بريطانيا والتي تعبر عن تهميش الدبلوماسيين عند وضع الاستراتيجيات أو تنفيذها.
على صعيد الاستراتيجية الدولية يلاحظ أنه خلال 20 سنة الماضية تغير العالم تماماً: لقد تعولم العالم، انتقلنا من مرحلة الحرب الباردة ومن نظام القطبين (الاستراتيجيتين) إلى نظام عالمي قد يكون أحادي (استراتيجية واحدة) إلى حد ما. إذ جاءت أحداث 11/9 لتحمل معها استراتيجية مكافحة الإرهاب ولقد تغيرت وتعدلت المعطيات فتنامى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول، وشهدت الساحة العالمية الصعود القوي وتزايد نفوذ بعض اللاعبين على الساحة الدولية عابري الجنسيات مثل الشركات عبر وطنية، المجتمع المدني العالمي، ومئات الألوف من المنظمات غير الحكومية الموجودة في المشهد الدولي، والتي لا يمكن للدول تجاهل عملها. كذلك طغيان مشاكل جديدة على الصعد الاقتصادية والصحية، والبيئية، وحقوق الإنسان، وظهور ظواهر جديدة، كالإرهاب والمافيا والهجرة. وكل تلك المعطيات بدأت تأخذ طريقها على الساحة الدولية وأصبح هناك تشابك في العلاقات الدولية مما انعكس على استراتيجيات الدول وأصبحنا أمام استراتيجيات مختلفة وفي هذا الإطار تطرح عدة إشكاليات :
1.  كيف يمكن للدبلوماسيين أن يتكيفوا مع هذه المعطيات أو الاستراتيجيات؟
2.  هل هذه المستجدات تفرض علينا الفصل ما بين الدبلوماسية والدبلوماسيين؟
3.  أين هي الدبلوماسية من تلك الاستراتيجيات؟
4. هل واقع عالمنا المعاصر أو عالمنا العربي يعكس واقع الخلل في    
    الاستراتيجية أم في الدبلوماسية؟
5.  هل الدبلوماسية أصبحت بحاجة لتوجه استراتيجي جديد؟
6. هل الاستراتيجية بحاجة لتنشيط الدبلوماسية العامة؟

كل تلك المتغيرات والمعطيات على الصعيد الدولي تضعنا أمام تساؤل حول نظرية الواقعية في العلاقات الدولية. فالواقعية ترى العالم على هيئة نظام تهيمن عليه الدول وتسعى هذه الدول بشكل أساسي لتحقيق الأمن والقوة والسلم. ولكن اليوم لم تعد الدولة هي محور نظام الحياة الدولية فقط، فهناك تزايد لنفوذ فاعلين غير دولتيين أصبحوا محددين رئيسيين للعلاقات الدولية. ومن هذا المنطلق نجد أنفسنا أمام نظامين متضاربين.

أ‌.  نظام يخضع لدوافع تقليدية في البحث عن القوة والمصالح والسيادة.
ب‌. نظام يخضع لدوافع الاستقلال وتجاوز الدول.

كما أن الرهانات الدولية في ظل العولمة أضحت مرتبطة بشكل أقوى بالقضايا الاجتماعية وأقل تفاعلاً مع الاستراتيجيات السياسية والعسكرية وهذا واضح من خلال الفاعلون الاجتماعيون حيث أن المجال الدولي لم يعد حكراً على الحكومات فقط بل أصبح فضاءاً عاماً يتدخل فيه كل من الأفراد والمنظمات غير الحكومية، والشركات غير الوطنية، ووسائل الإعلام، فالمشاكل العالمية تهم العالم ولم تعد حكراً على دول بذاتها وحكام معينين. ولدينا كثير من الأدلة التي يمكن ذكرها والتي تثبت أن الدول لم تعد وحدتها قادرة على تحديد العلاقات الدولية كما كان في السابق، فلنذهب إلى اجتماعيات منظمة التجارة العالمية لنرى ما هو مدى تأثير المنظمات غير الحكومية، كما أن مؤتمرات التنمية المستدامة ومنذ مؤتمر جنوب أفريقيا 2002 تعكس مدى هذا التأثير ناهيك عن كثير من الاتفاقيات العالمية الدولية التي لم يكن بالإمكان وجودها بدون القوى الفاعلة غير الدولتيين، مثل اتفاقية أو معاهدة حظر الألغام عام 1997 التي جاءت بعد حصيلة عمل للمنظمات غير الحكومية من خلال الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية 1992-1997. ومن الأمثلة أيضاً بروتوكول السلامة البيولوجية عام 2000، وتقرير اللجنة العالمية للسدود المعنون "السدود والتنمية" عام 2000 يعكس واقع العلاقات الدولية المعاصر، ما بين الدول والفاعلين الاجتماعيين خاصة على مستوى القضايا البيئية، كذلك الحملة العالمية لتخفيض أو لالغاء ديون الدول الفقيرة والتي حققت انجازات ضخمة جداً.

أمام هذين النظامين الذين يمثلان استراتيجيات مختلفة وفي ظل مناخ عالمي متأزم منذ تفجيرات النيويورك واقعنا قد يحتاج  أكثر من أي وقت مضى لدبلوماسية المواجهة. وأمام ظهور أشكال مختلفة – عما مضى – من الدبلوماسية القائمة على المؤتمرات والحملات والضغوط والسياسات الإعلامية والرأي العام العالمي ونشاطات مختلفة وكلها أشكال جديدة من العمل الدبلوماسي وجلها تأتي لتعبر عن جدلية مصدر السلطة العالمية وبالتالي طرح إشكالية التساؤل حول وضع الدبلوماسي :
 هل يشارك في وضع الاستراتيجيات الموجودة على المسرح العالمي من أمنية واقتصادية واجتماعية وبيئية؟
هل الواقع العالمي والذي أصبح قائم على استراتيجية مكافحة الإرهاب واعتبار الأمن كأساس للتطور الاقتصادي يعتبر بمثابة عودة مباغتة للدبلوماسيين؟ الذين يستطيعوا استخلاص _ من تناقضات الحياة الدولية_ السبب الذي يسمح بتنظيمها ؟
أم يعتبر بمثابة ضربة مباغتة للدبلوماسيين وفتح الآفاق الواسعة أمام ما يعرف بدبلوماسية العلاقات الخاصة؟

وإذا كانت معظم التقارير الدولية تشير إلى أن السواد الأعظم من النزاعات في عالمنا المعاصر تتم داخل الدول فما هو هامش الحركة المتاح أمام الدبلوماسية التقليدية في هذا المضمار؟ وهل يعتبر هذا الوضع الدولي بمثابة مؤشر يدعم نظرية تراجع الدبلوماسية التقليدية؟ حيث من الطبيعي – في النزاعات الداخلية داخل الدول – تراجع الدبلوماسية التقليدية من منطلق قاعدة عدم الاختصاص. وبما أن معظم النزاعات داخلية فإن أهمية الدبلوماسية ودورها يتراجعان؟

في النهاية لا بد من التسأول عن مستقبل الخريطة الدبلوماسية في حال تم الأخذ بمقترحات الأمين العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي، الداعية لربط مسألة التصويت لأعضاء الأمم المتحدة بمقدار مساهمتها في تمويل أنشطة الأمم المتحدة، وهذا ما عاد وأكده أيضاً الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان أثناء مشاركته في مؤتمر دافوس الاقتصادي 2004 طالباً من المنظمات غير الحكومية  والشركات عبر الوطنية  تقديم الدعم المالي للمنظمة؟ 

2010-04-19

القانون الدولي والتحولات العالمية





سلام الربضي \ باحث في العلاقات الدولية

صحيفة العالم العراقية \ 27-4-2010

http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=7486



لقد شكل انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة محطة تحول حاسم في مسار العلاقات الدولية والقانون الدولي. فبعد سيادة نظام دولي عكس موازين القوى السائد الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية وترجمت ضوابط في ميثاق الأمم المتحدة، جاءت التحولات المتسارعة لتكشف قصور وعجز مبادئ القانون الدولي عن مقاربة الأوضاع الدولية الجديدة وهو الأمر الذي فتح المجال واسعاً أمام بروز عدة ممارسات فردية، تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة مثل:
1-  أزمة لوكربي
2-  التدخل في الصومال
3-   كوسوفو
4-  أزمة الخليج الثانية
5- الحرب الأمريكية على العراق.
ومن الواضح أن هذه الوضعية المرتبطة بأزمة القانون الدولي دشنت لواقع دولي جديد طرح فيه بإلحاح مسألة آلية عمل القانون الدولي؟
إن المشكلة الكبرى أو المعضلة التي يواجهها القانون الدولي متمثلة في الهوة الصارخة بين الأهداف التي يفترض من القانون الدولي تحقيقها والأزمة التي يعيشها في ظل التحولات الدولية مثل انهيار الاتحاد السوفييتي، أحداث 11 أيلول، احتلال العراق. هذا الوضع يطرح بشدة اشكالية مصادر خلق القاعدة القانونية الدولية في ظل واقع دولي يتسم بالأحادية انعكس على مجمل القضايا والمنازعات العالمية المعاصرة مما جعل المبادئ القانونية الدولية والمرجعيات الأساسية التي قام عليها محل تساؤل؟

لقد أضحت المقاربات السياسية هي المهيمنة على مثيلاتها القانونية. كما أن النظام الدولي السياسي قد شهد مجموعة تبدلات جذرية سواء على صعيد الأزمات أو الاهتمامات ولكن النظام القانون الذي يعتبر الضابط المفترض في العلاقات الدولية ظل ثابتاً ولم يواكب هذه التحولات. فالتحولات الجديدة أظهرت أن هناك فراغ قانوني على مستوى التأطير. فمثلاً إذا كان التصور في القانون الدولي للحرب على أساس أنها تتم بين دول ذات سيادة فلقد ظهرت نزاعات داخلية لا تخلو من تداعيات دولية مثل 1- أزمة الكونغو 2- أزمة كوسوفو 3- الصراع في الصومال...الخ.

كما أن قضية محارية ومكافحة الإرهاب تطرح وبألحاح جدلية دور الأفراد في القانون الدولي وفي العلاقات الدولية حيث اصبح هنالك أفراد أو منظمات غير دول قادرين على القيام بأعمال حربية وأمنية وهذا الواقع لم يلحضة القانون الدولي وخير دليل على ذلك عدم وجود تعريف واضح للإرهاب ليومنا هذا وهذا من الأسباب التي جعلت من المحكمة الجنائية الدولية تقوم بعدم أدراج الأعمال الارهابية ضمن أختصاصها مباشرة بأستثناء طلب مجلس الأمن منها ذلك.

إذاً هنالك تعارض ما بين تحديات المحافظة على السلم والأمن الدوليين من جهة وضرورة احترام سيادة الدول من جهة أخرى. وهذه الإشكالية واضحة جداً من خلال متابعتنا لما يعرف بعولمة الإرهاب ومكافحته وأيضاً التدخل الإنساني من أجل حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية مما جعلنا أمام واقع ذات اجتهادات وإفرازات تحاول التأسيس لنظريات جديدة لمبدأ عدم التدخل. وإذا كان الصراع الأيدلوجي ما بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قد انعكس على عمل مجلس الأمن وعطّل عمله إلا أن محاولات تفعيلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي طرحت الكثير من علامات الاستفهام لدرجة الوصل لقناعة مفادها أن مبدأ عدم استخدام القوة أو التهديد بأستخدامها أصبح في العلاقات الدولية أمراً مثالياً. وهذا جلي من خلال استخدام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة كأداة لسيطرة الدول الكبرى الخمس وخاصة الولايات المتحدة.

المؤشرات والممارسات الدولية تشير إلى أن تطبيق مبدأ عدم التدخل يعبر عن مثالية هذا المبدأ الذي نتج عن حالة الاحباط الذي خلفته الحروب ومحاولة الحد من اللجوء إلى القوة. ولكن وللأسف لقد تحول هذا المبدأ في الممارسة إلى مبدأ سياسي وقانوني اسمه التدخل وهذا واضح من خلال أن كثير من التدخلات التي تتم تحت غطاء
أ– نشر الديمقراطية ب- الضرورات الإنسانية ج- حماية البيئة...الخ
تتم بشكل يتناقض مع مبادئ القانون الدولي ليعكس في كثير من الأحيان مصالح بعض الدول خاصة عند اللعب على وتر الملائمة ما بين مصالح الفرد من جهة ومصالح الدولة من جهة أخرى. الصعوبة تكمن في الموازنة بين حقوق الفرد وحقوق الدولة السيادية وبين الاختصاص العالمي التي تصطدم بمبادئ القانون الدولي التقليدي المرتبطة بالسيادة ومبدأ عدم التدخل ومصالح الدول المتباينة واراداتها وهذا يمكن معرفته بوضوح من خلال تتبع فكرة الاختصاص العالمي للمحكمة الجنائية الدولية.

بعض القضايا المطروحة على الساحة الدولية مثل عولمة الإرهاب ومكافحته أو عولمة حقوق الإنسان ما زالت مرتبطة ومقيدة بالاعتبارات الاستراتيجية للدول ولواقع التوازن العالمي سواء ما بين تلك الدول أو بين المنظمات غير الحكومية وبين تلك الدول. فمنذُ انتهاء  الحرب الباردة وأحداث 11 أيلول نعيش في مغامرة جديدة تتميز بالغموض والجدلية بين الخطاب الكوني الذي يطمئن العالم لإمكانية إيجاد وتدعيم نظام عالمي يمنح ركائز قوية لإنسانية جديدة وبين واقع الهيمنة الذي يقلقنا ويجعلنا نرى في هذا التغير نوعاً من التبشيرية الجديدة للسيطرة تحت غطاء مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان. حيث كثيراً ما تتحول هذه المبررات كأداة لضغط الأقوياء على الضعفاء وهنا لا نتكلم عن دولة بعينها فمثلاً الحديث باسم الإنسانية قد يكون شكلاً من أشكال الهيمنة وهذا ما رأته بعض الدول من خلال التعليق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث النقاش ما زال حاداً ولم تبته بعد حيث مسألة الخصوصية من جهة ومسألة الهيمنة والاعتبارات السياسية مما جعل التركيز يتم على ملابسات الصياغة منذ العام 1993 وليس على مضمون القيم التي يحتويها.

الأزدواجية واضحة من خلال تتبع مبدأ العقوبات الدولية الذي يجب اعتبار هذا المبدأ كأداة لإنشاء نظام عالمي قائم على العدالة واحترام حقوق الإنسان ولكن الواقع يعبر عن عكس ذلك فخلال التسعينات كانت تلك العقوبات مستهدفة دولاً كلها من الجنوب, كالعراق، ليبيا، السودان، هايتي، أفغانستان، رواندا، سيراليون, وإيران أخيراً نتيجة برنامجها النووي .  وقد يكون من حقنا بل واجب علينا طرح التساؤل التالي:

 لماذا لم تفرض عقوبات على دول مثل الصين وروسيا وإسرائيل لخرقها حقوق الإنسان؟

في ظل واقع دولي حالي يعبر عن استمرار زيادة استعمال القوة من قبل أطراف أحادية وهذا الواقع العالمي الذي أصبح مألوفاً وتحديداً في أزدواجية المعايير وهو واقع ما نعيشه حالياً في منطقتنا خاصة فيما يتعلق بملف الأسلحة النووية فإسرائيل خارجة عن كل ما هو مألوف ومنطقي وعادل وبالمقابل إيران وحدها تمثل الخطر الداهم على العالم بأسره؟؟؟ 
هذه الحقائق والوقائع في ظل الظروف العالمية الحالية تجعلنا أن نصل إلى حقيقة مفادها أن الحديث عن مبادئ 1- عدم استخدام القوة والتهديد باستخدامها 2- المساواة بين الدول 3- مبدأ عدم التدخل جعلت من استاذ القانون الدولي جزءً من التاريخ؟



2010-04-11

مبدأ حرية التجارة والاتجاهات الحمائية







سلام الربضي

صحيفة العالم العراقية
11-4-2010
 http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=6275


يقول المؤرخ الاقتصادي بول بايروك: "القول إن السوق الحرة أو التجارة الحرة مهّدت السبيل للتنمية والتطوّر هو الخرافة الأكثر غرابة, في ميدان العلم الاقتصادي".

منذ نيل الولايات المتحدة الأميركية استقلالها عام 1790 ارتفعت أصوات تطالب بحماية الصناعة، وقد اعتبر آنذاك أن السياسة الحمائية ضرورية لتصبح الولايات المتحدة الأميركية دولة عظمى. والمستغرب أن العهد الريغاني، الذي أصبح شعاراً للتجارة الحرة والانفتاح تبيّن أنه تميّز بتقليص الواردات الأميركية من المنتجات الصناعية بما يقارب الخمس5\1 نتيجة الإجراءات الحمائية، وإدارة ريغان كانت متخصصة في تقليص التبادلات وإغلاق السوق إلى درجة وصل معها تقليص الواردات إلى 23%, ويعتبر العهد الريغاني من حيث ما تم تقديمه من سياسات حمائية،يفوق في قيمته مجموع ما قدمه أسلافه في مجال الإعانات والدعم. 

على الرغم من ارتفاع ونمو حجم الاستثمار الأجنبي المباشر واستمرار عمليات التحرير الاقتصادي بيد أن هناك تحولات ملحوظة في الاتجاة المعاكس نحو الاتجاهات الحمائية، حيث يشتد القلق إزاء عمليات الشراء الأجنبية ـ مع أن الشركات عبر الوطنية تميل إلى دخول الأسواق عن طريق عمليات الاندماج والشراء عبر الحدود, وهو ميل كبير جداً في قطاع الخدمات على وجه التحديد - المقترحة في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كالاحتجاجات الأمنية الأميركية على إدارة شركة موانئ دبي العالمية لإدارة بعض الموانئ في الولايات المتحدة، وكذلك الأمر في الاتحاد الأوروبي.

تتخذ الكثير من الإجراءات التنظيمية البارزة لحماية الاقتصادات من المنافسة الأجنبية أو لزيادة نفوذ الدولة في بعض الصناعات, فقرارات التأميم في اميركا اللاتينية تدخل في هذا الأطار ومن تلك الدول بوليفيا وفنزويلا حيث تم تأميم صناعة النفط والغاز وأيضاً كقيام الأرجنتين بتأميم قطاع المياه. والسياسة الاقتصادية الروسية في قطاع النفط والغاز لا تخرج عن هذا السياق.

أمام تلك التيارات الجارفة الحاملة عناوين حرية التجارة الدولية توجد سياسة حمائية واضحة ، مما يجعل هناك تضارباً في السياسات والمصالح ومما يلحق الضرر بمختلف الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، ويطرح علامات استفهام حول حرية التجارة الدولية. وهذه السياسة لها آثارها على الدول الغنية والفقيرة، لكن تأثيرها يكون وقعه أكثر على الدول الفقيرة حيث هامش التحرك أمامها ضئيل مقارنة بالدول الغنية خاصة في ما يتعلق بالصادرات الزراعية والمنسوجات القادمة من الدول الفقيرة. ومن خلال متابعة جولات منظمة التجارة العالمية نجد مدى الصعوبة المترتبة على ذلك الوضع.

وتقوم الدول الغنية بعدة طرق لحماية تلك القطاعات منها تقديم المساعدات كالولايات المتحدة التي تقدم مساعدات تصل إلى حوالى 560مليار دولار في السنة. ومن حيث المبدأ لا يؤثر من هم المستفيدون سواء  هم  من أصحاب الشركات العملاقة أو الأفراد أو المؤسسات الصغرى، إذ ان الموضوع بالمطلق يطرح تساؤلاً حول التناقض بين مبدأ حرية التجارة والسياسة الحمائية من طرف آخر؟

في  ما يتعلق بالمستفيدين من تلك السياسات فكثيرون يعتبرون أن الشركات هي المستفيدة، ومثال على ذلك ما يحدث في الولايات المتحدة مع أباطرة الفول السوداني في ولاية جورجيا أو بارونات الحبوب في حوض باريس, أو ما تقدمه الحكومة الأميركية لزراعة القطن التي تبلغ ما يفوق 4 مليارات دولار سنوياً وهو ما يزيد على قيمة مجمل الإنتاج الأميركي من القطن ويؤدي ذلك إلى خفض سعر القطن في السوق العالمي بحوالى25% وما ينتج عن ذلك من أضرار على الدول الفقيرة، ولقد نتجت عن هذه السياسة أضرار تفوق 300 مليون دولار أميركي جراء السياسة الحمائية المتبعة في الولايات المتحدة دعماً لزراعة القطن في دول مثل باكستان والهند ومصر, وهذه المنافسة ليست بين الدول الغنية والنامية، بل أيضاً بين الدول الصناعية فيما بينها، 

وهذا ما يحدث على مستوى قطاع الزراعة أو الصلب بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أو المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة وكل من اليابان والصين في ما يختص بعجز الميزان التجاري بين تلك الدول لمصلحة اليابان والصين. ولكن بالمجمل تبقى الدول النامية أكثر تضرراً من تلك السياسة الحمائية المتبعة من قبل البلدان الصناعية فيما بينها, مقارنة بما تفرضه من تعرفة على واردات الدول النامية التي تبلغ 4اضعاف, وتقوم تلك الدول بتقديم إعانات زراعية تصل إلى ملياري دولار يومياً، أي أن ذلك يتجاوز ما تنفقه الدول الصناعية على المساعدات الإنمائية الرسمية التي تقدمها إلى البلدان النامية 6 مرات.

من المفارقات أنه إذا كانت هذه السياسة مجحفة وغير عادلة، والشركات هي المستفيدة على حساب الدولة والمواطن، ولكن وفي المقابل أليست هذه السياسة نتيجة للاستراتيجية القومية للدول وهي تنتهجها لأسباب مختلفة وبمحض إرادتها، فمثلاً استثمارات الاتحاد الأوروبي لتشجيع البحث العلمي والتي تقدم بالمليارات كدعم للمؤسسات وخاصة الالكترونية منها، كا إقامة المركز الأوروبي العام للميكرالكترونيك في المانيا في مدينة درسدن وإقامة مشروع "جينو بوليس" مسافة 30 كلم تقريباً من باريس حيث تقع جامعة ايفري، حيث تتمركز عشرات المختبرات والشركات الخاصة والتابعة جزئياً للدولة لتصنيع البيوتكنولوجيات ومن بينها جنيوتون. إذ تعتبر هذه المشاريع رداً اوروبياً على التحدي الأميركي في مجال المعلوماتية, والسؤال هنا :

ألا يندرج هذا في خانة الحذر من مخاطر احتكار اليابان وأميركا لإنتاج المواد الأولية في عصر المعلومات؟

إذن هل يمكن اعتبار تبنّي هذه الخيارات ناتجاً وخاضعاً لاستراتيجية الدول أم أنه تعبير عن واقع سيطرة الشركات عبر الوطنية؟

إن التنافس الاستراتيجي السياسي الدولي من جهة وانعكاسه على المنافسة الاقتصادية الدولية من جهة أخرى وارتباطهما ببعضهما يطرحان إشكالية المعايير الموضوعية التي على أساسها ترجح كفة على أخرى.


2010-04-05

من منظور العلاقة بين الشركات عبر الوطنية وإطار الدولة القومية





سلام الربضي\ باحث ومؤلف في العلاقات الدولية

صحيفة الرأي الأردنية
05/04/2010

http://www.manbaralrai.com/?q=node/67222


اتسمت الأدبيات التي تناولت تجليات العولمة ومنها ظاهرة الشركات عبر الوطنية ببروز مناظرة ساخنة بين تيارين، التيار الليبرالي القديم والمتجدد من ناحية، والتيار الراديكالي من ناحية أخرى. وقد امتدت هذه المناظرة إلى الخلاف حول المصطلح الذي يجب أن يُطلق على تلك الشركات. وبطبيعة الحال فإن الخلاف حول المصطلح لم يكن نوعاً من المنازعات اللغِوية بل يكمن جوهره في تشخيص طبيعة الظاهرة ذاتها، إذ هناك من اعتبرها شركات متعددة الجنسية وهنالك من يعتبرها شركات ذات أعمال دولية أو شركات عبر الوطنية أو شركات عالمية.

الشركات عبر الوطنية هو المصطلح الذي تعتمدة الأمم المتحدة منذ إنشاء مركز الأمم المتحدة لشؤون الشركات عبر الوطنية "unctad". هذا على الرغم من أن التعريف الذي ينطلق خبراء الأمم المتحدة منه لا يزال عمومياً وغير محدد. وما بين القانون والاقتصاد والسياسة، وما بين أسبقية المجال الاقتصادي في تشخيص التفاعلات الاجتماعية وظواهرها أم أسبقية المجال السياسي في تشخيص الظواهر,يبقى السؤال:

هل هناك من رؤية واضحة في تشخيص تلك الظاهرة؟

إذا كانت تلك المناظرة معنية حقاً بتشخيص تلك الظاهرة فإن ما نحتاج اليه بالتحديد هو التحلي برؤية ديناميكية تنظر إلى تلك الظاهرة كمجال لعمليات تاريخية معقدة تعكس التظافر المتوتر بين المجالات الاقتصادية للتطور الرأسمالي المعاصر، والمجالات السياسة للعلاقات الدولية. والمعضلة الرئيسية تكمن في التناقض بين تطور الاقتصاد وتطور السياسة، فالاقتصاد يتجه نحو العالمية ولا يأبه بحدود السياسة والجغرافيا، أما التنظيم السياسي لا يزال وطنياً وقومياً، وتكمن المشكلة الأساسية في تلاقي عالمية الاقتصاد من ناحية وقومية السياسة من ناحية أخرى وهو التناقض الأساسي لظاهرة العولمة، حيث هناك سلطة اقتصادية عالمية لا يكاد يفلت منها مكان على المعمورة، ومسؤولية سياسية وطنية أو حتى محلية.

الثورة التكنولوجية أدت إلى تغيير كبير في وظائف ومهام الدولة وسلطتها من حيث هي سيدة المكان. وفي أي حديث عن العلاقة بين الدولة ورأس المال في عصرنا الحالي أو عن المعضلات التي تواجهها المجتمعات جراء هذة العلاقة لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا التمايز في قدرات الدول, بالإضافة إلى كون تطور الدولة ليس مكتملا بعد من ناحية التراكم التاريخي, بحيث يجوز التفكير في أوضاعها بالمفاهيم عينها التي تستعمل في الدراسات التي تتناول واقع الدولة في المجتمعات الحديثة, ولم تبلغ كثير من الدول بعد تلك الدرجة من التطور التي تجعلها موضعا للبحث من منظور مفاهيم الفكر السياسي الحديث, لأن هذة المفاهيم نفسها ما تبلورت ألا من حيث هي حصيلة لتطور الاجتماع السياسي في مجتمعات الغرب الحديثة, وانة ليس من العلمية ولا الموضوعية تعميمها على كل اجتماع سياسي بدعوة انها مفاهيم وقدرات علمية أو اجرائية.

عندما نتكلم عن الدولة نحن لسنا أمام مادة صماء أو موضوع طبيعي بحيث يكون انطباق النتائج على المادة أمراً مقرراً بل نحن أمام كائن أجتماعي هو الدولة ما زال تطورة في طور السيولة ولم يستقر بعد على حالة ثابتة ومتساوية. وعلى الرغم من عدم التناسب بين المفاهيم الحديثة وواقع الدولة ودرجة تطورها التاريخي، لكن ذلك لا يجب أن يقودنا إلى الاعتقاد باستحالة التفكير في واقع الدولة بمفاهيم الفكر الحديث أو الاعتقاد بالحاجة إلى اشتقاق مفاهيم خاصة ومناسبة نتيجة التباين في التكوين والتطور والإمكانيات. كما أن خصوصية ظاهرة ما في مجتمع ما أمر ممكن لا يقبل النكران بحجة كونية الظواهر الاجتماعية، وهذه الظاهرة يمكن إدراكها من خلال المفاهيم التي تسلّم بوجود المشترك العام بين الظواهر الاجتماعية على الرغم من الاختلافات في سياقات التكوين والتطور والإمكانيات.

لا مجال لتحصيل فائدة علمية من نزعتي الخصوصية والكونية المتطرفتين والمتنابذتين لأنهما أيديولوجيتان بامتياز، والتشديد في البحث عن الخصوصيات يحول دون الاستفادة والبحث في الديناميات والقوانين العامة الحاكمة للظاهرة الاجتماعية ـ الدولة والشركات في دراستنا ـ أيا كان فضاؤها الاجتماعي. وأن الأفراط في التشديد على اهدار الخصوصيات باسم الكونية والشمولية العالمية والعلمية ينسى حقيقتين متضافرتين: أنة لا كونية ألا ما تقرره الخصوصيات وتُقيم به الدليل على تلك الكونية، وانة لاعلمية في فهم ظواهر الاجتماع الإنساني أن نظر أليها وكأنها كظاهر الطبيعة صماء؟ 

في مقابل هاتين النزعتين المغاليتين لا مفر من نظرة جدلية للموضوع تسمح بقراءة واقع الدولة كما هي انطلاقا من اعتبار مفهوم السيادة مفهوم قانوني سياسي خال من أي محتوى. وعلى الرغم من التباين في التكوين والتفاوت في التطور والقدرات ألا أن التداخل بين أنماط الدولة والاشتراك بينها في السمات العامة الناجمة عن وحدة الوظيفة السياسية والاجتماعية التي تنهض بها الدولة في المجتمع، كائنة ما كانت درجة تطورها وكيفما تكون طبيعة تكوينها ومصادر ذلك التكوين، إذ في مجتمع ما تملك الدولة سلطة على الحيز الترابي والسكاني الذي يقع ضمن سيادتها أيا كانت طبيعة تلك السلطة وأيا كان مضمونها، كما أن في سلوك كل دولة قدرا من العنف يزيد وينقص تبعا لنمط السلطة القائم.

كثير من الآراء تحاول ايضاح أن الغلبة النهائية تبدو من نصيب الشركات العملاقة في مواجهة الدول ولكن هذه المسألة عليها بعض التحفظ لانها تحتمل مقاربات مختلفة. وهذا الرأي يتوقف على نشاط الشركات وسياساتها في المناورة على الساحة العالمية مقارنة مع نشاط الدول التي في بعض الاوقات قد تنصرف إلى شؤونها الداخلية للحفاظ على تكاملها الإقليمي وسيادتها في المقام الأول. بالإضافة إلى السعي لتراكم رأس المال عن طريق استراتيجية التجارة الحرة وهو ما يفتح الطريق لتزايد نفوذ الشركات عبر الوطنية. وعلى الرغم من الجوع والفقر ألا أن العالم النامي بوسعة أن ينهض ومستقبلة ليس مظلما بمقدار الصورة التي يحاول الكثير الترويج لها.

تاريخ الإنسانية قائم على الانقسام بين الأفراد والجماعات إلى أغنياء وفقراء، وهذا الانقسام هو قديم قدم المال، ففي كل عصر وفي كل مكان يوجد فقراء لا يملكون وعادة لا يعرفون وأغنياء يملكون وبعضهم يعرف أيضاً، فتعايش الفقر والثراء والتقدم والتخلّف والجهل والمعرفة جميعها تمثّل تاريخ الإنسانية، ولم يكن ذلك نقمة على الدوام، بل كثيراً ما كان حافزاً للتغيير وأحياناً للتقدم، كما كان في أحوال أخرى سبباً للحروب والدمار. ولكن في المجتمعات السابقة هذا التمايز والاختلاف بين المجتمعات كان محدوداً من ناحية القوة والثراء، وهذه المجتمعات كانت محدودة الاتصال فيما بينها وكانت متقاربة على مستوى أدوات الإنتاج، وجاء العصر الحديث فإذا بالفوارق بين الأغنياء والفقراء تصبح بالغة الخطورة حتى يمكن القول إنها تكاد تكون فروقاً في الطبيعة وليس في الدرجة.



كذلك فإن الإنسانية تواجه قضايا ومسائل متعددة، من البيئة، إلى الهجرة، التفجر السكاني، الارهاب، التنمية المستدامة، المأسسة السياسية للتمايزات الثقافية، التطلعات الإثنية...الخ والدول لا يمكنها منفردة الرد على هذه التحديات، ولكن أيضاً لا يمكن لأي إرادة دولية جماعية أن ترقى إلى المستوى المطلوب معالجته من دون الاعتماد على مؤسسة الدولة.



For communication and cooperation

يمكن التواصل والتعاون مع الباحث والمؤلف سلام الربضي عبر الايميل
jordani_alrabadi@hotmail.com